د .محمد عياش الكبيسي
لا يستطيع أحد أن يخمّن حجم الكلمات التي يتلقاها المجتمع في الدقيقة الواحدة مقروءة أو مسموعة، إنّها تهبط علينا من السماء كما يهطل المطر، وغالبا ما يتّجه الحديث عن مسؤولية الكلمة إلى المصدر من حيث توخّي الصدق والدقة في النقل وما إلى ذلك، ويُغفل دور المجتمع في التمييز والمراقبة والمحاسبة.
إن (الإعلام الحر) هو تماما مثل (السوق الحر)، فالبائع حرّ فيما يعرضه من بضائع وما يستخدمه من دعايات ومحفّزات، وكذلك الكاتب والواعظ والمغرّد، بيد أن المتلقي أو المشتري لا زال يتعامل مع المنتجات المادية بطريقة أكثر جدية وأكثر حرصا من تعامله مع المنتجات الفكرية! إنه مثلا لو قرر شراء قميص أو حذاء فإنه يسأل عن (الماركة) و (المقاس) و (السعر) ويستحضر خبراته الذاتية، ويستخدم مهاراته في (المقارنة) و (التحليل) و (الاستنتاج) ثم (القرار)، وهذا السلوك من شأنه أن يقدّم (تغذية راجعة) تسهم في تشجيع المصانع على تطوير منتجاتها، وتدفع بالأسواق إلى تغيير سياساتها.
إن هذا الإنسان الذي تعامل مع قميصه أو حذائه أو قنينة عطره بكل هذه الجدّية لو تعامل بنفس الجدية مع الأفكار الكبيرة والخطيرة التي تمسّ دينه وعقله ومصيره ومصير أهله وبلده لما وصلنا إلى هذه الفوضى الفكرية والثقافية التي تعصف بمجتمعاتنا من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال.
صحيح أن (حريّة التعبير) قد استغلها كثير من السياسيين والإعلاميين والعلماء المسيّسين ومسخوها إلى (حريّة التزوير)، فهم لا يعبّرون عن آرائهم سواء كانت صوابا أو خطأ، وإنما يكذبون على أنفسهم ويقدّمون المعلومات والأحكام والتحليلات بما يخدم أهدافهم لا بما يعكس قناعاتهم، ولكنّ الذي جعلهم يتمادون في هذا هو غياب رقابة الجمهور.
إن الجمهور يشكو من اضطراب الفتاوى وتناقض المعلومات والتحليلات، دون أن يحمّل نفسه أدنى مسؤولية، وغالبا ما يكون العذر: (أننا لسنا علماء ولا متخصصين فكيف نحكم على أهل العلم والاختصاص؟).
في تاريخنا الإسلامي حينما كان المجتمع يعرف دوره وحدود مسؤوليته كان يصدر أحكامه على المختصّين وقد ظهر مصطلح (تلقته الأمة بالقبول) كمعيار مجتمعي كبير، فالمذاهب الأربعة هم فقهاء وقد ميّزهم المجتمع بالقبول العام عن كل الفقهاء الآخرين وفق ضوابط يملكها المجتمع، وهذه الضوابط هي ليست أدوات الاجتهاد التي لا يملكها إلا المختصّون، بل هي منظومة قيمية معياريّة متفق عليها عند السواد الأعظم من الناس، وقد ميّز المجتمع بين التخصص والتخصص، والعلم والعاطفة، فتراه يقبل الحديث من البخاري ومسلم، ويقبل الفقه من أبي حنيفة ومالك، ويقبل النحو من سيبويه والكسائي، ويقبل السلوك والتربية من الجنيد والمحاسبي، ولا يخلط هذا بهذا، فلقد كانوا يبكون من الخشوع والتأثر الروحي العميق في مواعظ المحاسبي لكنّهم في الفقه لا يسألونه بل يسألون الشافعي وأحمد، وكان أهل بغداد لا يعدلون بالشيخ عبد القادر الجيلاني أحدا، لكنّ حبهم هذا لم يجعل منه مذهبا فقهيا، بل كان أغلب أحبابه من الحنفيّة والشافعيّة، بينما شيخهم كان حنبليا! ومن اللطائف هنا؛ أن أحمد بن حنبل كان يأخذ الحديث مع الشافعي عند شيخهما الكبير سفيان بن عيينة، ثم قُدّر لأحمد أن يحضر مجلسا أصوليا للشافعي فانقطع له وترك مجلس شيخه سفيان، فعوتب في ذلك، فقال: ما فاتني من صاعد سفيان أجده في نازله، وما فاتني من عقل هذا الفتى لا أجده عند غيره! ومن لطائفه أيضا أنه اختبأ للمحاسبي وهو يلقي مواعظه، ثمّ جاءه تلاميذه فوجدوه قد اخضلت لحيته من البكاء، فلما ذهب روعه نهاهم عن أخذ العلم عنه! إنّ الإمام أحمد هنا يرسم معايير دقيقة تميّز بين علم وعلم كما تميّز بين العلم والعاطفة، وهو نفسه ليس استثناء من هذه المعايير، ولذلك نرى المجتمع الذي وقف معه في محنة خلق القرآن، حتى أصبح من يومها إماما لأهل السنّة والجماعة راح في قصّة عموريّة يحتشد خلف المعتصم لاسترداد الحقوق بالقوّة، مع أن المعتصم كان خصما لشيخهم وإمامهم وسببا في تلك المحنة، إن حبهم لأحمد علما وصلاحا وثباتا لم يمنعهم من حبّ المعتصم أيضا غيرة وشهامة وقيادة، مع ما بين الرجلين من خصومة.
إن المنظومة القيمية هي ليست آدابا وسلوكيات كما يفهمها البعض، بل هي منظومة معياريّة، لأن القيمة هي المعيار، ومنظومة القيم هي منظومة المعايير، فالصلاح قيمة، والعلم قيمة أخرى، وهكذا القوّة والشجاعة والسابقة والعدل والخبرة والذكاء والاهتمام والحب والاحترام، وهذه كلّها ونحوها كثير ينبغي أن تًسلك في شبكة ناظمة وتعطى لكل واحدة منها وزنها المناسب والمختلف زمانا ومكانا وحالا.
إن المجتمع حينما كان يملك هذه المنظومة لم يكن يتضايق أبدا من اختلاف الفتاوى، بل وجدنا حالات تسطّر بماء العيون من رقيّ ذالك المجتمع ووعيه وقدرته الفائقة على وزن الأمور، ومن ذلك أنّ أكثر فقيهين كانا يختلفان مع الإمام أبي حنيفة هما تلميذاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن، حتى أنك لا تكاد تقرأ رأيا له إلا وتنتظر منهما أو أحدهما رأيا مخالفا، وربما كانت مساحة الخلاف معه أكبر بكثير من مساحة الوفاق، ومع هذا فلا يقدّم الحنفيّة بالذات والمجتمع عموما أحدا عليهما بعد الإمام، فالمجتمع كان يعدّ (الاجتهاد) قيمة عليا، ولذلك فهو يتقبل نتائجه بكل ثقة واعتزاز، وأما تشجيع الاجتهاد وتحريم الاختلاف فهو -لا شك- ضرب من الحماقة والجهل المركّب.
إن مجتمعاتنا اليوم تمتلك (مفردات قيمية) كثيرة، وهي قادرة على أن تقيس المسافة المرتبطة بهذه القيمة أو تلك قربا أو بعدا، فالتمييز بين الصادق والكاذب والكريم والبخيل والشجاع والجبان متيسّر إلى حدّ ما، إلا أنها تفتقر إلى القدرة على صهر هذه المفردات في منظومة واحدة، ويظهر أثر هذا الفقر في القضايا المركّبة والمعقّدة وهي التي لها المساحة الأوسع في حياتنا، وهذا هو الذي جعلها عاجزة عن التعامل مع فوضى المعلومات والأخبار والتحليلات التي لها أكثر من بُعد، وجعلها كذلك تضطرب في تقويم المواقف والأحداث والأشخاص، فقد يمرّ على الحدث الواحد سنة وسنتان وعقد وعقدان وتبقى الصورة المشوّشة والتقويمات المتباينة، وهذا ليس كله بسبب تباين الأيديولوجيات أو اختلاف المصالح، بل هناك فشل حقيقي سببه الأول غياب المعيار الكلّي والذي نسميه (المنظومة القيمية).
968 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع