د. محمد عياش الكبيسي
عادت المدارس والجامعات والمعاهد العلمية لتفتح أبوابها لاستقبال طلابها في دورة لا تتوقف منذ أن شقّت الحركة العلمية الحديثة طريقها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية،
ولهذه الحركة الفضل في القضاء على حالة الأميّة التي كانت تعاني منها هذه المجتمعات بعد مرحلة من مراحل التخلف والانتكاسة الحضارية التي ما زلنا نعيش آثارها وتداعياتها، فلهذه الحركة الفضل الأكيد في نشر العلم وسدّ حاجات المجتمع في مختلف الوظائف والاختصاصات، وتكفي مقارنة سريعة في حال الخدمات الطبيّة بين الأمس واليوم لندرك حجم الطفرة التي تحققت في هذا المجال كنموذج للنجاح الذي نطمح لترسيخه وتطويره.
إن هناك من يحاول أن يبخس هذا الفضل ويتغافل عن هذا الذي تحقق، إمّا تحيّزا للتجربة (الأصيلة) في مقابل التجربة (الدخيلة) وإمّا لأغراض سياسية كجزء من حالة الرفض العام لسلوك الأنظمة الحاكمة والاحتجاج على سياساتها الداخليّة والخارجيّة. وفي مقابل هؤلاء من يحاول أن يبخس التراث التربوي الأصيل ويحكم عليه من خلال المرحلة الأسوأ وما ترتّب عليها من انهيار واضح أمام التفوّق الغربي الذي غزانا بمنظومة معرفيّة هائلة صعدت إلى عنان الفضاء، كما غاصت في أعماق المحيطات والبحار، ولم يُتح لهؤلاء وهم في غمرة الانبهار أن يقفوا الموقف الموضوعي المنصف، وقراءة المشهد بطريقة موسوعية وشاملة تستوعب حركة التاريخ ومراحل التنقّل المعرفي وتراكم الخبرات الإنسانيّة التي أثمرت في النهاية هذه الثورة العلمية الكبيرة والتي تزامنت مع سطوع شمس الحضارة الغربية فكانوا الأقدر على استثمار كل ذلك التراكم الحضاري.
إننا هنا لسنا بصدد المحاكمة ولا المقارنة، لكننا نعتقد أننا كنا نمتلك تجربة رائدة تشهد لها مخرجاتها على مدى الألف سنة أو يزيد، والتي ضمنت لنا التفوّق على كل أمم الأرض وفي كل مجالات الحياة، وهذه التجربة فيها من عوامل النجاح ما لا ينكره منصف، فما الذي يحول بيننا اليوم وبين النظر في تلك التجربة لاستخلاص ما يمكن أن يسدّ بعض النقص ويعالج بعض الخلل في تجربتنا الحالية؟
لقد اعتمدنا (التعليم الموجّه) بإشراف ورعاية كاملة من قبل الدولة، فالدولة تضع السياسات التعليمية وتضع البرامج والمناهج وتعيّن المعلّمين وتقبل الطلاب وتتدخّل في كل صغيرة وكبيرة، فنشأ عندنا تعليم مفصّل على مقاس الحاكم وطموحاته واحتياجاته، وقد أدّى هذا إلى تقسيم المعرفة وتنافرها تبعا لحالة التقسيم السياسي والجغرافي التي تعاني منها الأمّة، فلكل دولة معرفتها وثقافتها كما لكل دولة نظامها وسياساتها، وانقسام العقول أشدّ وأثبت من انقسام الحدود، أما داخل الدولة الواحدة فهناك تناقضات وتشوّهات كثيرة، فالمجتمع متناقض في داخله، فالطفل يتلقّى من أسرته ثقافة معيّنة فإذا ذهب إلى المدرسة تلقّى ثقافة ثانية فإذا دخل المسجد تلقّى ثقافة ثالثة، وبقدر ما بين هذه الثقافات من تناقض أو تضادّ تتولّد حالة من الازدواجيّة أو ضعف الثقة بكل هذه المصادر. وبالتالي تشكيل حالة من الفراغ الثقافي الذي قد يملأ بكلّ داخل ووارد، وأما في حالة تغيّر النظام الحاكم كما حصل في العراق فإننا أمام مشكلة كبيرة وخطيرة، فحاجات المجتمع غير حاجات النظام، وبالتالي فإن مخرجات التعليم الموجّه من قبل النظام ستكون عاجزة عن تلبية حاجات المجتمع، ولذا نجد القصور الحاد في مجال صناعة (التعددية السياسية) و(الإعلام الحر) وحتى في قطاع (الخدمات الإنسانية) قياسا بما حققه العلماء العراقيون في مجال (التصنيع العسكري) مثلا.
في الأردن استطاع التعليم أن يتحرّر بعض الشيء من قبضة السلطة، وتمكّن الأردنيون من قطع أشواط مشجعة في تجربة (التعليم الأهلي)، وهي تجربة حقّقت للأردنيين تقدما وتفوقا لا بأس به، إلا أن التعليم الأهلي في حقيقته هو تعليم (شركات استثماريّة)، وهذا يعني أنّ التعليم الذي حقّق انعتاقا من قبضة السلطة قد وقع في قبضة (رأس المال) وحسابات الربح والخسارة، وهذه الحسابات قد تتفق وقد تختلف مع هويّة الأمة وثقافتها، وقد تستجيب لحاجات المجتمع وطموحاته وقد لا تستجيب.
في تراثنا الإسلامي ابتدأ التعليم بصيغة (التعلّم الذاتي)، حيث تشكّلت الرغبة الذاتية في التعلّم من خلال منظومة القيم الإسلامية التي أعلت من شأن العلم والعلماء حتى رفعتهم إلى مقام (الإرث النبوي)، فالعلماء ورثة الأنبياء، وهذه القيمة وحدها كفيلة بدفع الناس لحلقات العلم المتنوعة والتي كانت تتزامن مع حالة الفتوحات لتكميل عملية الفتح ورفد المجتمعات الجديدة بكل ما تحتاجه في مجال المعرفة، ولتعويضها عن حالة الفراغ التي ولّدها غياب الأنظمة السابقة كما في مصر والشام والعراق، ومع أن الطابع العام لهذا التعليم هو الطابع الديني إلا أنّ هناك شواهد كثيرة على ظهور فصول أخرى تتعلّق بالطب والصناعة وضرب النقود وإدارة الدواوين ومعرفة الخرائط وخطوط التنقل البري والبحري، ونحو ذلك.
هذا التعليم كان الأقل كلفة والأكثر إنتاجا، وغالب الأسماء اللامعة في تراثنا العلمي هم من مخرجات هذا التعليم كالبخاري ومسلم وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.
بعد ذلك خطا هذا التعليم خطواته الواسعة في مجال تكوين المؤسّسات الكبيرة، فكانت المستنصرية والنظامية والزيتونة والأزهر وغيرها من المدارس العريقة في مصر والشام والعراق واليمن والمغرب والأندلس وسمرقند وبخارى، وهذه المدارس في الأغلب لم تكن خاضعة لسياسات (الأنظمة) ولا لسياسات (التجّار).
لقد كان (التعليم الوقفي) تجربة رائدة وكبيرة في تراثنا العربي والإسلامي، وقد ضمن هذا التعليم الاستقلاليّة والانعتاق المريح من هيمنة ذوي النفوذ السياسي والمالي، فالواقف مهما كان منصبه وجاهه لا يملك أبداً حقّ التصرّف في وقفه، لأنّ الوقف قد خرج عن ملكه تماما، وأصبح ملكا للمجتمع، ولأن الوقف يتسم بصفة الديمومة فهو لا يباع ولا يشترى ولا يوهب ولا يورث فإن الواقف يحرص على ألا يضمّن في شروطه ما يمنع احتضان المجتمع ورعايته لهذا الوقف.
إن التعليم المعاصر بحاجة أن ينظر بجد في هاتين المسألتين؛ مسألة صناعة الدافعيّة الذاتية للتعلم، ومسألة استقلالية التعليم وتحرّره من قبضة السلطتين السياسيّة والتجاريّة، وفي تجربتنا التربوية الأصيلة أجوبة عملية ومفيدة لهاتين المسألتين، وهذه ليست دعوة لاستنساخ التجربة بقدر ما هي دعوة للانتقاء والتطوير والتكميل، ومن المفارقات أن تكون الجامعات الغربية العملاقة قد استفادت من تجربة (التعليم الوقفي) أكثر بكثير من جامعاتنا العربيّة والإسلاميّة.
900 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع