عدنان حسين
ربما كان الدكتور كامل جاسم المراياتي أبرز الأكاديميين العراقيين المتخصصين في مجال العلوم الاجتماعية بعد الدكتور علي الوردي. لكنّ هذه ليست الميزة الوحيدة التي تحلّى بها هذا العالم الذي رحل عنا للتو، فقد تمّيز أيضاً، كما كل أصحاب الرؤوس المليانة، بتواضعه الجمّ.
الدكتور المراياتي توفي السبت الماضي اثر مرض ألمّ به ولم يمهله طويلاً.. هذا أمر محزن بالطبع، لكن المفجع ان عالم الاجتماع رحل في زمن يندر فيه وجود من يقدّر العلماء والأدباء وعموم المثقفين حقّ قدرهم، ولابدّ انه مات وفي نفسه حسرة وفي جوفه حرقة.
ظهر الثلاثاء الماضي كانت آخر مرة التقي فيها الدكتور المراياتي .. كان ذلك عند بوابة الخروج رقم 8 في مطار رفيق الحريري بالعاصمة اللبنانية بيروت .. كنا، هو وانا، بين ركاب الرحلة 322 لشركة طيران الشرق الأوسط المتوجهة الى بغداد.. كان هو عائداً من زيارة استشفاء في بيروت في ما يبدو.. كان الوهن والتعب باديين عليه على نحو واضح.
في مطار بغداد حدث مع الدكتور المراياتي ما لا يتمناه أحد حتى لعدوه.. بعدما تناولنا حقائبنا توجهنا الى مكتب سيارات الأجرة التابع للمطار حيث تجمع عدد من الركاب يستمعون الى اكاذيب موظفي المكتب الزاعمين بعدم توفر سيارات صغيرة. كانوا يقترحون علينا الذهاب الى ساحة عباس بن فرناس بسيارات الأفراد (النفرات) ثم استئجار سيارات تاكسي من هناك.
كل منا كان له سببه في طلب السيارة الخاصة. وسبب الدكتور المراياتي هو الأقوى، فالرجل كان مريضا، ولم تخف علامات التعب والوهن عليه، فقد اضطر الى التنحي جانبا والجلوس على دكة للاستراحة، فيما حاول أحد معارفه وانا اقناع موظفي المكتب بتدبير سيارة للعالم المريض.. الموظفون ظلوا مصرين على مواصلة الكذب، فبينما يقسمون أغلظ الايمان بعدم توفر السيارات كانوا يمررون معارف لهم ولمديرهم الى داخل المكتب ويمنحونهم تصاريح الحصول على السيارات.. وأتذكر انه كان بين أصحاب الحظوة لدى المكتب ومديره "شيخ" ممن يعتمرون العمامة البيضاء.. وكما لو كان قد وضع يده على غنيمة ثمينة، بدا الشيخ مبتهجاً للغاية بالامتياز الذي حظي به، بتقديمه علينا وتسفيره إلى خارج المطار قبلنا.
عبثا حاولنا إقناع موظفي المكتب ومديرهم بإعطاء الأولوية للدكتور المراياتي .. لم تشفع له شيخوخته ولا مرضه ولا مكانته العلمية التي أعلمنا بها الموظفين ومديرهم المرة تلو الأخرى.
بعد ذلك اليوم بثلاثة ايام رحل الأستاذ الجليل كامل المراياتي.. لابد ان حرقة المعاناة في المطار لم تكن قد زالت آثارها تماماً ساعة رحيله يوم السبت.. والمؤكد أكثر ان حرقته كانت أمضّ على وطنه الذي لم تعد فيه كرامة لعالم أو أديب أو حتى نبي.
852 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع