عبدالله المغلوث
حضرتُ الشهر الماضي معرضا لرسامين صغار في مانشستر ببريطانيا. لا تتجاوز أعمارهم 12 عاما. يقف كل فنان أمام لوحاته السبعة. يحاور الفنان الصغير الزوار ويحاول إغراءهم لشراء اللوحات. سعر اللوحة الواحدة ثابت وهو 5 جنيهات إسترلينية. الفنان الذي يبيع جميع لوحاته يفوز برحلة مع زملائه إلى مدينة (ديزني لاند) الترفيهية في فرنسا.
استهللتُ جولتي بزيارة إلى ركن الفنان الصغير لوكاس (11 عاما). رفض لوكاس أن أغادر معرضه دون أقتني لوحة (الجدّة) التي ظللت أتأملها طويلا. أخبرته أنني لن أشتريها قبل أن أطلع على المعرض بأكمله فربما تعجبني لوحة أفضل من التي رسمها. لكنه حذرني من إرجاء اقتنائها، قائلا: “أشعر أنك ستندم. العام الماضي بعت لوحاتي بعد افتتاح المعرض بـ 20 دقيقة فقط”. ابتسمت وأخرجت الخمس الجنيهات من جيبي وأعطيتها إياه. أخرج الوصل من جيب سترته العلوي وشكرني على شراء لوحته ثم طلب أن يلتقط صورة معي. وعندما سألته عن السبب أجابني الصغير مازحا: “حتى أعرف من تبنى أطفالي”. انتقلت إلى ركن آخر وابتسامة عريضة تعلو محياي رغم أن لوكاس سرقني برضاي. استقبلتني في الركن الجديد الطفلة لانا (10 سنوات).
حدثتني عن أسماء الزهور التي رسمتها في لوحاتها. أين تسكن وكم تعيش وسبب تسميتها. قبل أن أغادر سألتني الفنانة الصغيرة أن أقترب من اللوحات. أن أقترب أكثر؛ لأشتم عبيرها. استنشقتها بسعادة ثم شكرتها على الرائحة الزكية والفكرة الذكية. فردت عليّ بابستامة تشبه ابتسامة الزهور عندما تتفتح، قائلة: “والدي اقترح أن أعطر لوحاتي بعطورات مستخلصة من أنواع الزهور التي رسمتها. راقت لي الفكرة ثم قمت بتجربتها هنا”. بجوار الفنانة لانا كان ينتظرني كريستوفر (9 سنوات) المتخصص في رسم قمصان فريق (مانشستر يونايتد). ابتكر كريستوفر قمصانا جديدة. مزج القميص التقليدي بشخصيات كارتونية يفضلها فصنع قمصانا لفتت الانتباه. فالزائر لركن كريستوفر لن يجد لوحات فحسب بل شاشة تعرض تقريرا مصورا قصيرا صنعته قناة سكاي عن مشروع كريستوفر. ويتخلل التقرير تصريح لمسؤول في النادي الإنجليزي يشير فيه إلى رغبة النادي في استثمار فكرة كريستوفر تجاريا بعد شراء حقوقها.
لقد أدهشتني الأفكار الكثيرة والمميزة التي قام بها أطفال صغار سيكون لهم شأن كبير عندما يصبحون كبارا. سحرتني قدرتهم على التسويق، والعرض، والحديث والتفاوض، والارتجال في هذه السن المبكرة. قدرة أشك أنها تتوافر في الكثير من طلاب جامعاتنا العربية الذين لم تفتح أمامهم الأبواب إلا لماما. ولم يجد الكثير منهم من يشجعهم على المشاركة أو حتى المحاولة.
إن أول كلمة نتعلمها في مدارسنا (أص). فنخرج من الجامعة ونحن لم ننبس ببنت شفة. بعض أمثالنا العربية أخرستنا، تقول:”العاقل من عقل لسانه”، و”الصمت من ذهب”، و”من يصمت يسلم” حتى نسينا كيف نتكلم. إن من لا يتكلم سيتألم. لم يهبنا الله عز وجل ألسنتنا لندخرها ونحتفظ بها، بل لنتحدث ونتكلم بها.
عندما نشجع الأطفال على الكلام سنشجعهم على التجربة والخيال والابتكار. ما لا نتعلمه صغارا، لن نتقنه كبارا. الكلام ليس بالضرورة بالألسنة فقط بل بالأصابع كذلك.
في بريطانيا يقضي الأطفال بين 3-8 سنوات 31 دقيقة يوميا يرسمون ويلونون، ونحو 27 دقيقة يشرحون رسوماتهم. جميل أن نتيح لأطفالنا أن يرسموا ويلونوا. لكن الأجمل أن ندعهم يعبرون لنا عن لوحاتهم. هذه المبادرات ستغذي عقولهم وخيالهم. لو جرب أحدنا أن يسأل ابنه أو ابنته، أخته الصغيرة أو أخاه الصغير: ما معنى رسمتك؟ سيفاجأ بشرح طويل مملوء بالخيال والموهبة والدهشة. سيقدمون عروضا أزكى وأشهى مما قدمه لوكاس ولانا وكريستوفر. لكن للأسف دفنا خيالنا وخيال أطفالنا بعدم الإصغاء إليه وتحفيزه. إن الخيال بذرة أي فكرة. هناك من يروي خيالا وهناك من يئده. المجتمعات الناهضة هي التي تنهض بالفكرة كما يفعل المزارع بالبذرة. يسقيها حتى ترتفع عاليا.
789 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع