طارق الهاشمي*
تهدئة النفوس، تخفيف الاحتقان، زرع الثقة ... تمهيداً للانطلاق الى الصفحة اللاحقة وتعنى بإصلاحات راديكالية تمس مختلف جوانب الحياة وتعمل فيها تحسيناً وتغييراً، هي الوصفة الناجعة التي يحتاجها الآن شعب العراق.
اما مجرد الوعود، اما اخضاع المشهد السياسي لإصلاحات تجميلية، غايتها لا تتجاوز ادارة الازمة فضلاً عن معالجة آثارها واقتلاع مسبباتها... فهي مقاربة اقل ما يقال فيها انها قاصرة ولا تتناسب مع طبيعة المرحلة ولا في خطورتها.
البيان الوزاري الذي قدمه رئيس الوزراء المكلف حيدر العبادي كان من هذا النمط، ولا شك في أنه أصاب اكثر المتفائلين بقدومه بالإحباط وخيبة الامل.
في تصوري من بين الكثير من التحديات فإن رئيس الوزراء الجديد يواجه ستة تحديات خطيرة: 1- مجتمع سني ثائر يطالب بالإنصاف والعدل، وأهله ضحايا سياسات طائفية. 2- فساد مستشرٍ وتخلف اداري يهدد كيان الدولة بالانقراض. 3- تقاطع في المصالح بين الإقليم والمركز. 4- نفوذ غير مسبوق لايران ينتقص من السيادة ويهدد الامن والاستقرار. 5- انحراف خطير عن بناء الدولة المدنية لصالح الدولة الدينية المذهبية الاقصائية. 6- تنامي ظاهرة التطرف والعنف في جانبيه الشيعي والسني.
كان على رئيس الوزراء العبادي الإشارة في بيانه الوزاري بحزم ووضوح انه قادم للتغيير، وأن يبرهن امتلاكه نوايا صادقة يترجمها برؤية واضحة للتغيير تعززها ارادة حديدية يترجمها بقرارات صعبة لن تتأثر بالضغوط الأيدلوجية الطائفية لحزب الدعوة او بكبيرهم الذي علّمهم السحر، نوري المالكي، أو تخضع لمناورات ايران الراغبة في إدامة الازمة بأي ثمن.
أما كيف؟ فقد كان على العبادي ان يتبرأ من تراكمات سياسة سلفه الكارثية في مختلف المجالات وعلى وجه الخصوص الخروقات الهائلة في ملف حقوق الانسان، ومن فساد حكومته المستشري ومن التناقضات بين الإقليم والمركز وذلك بالإدانة الواضحة والبراءة من هذه السياسات وهو ما لم يحصل. وعندما يسكت العبادي عن جميع مساوئ سلفه فانه بذلك يقيم الحجة على نفسه بالموافقة والقبول.
من جانب آخر، بينما فشل نوري المالكي في التعاطي الموضوعي مع ثورة المظلومين من العرب السنة وانحاز لخيار استــخدام القوة الذي ثبت بعد ثمانية أشهر انه سلاح مكلف وعقيم بل كارثي من زاوية قتل المزيد من شباب الشيعة والسنة من جهة ودفع المزيد من العرب السنة الى الكفر بالعملية السياسية السلمية والاعتدال واللجوء مضطرين للتعصب والعنف، لم يبادر حيدر العبادي حتى الآن في ايقاف تصعيد القصف الجوي على المدنيين وعلى البنى التحتية، كما لم يعمل على الحد من ارهاب الميليشيات الشيعية وهي تعبث بأمن واستقرار المحافظات السنية وتجبر الأهالي من كل حدب وصوب على النزوح والهجرة... وهي مؤشرات سيئة للغاية وانطلاقة غير موفقة.
لقد انتظرت 24 ساعة بعد ان تولى العبادي مقاليد منصبه رسمياً قبل كتابة هذا المقال ولم ألمس تغييراً ملحوظاً في سياق العمليات العسكرية الجارية على الارض في المحافظات الست المنتفضة، بل ربما لاحظت تشديد العدوان على مناطق في محافظة صلاح الدين وهو ما يؤكد مخاوفي بأن الخلف ماضٍ على نهج السلف حذو الخطأ بالخطأ... بمعنى ان الذي يحكم فعلاً هو حزب الدعوة لا غير وهنا تسكب العبرات ... مع ذلك آمل ان تكون مخاوفي في غير محلها. ولا اريد ان استبق الأحداث.
لا انتظر معجزة، ولا أرى في يده عصا موسى، واعلم ان المهمة صعبة ومعقدة ولا بد ان نصبر والعبادي يبشر العراقيين بنهج جديد ... اذاً ما المانع ان يتحرك العبادي ويبني على الخطوة الناجحة المتمثلة في ازاحة نوري المالكي خطوات اخرى حتى لو استدعت قرارات صعبة، ما المانع وبسبب خصوصية كل ملف ان نفكك الازمة الى ملفات ونعالج كل ملف على حدة أملاً في جمع العراقيين لاحقاً بعد ان عولجت قضاياهم الخاصة في مؤتمر طاولة مستديرة يجتمع فيها المشارك والمعارض للعملية السياسية لبلورة رؤية مشتركة حول مستقبل بلدهم، شكل الدولة وطريقة ادارة الحكم والعلاقات مع دول الجوار.
ولأن التحدي الأمني هو الأخطر اذاً لا بد ان يحظى بالأسبقية، وفي هذا الإطار ما المانع ان يطلق حيدر العبادي مبادرة شجاعة يبادر هو فيها اولاً بإطلاق رسائل مشجعة تدعو إلى الاطمئنان وزرع الثقة مع العرب السنة ربما يشرع فيها تدريجياً بالاستجابة الى المطالب المشروعة الأربعة عشر للحراك الشعبي كبادرة حسن نية، بعدها يأمر بايقاف العدوان العسكري على المحافظات المنتفظة ويسحب القطعات من خطوط التماس، ويدعو لعودة المهجرين... ثم يدعو الى لقاءات ثنائية مباشرة للحوار مع الفصائل المسلحة والعشائر الثائرة في الميدان (باستثناء تنظيم «الدولة الاسلامية» بالطبع)، للاستماع الى مطالبها والإتفاق معها على أفضل الحلول الممكنة لتطبيع الاوضاع في محافظاتهم تمهيداً لإطلاق حملة الإعمار على عجل... انا على ثقة انه سينجح، والجهود، كل الجهود، ينبغي ان تنصرف لإيقاف مسلسل اقتتال العراقيين بعضهم مع بعض، غاية نبيلة تستحق ان نكرس لها كل الجهود والطاقات.
هذه الخطوة لا شك ستكون لها إيجابياتها وانعكاساتها الاستراتيجية اللاحقة في تطويق العنف والتعصب وعزله في مناطق العراق المختلفة. وهي خطوة لا مفر منها ومن دونها لا امل في النجاح.
ولا شك ان العبء الذي تواجهه حكومة حيدر العبادي اكبر من ان تتحمله وحدها، ولهذا من غير الممكن ان يطلب منها إنجاز المستحيل، ولو نجحت فقط في تطبيع الاوضاع او ايقاف عجلة التدهور وإصلاح جسور الثقة المهدمة لكان إنجازها تاريخيا من شأنه ان يفتح الطريق امام حل المعضلة العراقية المتشابكة والمعقدة والتي في تصوري لا امل في تحقيقها غير الطاولة المستديرة يلتقي حولها ممثلو الكيانات الاجتماعية تحت رعاية دولية.
قد يوافق العبادي على هذه الرؤية وقد يستبعدها، واعلم ان الخيار ليس سهلا اذ هو ليس ببساطة بين مجرد قبول فكرة او رفضها، بل هو خيار بين السلام والعنف، بين الاستقرار والفوضى. فأيهما يا ترى سيختار؟
* نائب الرئيس العراقي المستقيل
1057 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع