أ. د. عبدالـرزاق محمــد جعــفـــر
أعـمـى بطـريق مـظـلـم / الحلقة الرابعة
المسلسل التلفزيوني لقصة واقعية تنقصها الصراحة تـسـرد جانباً من الحياة الأجتماعية في العراق وليبيا وتونس منذ1932 ولغاية2003
عُيَّن "صـابـر" مُدرساً في ثانوية " ناحية قلعة سكر" بمحافظة ذي قار، وقام بتدريس المواضيع العلمية ، وهو الوحيد القادرعلى ذلك لقرب اختصاصه من المواضيع العلمية، في حين كان الآخرون , تخصص عربي واجتماعيات !
أدى "صابر" مهمته بكل جدارة وهمة ، ونال أعجاب الطلبة ومحبتهم ، وعاش بينهم بسعادة ومرح,.. ولم تصادفه أية مشكلة تعرقل مسيرة حياته الجديدة، حيث كانت الهيئة التدريسية من مدن مجاورة لناحية قلعة سكر عدا المدير " المرحوم عبدالصاحب السعدي",.. كان من أهالي قلعة سكر, ولذا أحتضن الجميع وعاملهم كضيوف في بيته,.بالرغم من أن تاريخه السياسي المعادي للنظام آنذاك, غير شخصيته, وصارحذراً من كل شخص لا يعرفه!
كان المدير بارعاً في تخطيط (الطـُرف) من أجل كسب "رهان", لعمل وجبة غداء لأعضاء هيئة التدريس, ويتم ذلك وفق سيناريو محكم كالذي نسميه الآن الكاميرة الخفية !
وفيما يلي موجزاً لبعض تلك الطرفة :
1/ جهز مدير الثانوية وبمساعدة صابر ومعلم الرياضة "جهاز تسجل" , وفيه شريط لنشيد "الله أكبر" الذي صار يذاع عند تأزم الأوضاع السياسية بعد " ثورة 23 يوليو", في مصر, وهكذا,.. وجه المدير الدعوة لكامل الهيئة التدريسية ومن ضمنهم كاتب المدرسة , الذي خطط للنصب عليه بسبب تذمره المستمر من قلة الراتب وعدم قدرته على الزواج ,وهكذا تم التوافق على أذاعة البيان الأول بصوت مدير المدرسة بالصيغة الآتية :
بيان رقم / 1: تم بعون الله تأليف حكومة جديدة برآسة معالي السيد (.....) باشا !
بيان رقم / 2 : تم فصل "السيد أبراهيم", كاتب مدرسة ثانوية قلعة سكر من وظيفته فوراًً !
**
هاج الجميع مرددين عبارات الحزن ,.. وأخذ المعني يبكي, وصدق الخبر لسذاجته !,.. ثم ُطـلبَ من أحد المدرسين الذهاب لغرفة (الأذاعة ),.. وأيجاد حل للمشكلة ,..وبعد لحظات أذيع بيان جديد صادر من رآسة الحكومة ,..فيما يلي نـَصهُ :
بيان رقم / 3: تعيين الأستاذ أبراهيم بوظيفة "مأمورا أستهلاك ", فورا وبراتب 35 دينار,
فهتف الجميع بالعدالة, ونهض "أبراهيم", فرحا بهذه الوظيفة وقال: هذي الوظيفة يمكن الواحد يغتني منها , لأن بيه مجال للأختلاس ! ,..ثم راح يرقص والجميع يصفقون!
ولما كشف له الأمر لم يكترث لذلك المقلب, وعانقه الجميع وفي الجعبة مقالب غيرها ولكن لا أريد أن أسبب الملل للقارئ !,.. وكل شيئ في وقته " حلو"!
**
لم تمض فترة طويلة على عُمر ثورة تموز 1958 حتى دَبَّ الخلاف بين قادتها، وانعكس ذلك الخلاف على الجيش وكافة فئات الشعب ورُفعت شعارات عديدة منها ما هو مؤيد للوحدة الفورية مع جمهورية مصر العربية ، ومنها المطالب بالأتحاد الفدرالي والصداقة مع الأتحاد السوفيتي (روسيا حالياً), فأثر ذلك على استقرار الشعب,فانقسم بشكل واضح,.. وصارالطلبة بين مؤيد ومخالف لتلك الشعارات، وأصبحت المظاهرات تجوب شوارع كافة المدن العراقية وبدأت المؤامرات تُحاك لإطاحة كل طرف بالطرف الآخر، بشكل علني أوخفي.
أثرذلك التناحر على سَّـير الدراسة في كافة المراحل، وأسـتـُغلوا الطلبة لتحقيق المآرب للجهات السياسية المتصارعة، وعمَّت الفوضى وصار الصراع دموياً بعد فشل ثورة الشواف في الموصل ، وزُجَ الكثير من أفراد الشعب بالسجون أضافة للأغتيالات التي كانت شبه يومية، ولم تخل مدينة واحدة من الفوضى السياسية العارمة التي اجتاحت كافة مدن العراق .
في منتصف السنة الدراسية (1959), صدر أمر وزاري بتعيين "صابر" مديراً لثانوية الزراعة في قضاء الشطرة / ذي قار, بدلاً من مديرها السابق , بعد ان جُمدَ عمله, لحين الأنتهاء من التحقيق من تهمة مشينة فاحت منها رائحة "الحقد السياسي", بين هيئة التدريس ,
فقد تسربت أشاعة مفادها " مديرالثانوية يراود تلميذه", الطالب في السنة الأولى، ويزوره ليلاً في سكنه في القسم الداخلي !
أدت تلك التهمة إلى هياج عام بين الطلبة، استغلته الجهة المناوئة للثورة, وهكذا تسرّبت الإشاعة إلى أهالي المدينة, فهاجوا للنيل من (المدير المتهم بالأغتصاب ), ورفعوا مذكرة الى وزارة المعارف في بغداد, يطالبون فيها بفصله لأنتهاكه حدود مهنته كمُرب !، وبعد أيام ما أن وصلت لجنة تحقيق برآسة الأستاذ المرحوم (طه مكي)، الى مقر ثانوية الزراعة في الشطرة, حتى راحت تجمع حيثيات المشكلة, واستنارت بشهادة العديد من الأهالي والطلبة،.. ثم جاء دور العساس (الفراش), الذي كان خفراً في القسم الداخلي,والذي أدعى مشاهدة المدير متلبساً بجريمته النكراء ! , وفق ما جاء بمذكرة الأتهام ,.. ثم دارت المناقشة الآتية:
المحقق- هل أنت شاهدت بعينك المدير يراود تلميذه؟!
الشاهد- نعم أستاذ،.. (بهايْ) عيوني اللي راح يأكلها الدود !
المحقق- وكيف شاهدت ذلك والدنيا ليل والباب مغلقة !
الشاهد- لا يا أستاذ،.. الباب كانت أشويه مفتوحة والغرفة مضويه !
المحقق- ينهض من وراء الطاولة ويتوجه بغضب نحو الشاهد وكاد أن يخلع حذاءه و يضرب الفراش !,..فأنهار الفراش وراح يستغيث وهو يستمع لصراخ الأستاذ المحقق:
- ويلَك.. آني وبهذا العمر، ولما أكون في خلوة شرعية مع زوجتي، أطفي الضوه وأغلق الباب بالمفتاح !,.. فكيف يمكن لمدير مدرسة يراود تلميذه في وضع مُزر داخل القسـم الداخلي (سكن الطلبة), والطلاب يَقظون , وهم (رايحين جايين),..فمعقوله ما يفكر في اطفاء الضوء اوغلق حتى الباب !؟
صمت الفرا ش وراح يضع يديه على رأسه خوفاً من معاقبة المحقق له، وكاد ان يهرب, لولا أن منعه الحارس وطلب المحقق من الشاهد أن يقول الحق وان لا يضطره لطلب فصله من الوظيفة,.. ثم هدأ المحقق قليلاً,.. وعاد وجلس في مكانه وطلب من المتهم التكلم :
المتهم- والله يا أستاذ "هُمَّ كالولي" ثم بدأ يسرد كيف استغله أحد المدرسين ولقنته الكلام!
**
أمر المحقق بنقل (الفراش) إلى مدرسة ابتدائية في إحدى القرى وتوجيه عقوبة التوبيخ لبعض المدرسين الذين ساعدوا في فبركة الرواية بحق زميلهم , كل ذنبه ,..مخالفتهم الرأي في تأييده لثورة الرابع عشر من تموز!,..وهذه هي بذرة التخلف التي ورثناها من جنكيز خان!
**
ساء ت الأوضاع السياسية في كافة المدن العراقية ، وبدأ الغليان في عروق الشباب، وعمت المظاهرات والمسيرات لكل الفئات المؤيدة والمعارضة، وتناطحت الصحافة وتراشقت بالتهم مع بعضها، وصنف كل سياسي بشكل معين فهذا قومي نظيف وآخر من الطينه ,..وذاك عميل للغرب أو شيوعي من جماعة ماو لو لينين , أو من الأخوان المسلمين، وهكذا مزق التصنيف الطبقة المحايدة التي أرادت العيش بأمان وسعادة بعيدة عن أي تيار سياسي أو طائفي !
لم يستطع "صابر" أن يخنع لأي فئة سياسية بالرغم من وجود العديد من أقرانه في طليعة الأحزاب المختلفة، إلا أنه لم يقتنع بسلوك قياداتها لأسباب عديدة، ولم يرغب أن يكون تابعاً لهم، وتأزم وضعه وساءت حالته النفسية ووضعه الاجتماعي، وكره الوظيفة بعد أن جلبت له المتاعب، فطلبة الثانوية الزراعية في الشطرة كلهم من أبناء مدينته الحبيبة , وتربطه بعوائلهم صداقات وصلة رحم ، ولا يستطيع أن ينحاز لأية جهة معينة،.. وبقى محايداً، إلا أن ذلك لم يرُق لبعض المغرضين، فكل منهم يحاول جذبه لصفة واستغلاله بالتهكم على الفئة الأخرى !
**
اعتمد "صابر" في إدارة المدرسة على الكثير من زملائه من أبناء المدينة واكتسب َمَّودةَ ومحبةَ كافة الطلبة بالرغم من اختلافاتهم السياسية، إلا أن بعض أعضاء هيئة التدريس لم يلتزموا بمهنتهم حيث سارت إشاعة في نهاية السنة الدراسية 1960، أن أسئلة احد المواضيع مسروقة والطلبة يتداولون حلها،.. وفي تمام الساعة الحادية عشر,.. طرق باب داره طلبة من المؤيدن "لثورة تموز ",مبينين أن بعض الطلبة المعادين, قد حصلوا على أسئلة امتحان اليوم التالي ، وعرضوا نسخة من الأسئلة على المدير، فأخذها وتطلع فيها, وتوعدهم بإجراء اللازم وبمعاقبتهم في حالة الادعاء الكاذب .
أرسل "صابر" على سائق سيارة المدرسة وتوجه فوراً إلى مدير المعارف في المحافظة ووصلها في منتصف الليل ، وخرج المدير مذعوراً في مثل تلك الساعة المتأخرة من الليل وشرح مدير التربية لصابر الإجراءات التي يجب ان يتخذها، ووعده بالحضور غـداً إلى المدرسة في بداية الدوام الرسمي ، وطلب من صابر:
أن يكون لجنة خاصة لوضع أسئلة جديدة لحين حضوره !
طبق "صابر" التعليمات، وما إن سمع الطلبة بوجود أسئلة جديدة حتى عَمتْ الفوضى، وتمكن "صابر" من السيطرة على القاعة، وبعد لحظات وصل مدير المعارف، وعمَّ الهدوء وبدأ القلق على أستاذ المادة التي تسربت أسئلتها،... وبعد انتهاء الأمتحان، أمر مدير المعارف بالتحقيق وتبين أن معلم الرياضة وصديق ذلك الأستاذ هو الذي سرق الأسئلة من زميله , وأعطاها لأحد طلبته الناشطين بالرياضة, والذي سلمها بدوره لأقرب صديق له، وهكذا راحت الأسئلة تنتقل من طالب إلى آخر، وفي النهاية سيطر "صابر" على الموقف بمساعدة مدير المعارف وانتهت المشكلة من دون حدوث مضاعفات و تمكن "صابر" أن يكسب اعجاب كل المسؤولين في المدينة لتصرفاته المتزنة في مواجهة المطبات التي اعترضته !
للراغبين الأطلاع على الحلقة الثالثة:
http://www.algardenia.com/maqalat/12132-2014-08-19-09-41-10.html
يتبع في الحلقة / الخامسة
945 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع