إبراهيم الزبيدي
حينما نتأمل ما يحدث في غزة، وفي العراق، شماله وجنوبه، شرقه وغربه، وفي سوريا وليبيا واليمن، وما سوف يحدث في بلدان عربية أخرى يظن حاكموها أن بروجهم وأسوارهم الحديدية العالية سوف تعصمهم من النار القادمة،
نكتشف أن جماهيرنا العربية العريضة غيرت جلدها ودمها، ووضعت على بصرها وبصيرتها ستائر سودا خانقة، وأصبحت لا ترى في القتل العربي والإسلامي والصهيوني والأمريكي والإيراني شيئا يستحق الغضب.
كانت هذه الجماهير في القرن الماضي تهب عن بكرة أبيها وتشعل ساحات الوطن العربي كله، من المحيط إلى الخليج، بالمسيرات الجماهيرية الغاضبة إذا ما تجرأ شرطي فرنسي أو إسرائيلي على صفع مواطن عربي، وتهتف بالثأر للكرامة العربية المهانة، (وا معتصماه)، ثم يتكدس شبابها أمام مكاتب التجنيد للتطوع في قتال المعتدي.
أما اليوم فالظاهر أن القوى الخفية الحاذقة المدركة لأسرار تلافيف أمخاخ جماهيرنا العريضة عرفت كيف تدجن هذه الجماهير، من المغرب إلى عُمان، وتميت فيها النبض الحي، وتقتل الأنسانية في قلوبها وأرواحها، إلى أن صارت الإعلانات المتلاحقة عن أعداد القتلى أمرا عابرا لا يأخذ من وقتها شيئا فيه بقية حتى من الشجب اللغوي، وهو أضعف الإيمان.
غزة تشتعل. أطفالها ونساؤها طعام القنابل الحارقة، وجماهيرنا العربية العريضة لا ترى ولا تسمع ولا تنطق بأي لسان. وقادتنا الأشاوس يجادلون، حماس سبب الكارثة أم فتح أم نتياهو؟. كثيرون منهم يتشفون بحماس ومأزقها السياسي والعسكري، وبعضهم يناشد كيري وأوباما الرحمة والشفقة بالمدنيين الأبرياء، ونتياهو سادر في غيه، يتبختر ويشتم أمريكا وأوربا ويتهم كل من يطلب هدنة بالخيانة والإنحياز لـ (إرهاب) كتائب القسام والجهاد وحماس. ومصر السيسي بين مطرقة إسرائيل وسندان حماس وإسلام قطر وتركيا، ولله في خلقه شؤون.
وفي سوريا يباهي نظام بشار الأسد بانتصاراته الباهرة، كل يوم، ويزف البشائر بعدد القتلى من (الإرهابيين). والمعارضة، بالمقابل، تبشرنا كل يوم بقتل عشرات الجنود والضباط السوريين واللبنانيين والعراقيين المجندين لحماية النظام.
وفي ليبيا يحرق المال القطري والسلاح التركي، وربما الروسي والأمريكي أيضا، مطارات طرابلس وبنغازي وما بينهما، ويمطر مدارس أطفالها ودكاكين أزقتها بالصواريخ والقذائف المتفجرة. وأصحاب الحل والربط، عربا وأوربيين وأمريكيين، بين داعم لحفتر ومغدق عليه ليقتل أكثر ما يستطيع قتله من مسلحين مدججين باللحى الطويلة ورايات (الله أكبر)، وبين ممول ومسلح لجماعات الفكر الأسود يحثها على حصار حفتر ودحره وقتل من يستطيعون قتله من جنوده وضباطه، ومن مواطنين أبرياء وضعهم الزمن الأغبر بين نيران المتقاتلين.
وفي العراق لم تجد الجماهير العريضة، في المدن والقرى التي احتها داعش، والمناطق والشوارع والساحات التي احتلتها مليشيات إيران والمالكي سوى الهرب إلى تركيا ولبنان والأردن وجزائر الواق واق.
أنا الآن في بيروت. أتجول في شارع الحمرا. لم يعد لبنانيا كما كان. أصبح عراقيا شيعيا وسنيا ومسيحيا، وسوريا مواليا ومعارضا، وفلسطينيا ويمنيا وليبيا، ومختنقا بمجاميع السياح الإيرانيين الهاربين من ليالي طهران المظلمة وأحيائها المحاصرة برايات الحرس الثوري وسياطه العاتية.
في المقهى، عن يميني عراقيون هاربون من داعش، وعن شمالي عراقيون آخرون هاربون من عصائب الحق. عرفتهم من نسائهم السافرات والمحجبات ومن جدالاتهم المملة حول الفرق بين الحمص اللبناني و(اللبلبي) العراقي.
-عيني، هوا العراق أحسن. بيروت حر ورطوبة.
-بس الأكل هنا أحسن والخدمة أفضل.
-لا،تركيا أجمل، لو ما اللغة.
-لو ما اللغة أربيل أقرب وأهدأ.
-يا عمي وين الخبز العراقي، وين البيرة العراقية، والسمك المسقوف؟؟.
-(بلادي وإن جارت علي عزيزة)
-حمودي عيني بلا هالشعر. يعني افتهمنا أنت مثقف، بس لا تدوخنا.
-أوكي. أحجيلكم آخر نكتة.
ويقهقه الجميع بأعلى ما لديهم من أصوات مبحوحة، ثم يتبادلون الشتائم المقذعة، ويضحكون بلا حياء.
-لا ، لك عيب.
-يا عمي شنو عيب؟ إحنا بلبنان، بلد الحرية، أخذ راحتك.
وقبل أن يغادر الفريق الذي عن يميني توجه ليصافح الفريق الآخر عن شمالي، بحب ومودة.
-يمعود كلنا عراقيين، إخوة. شنوا شيعي شنو سني شنو مسيحي؟
-الله يجازي السبب.
هذا في بيروت. وكنت في الأردن وقد تحول إلى مرتع عراقي خصيب. أصحاب الملايين المسروقة يتبخترون بسياراتهم الباهضة، ويتسابقون إلى اقتناء العمارات والشركات، وشراء المسابح الثمينة، وتدخين النرغيلة، والثرثرة عن الأكل والشراب والثياب. وعراقيون آخرون يتسكعون على الأرصفة، شحاذين أو باعة علب مناديل.
وقد أخبرني صديق وصل إلى أنقرة أمس بأن مئات الباصات العراقية تتكدس على الحدود التركية، وأن دوره في ختم جوازه العراقي لم يأته إلا بعد أربع عشرة ساعة، بالتمام والكمال. وأربيل لم تعد تحتمل المزيد.
والشيء نفسه يحدث للسوريين والليبيين واليمنيين والفلسطينيين.أغرقوا فنادق عمان وبيروت وأنقرة واسطانبول والرباط والدار البيضا ومراكش ورفعوا أسعار كل شيء .
هذا نحن. ماكنة القتل تدور، وأخبار افضائيات والإذاعات تتسابق في نشر أعداد القتلى والجرحى والمشوهين والمفقودين والمهجرين، كل يوم، في مدن العراق وسوريا وليبيا واليمن. وغزة تموت. وجماهيرنا العريضة تتمشى على الروشة، وفي عبدون الأردنية، وعلى شواطيء البوسفور. ألم أقل إنها مدجنة، بلا قلب، ولا روح!!
1166 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع