علاء الدين الأعرجي
محام/مفكر وباحث متخصص في ازمة التخلف الحضاري العربي
تجذير إشكالياتنا وخلافتنا القائمة:نحن ما نزال ضحايا الصراعات العشائرية القديمة
نحن غالبأ لا نُعيرُ اهتماماً كافياً للأسباب الجذرية التي تؤدي إلى المشكلة الاجتماعية، لذلك نفشل في معالجتها.
فالخلافات والصراعات القائمة اليوم والتي أدت إلى حروب أهلية جارية أو متوقعة (العراق، سورية، اليمن، السودان، ليبيا، الصومال، لبنان) قد تعود أسبابها على الارجح، إلى عصور قديمة سادت خلالها القيم العشائرية البدوية.
هذه الخلافات يصفق لها الآخر(إسرائيل أمريكا) بل يغذيها بسخاء وذكاء، مادياً ومعنوياً، فيدفع إلى تقسيم المقسم وتفتيت المنطقة تمهيداً لسيطرته الكاملة على دويلاتها القميئة والمنهكة.
صراعُ الحضارةِ والبداوةِ قبل الإسلام وبعده
مع ظهورِ الإسلام وانتصارِه، حدثَتْ ثورةٌ حقيقيَّةٌ حاولَتْ تغييرَ معظمِ الأعرافِ والتقاليدِ والقِيَمِ والمبادئ، وأهمها العصبية، وبالتالي تغييرَ العقل المجتمعيِّ الذي كان سائدًا في العصر الجاهليّ. بَيدَ أنَّ كثيرًا من تلك القِيَمِ البدويَّة أو الجاهليَّة ظلَّ ثابتاً في ذلك العقل، إمَّا ظاهرًا بوضوح، أو كامنًا يظهرُ بين الفَينةِ والفَينة. وقد يظلُّ بعضُ القِيمِ مسيطِرًا أحيانًا، بشكلٍ أو آخر، على الاتِّجاه العامِّ للمجتمع، من خلال سلطةِ العقلِ المُجتمعيّ. فقد تجلَّتِ القِيَمُ العشائريَّة، مثلاً، من خلالِ ظاهرةِ الصراعِ على السلطة، أو في حالاتِ تفعيلِ الانتماءِ العشائريِّ أو التعصُّب القَبَليّ، التي حَرَّمَها الإسلام: )إذ جعلَ الذين كفروا في قلوبِهم الحميَّة حميَّةَ الجاهليَّة فأنزلَ الله سكينتَه على رسولِه وعلى المؤمنين وألزمَهم كلمة التقوى( (سورة الفتح، 26)؛ وفي الحديث الشريف "ليس منَّا مَن دَعا إلى عصبيَّةٍ أو قاتلَ عصبيَّةً"، و قال الرسول (ص) في خُطبة الوداع: "إن الله أذهبَ عنكم نخوةَ الجاهليَّة وفخرَها بالآباء، كلُّكم لآدمَ وآدمَ من تراب، ليس لعربيٍّ على عَجميٍّ فضلٌ إلا بالتقوى."
ولكنَّ العقلَ المجتمعيَّ كان أقوى من التشريع ومن التعاليمِ الدينيَّة، كما هو شأنِه في المجتمعاتِ الأخرى. يقولُ المؤرخ/ المفكر أحمد أمين: "إلى أيِّ حدٍّ تأثَّر العربُ بالإسلام؟ وهل امَّحَت تعاليمُ الجاهليَّة ونزعاتُ الجاهليَّة بمُجَرَّدِ دُخولِهم في الإسلام؟ الحقّ أن ليس كذلك، وتاريخُ الأديانِ والآراءِ يأبى ذلك كلَّ الإباء ..." {أحمد أمين: "فجر الإسلام" (بيروت : دار الكتاب العربيّ، ط 11، 1975)، ص 78}
فقد ظلَّتِ العصبيَّةُ القبَليَّةُ سائدة، إذ يؤكد صاحبُ "فجر الإسلام": "ولمَّا وُلِّيَ الأُمويُّون الخلافة، عادتِ العصبيَّةُ إلى حالِها كما كانت في الجاهليَّة، وكان بينهم وبين بني هاشم في الإسلام كالذي كان بينهم في الجاهليَّة... وعاد النـزاعُ في الإسلام بين القَحطانيَّة والعدنانيَّة، فكان في كلِّ قُطرٍ عداءٌ وحروبٌ بين النَّوعين." ويُسهبُ المؤَلِّفُ في ذِكرِ الحروب التي قامَت بين الأزْد وتَميم، و بين كَلب وقَيس (يمنيّين وعدنانيّين) وغيرهم بعد الإسلام (أحمد أمين: المرجع السابق ، ص 79 و80). وهنا يَظهر الصراعُ بين عقلٍ مجتمعيٍّ تقليديٍّ قديم وعقلٍ مجتمعيٍّ تقدُّميٍّ أكثرَ حداثة. فقد جاء الإسلامُ بنظامٍ متكاملٍ و بمبادئَ جديدة، ورسمَ للحياة مُـثلاً عُليا ووسائلَ خاصَّةً لتحقيقها تختلفُ عن تلك التي كانت معروفةً في العصر الجاهليّ؛ في حين كان العقلُ المجتمعيُّ العربيُّ مشحونًا بالتراثِ القديم، ومعظمُه يحفلُ بالقِيَمِ العشائرية (بداوة) المتجذِّرة.
ويجب أن نلاحظ أن هذه القيَم لا تزول بمجرد أن تستقر الجماعة البدوية في الأرض، وتسكن المدن كما حصل بعد الفتوح الإسلامية، حين هاجر معظم سكان البادية العربية إلى البلدان المفتوحة، بل تظل قابعة في العقل المجتمعي، إلى فترة طويلة، كما ذكر المؤرخ أحمد أمين. بل أنها ماتزال مسيطرة في كثير من الحالات في مجتمعنا العربي القائم كما يرى عالِم الاجتماع علي الوردي.
وينبغي أن نلاحظ بعمق، أن معظم الخلافات والصراعات الجارية اليوم في الوطن العربي، تعود في أصولها الجذرية، إلى صراعات قديمة كانت قائمة قبل الأسلام، واستمرت بعده، بما فيها مشكلة النزاع بين السنة والشيعة.
(للتوسع أنظر: كتابات الأعرجي، من أهمها"أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل"ط 4، مكتبة عدنان، شارع المتنبي، بغداد؛ و "الأمة العربية بين الثورة والانقراض، دار نيبور، ديوانية ، بغداد، شارع المتنبي)
837 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع