د. نسرين مراد
يُشكّل العراق ديمغرافيةً فريدةً من نوعها يسيل لها لعاب الطامعين؛ من الداخل والجوار القريب والبعيد، والدول الكبرى. الثروات العراقية الطبيعية والبشرية والموقع الاستراتيجي، شكّلت في التاريخ قوةً طبيعيةً يُحسب لها حساب في دوائر صنع القرار السياسي الدولي الاستراتيجي.
العراق اليوم غارق في مستنقع الفوضى والفتن والتدهور العام المتواصل. في كل هذا وغيره، يلعب رجال الأديان والمذاهب والأعراق والسياسة بشكل سلبي واضح.
زمرة من المتاجرين بهذا البعد أو ذاك، يغرفون من حساب الطبقات المغلوبة على أمرها من الشعب العراقي المنكوب. لا يوجد مكان في العراق لم يـتأثر سلباً بما يجري. المدن والقرى ومضارب البادية العراقية تعاني جرّاء شبه انعدام الأمن في كافة المناطق.
غاب القانون والنظام، ومعهما المنطق والإنسانية والأسلوب الحضاري في التعامل بين أبناء الشعب الواحد. سيطر الإرهاب والتطرف والتشدد على مجريات الأمور، بشكل بات الحسم العسكري سيد السيناريوهات في الذهنية العامة. كل طرف يريد أن يكسر شوكة الأطراف الأخرى بالحسم العسكري السريع.
منذ البداية كان هنالك خلل جسيم في الدستور القائم على المحاصصة الطائفية، تلاه خلل في تطبيق القانون الذي ينضح طائفيةً وفكراً متشدداً وانفصاماً عاماً. انتشر وباء الطائفية واستشرى.
أصبحت كل طائفة في العراق شبه كيان مستقل؛ له أتباع وأنصار ومصادر تمويل، وغذاء نفسي ومعنوي وروحي. والفئات المتصارعة تتلقى العون من الداخل والجوار والخارج، لإبقائها في حال الحرب حتى آخر نفَس.
باتت لكل طائفة مجموعة من المنظّرين، لا ينفكون يصدرون فتاوى دينيةً ومذهبيةً وسياسيةً، لا تقبل أقل من تلقين الأطراف الأخرى دروساً في البأس والإخلاص للطائفة والتفاني في التضحية لشأنها! العراق اليوم مقسّم، ليس فقط على أسس طائفية مذهبية عرقية ودينية وسياسية واسعة. الفرد والأسرة والعشيرة العراقية منقسمة على حالها. انتشر الفقر والانفصام في الشخصية العراقية ليصل مستويات قياسيةً.
للعودة بالأوضاع إلى الطبيعية، يحتاج العراق عشرات إن لم يكن مئات السنين؛ هذا إذا وضعت الحرب الأهلية أوزارها، بقدرة قادر أو ضربة حظ! في ذلك المضمون بات على الشعب العراقي أن يتخلص من طبقة سياسية تتخذ صفات معجون نحس، يجمع بين الطائفية الضيقة والتخلف الفكري والفشل الإداري والعقم الأيديولوجي.
لن تستطيع الدول الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، الإتيان بعصا سحرية تلقف ما أفرزته الإدارات العراقية الطائفية المتعاقبة. كيف سيتم لها ذلك والذاكرة والعقل الباطني العراقيان يعجّان بأحداث مرعبة للنفس البشرية؟! هذه تتمثل بفقد جزء من الذات والأهل والأقارب والبيوت والأوطان، ومستقبل الأجيال.
من المسؤول بالدرجة الأولى عن الخطأ الاستراتيجي المتمثل بغزو العراق والقضاء على مكونات ومرافق ومؤسسات الدولة العراقية؟ من القادر على تطبيق العدالة في عدد من الطائفيين الذين يعدون بالآلاف؟ ورغم فداحة الواقع وزيادة نحس التوقعات في العراق، إلا أن باب التفاؤل يظل مفتوحاً؛ أو هكذا يجب أن يكون.
على كافة قيادات وأركان وشخوص وأشخاص العراق المعنيين، أن يعودوا إلى الرشد والتفكير الواقعي العقلاني الإيجابي السليم. عليهم أن يقفزوا فوق ما أفرزه الواقع الأليم؛ الذي توقّعه الكثير من المفكرين قبل وأثناء وبُعيد الاجتياح الأمريكو-بريطاني للعراق
. آنذاك لم يحسب القائمون على فكر التغيير والديمقراطية المستوردة الحساب الكافي. حساب يأخذ بعين الاعتبار الواقع العراقي والمعادلات والمتغيرات والطموحات والأطماع الدولية. لعل ذلك يكون عبرةً للذين يعتبرون، وربما الذين لا يعتبرون!
1187 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع