د.هالة مصطفى
الحرب الاسرائيلية الدائرة الآن على غزة ليست جديدة، أى ليست هى الأولى من نوعها وقد لا تكون الاخيرة، بل باتت أشبه بالسيناريو المتكرر،
فمنذ انفراد حماس بالسيطرة على القطاع وأسباب تلك الحرب الموسمية قائمة. فحماس تعطى لنفسها الحق فى اختيار التوقيت الذى تراه لاطلاق صواريخها على اسرائيل، والتى لا تتسبب فى أغلب الأحيان فى تحقيق أهداف تذكر، والأخيرة أى اسرائيل تعطى لنفسها حق الرد وبمنتهى العنف عليها من خلال عمليات عسكرية موسعة (قصف جوى أو غزو برى مثلما هو حادث حاليا).
اذن يشتعل الموقف ، يسقط ضحايا بالمئات من المدنيين، تدمر أحياء بكاملها ، بعدها تبدأ بيانات الشجب والادانة من الجانب العربى وعادة ما يصاحبها اتهامات متبادلة بين مختلف الأطراف على المستويين السياسى والاعلامى ما بين المتشددين والمعتدلين أو دعاة المقاومة المسلحة ودعاة التفاوض . ولا يبدو فى تلك المعارك الكلامية (من أنصار التوجهين) من هو قادر على التأثير فعليا على أرض الواقع، أو تغيير موازين القوى، أو إحداث نقلة نوعية فى مسار الصراع الفلسطينى الاسرائيلى يمكن بعدها الحديث عن حل نهائى. لذا تبدو جميع التحركات وعلى كافة الأصعدة محدودة وتقتصر فى الغالب على مطالبة اسرائيل بضبط النفس ووقف اعتداءاتها على المدنيين وتقديم المبادرات للتهدئة أى احتواء الصراع مؤقتا، وبالطبع لاتخرج هذه المبادرات عن بعض المطالب الجزئية مثل الافراج عن المعتقلين، أو فتح جزئى للمعابر الحدودية، أو تقديم المساعدات الانسانية. وفى هذا الاطار تتم مخاطبة المجتمع الدولى للتدخل لوقف الحرب ويحدث هذا التدخل بالفعل و لكنه لا يخرج بدوره عن البحث عن سبل هذه التهدئة المؤقتة، التى عادة لا تستمر طويلا حتى ينفجر الموقف مرات أخرى. انها دائرة مغلقة أو حلقة مفرغة تدور فيها قضية غزة. اذ لم يعد أحد يتحدث عن الخيارات الأساسية أو القضايا الكبرى التى تثيرها هذ المواجهات المتكررة. هل يجب السعى نحو سلام دائم أم تكون حربا شاملة لتحرير الارض؟ أى خيار الحرب أو السلام، فأغلب الصراعات فى العالم تنتهى بتسويات نهائية من خلال مائدة المفاوضات بدءا بالحروب العالمية التى دارت بين أكبر دول العالم، وانتهاء بالصراعات الاقليمية التى قد تكون على مستويات أقل من ذلك بكثير، ولكن شيئا من ذلك لا يحدث بالنسبة للقضية الفلسطينية والأرجح أنها ستظل كذلك لفترة طويلة قادمة. بل ربما سيزداد الأمر تعقيدا فى المستقبل لأسباب بعضها يتعلق بالداخل الفلسطينى، والآخر باقليم الشرق الأوسط ككل.
فبعيدا عن تعنت اسرائل المعروف فى الوصول الى حل دائم و نهائى فيما يتعلق بالأراضى المحتلة ووضع القدس والحدود و غيرها من القضايا المماثلة، فان المشهد الفلسطينى يبدو شديد الانقسام غير قادر على التوحيد الفعلى لصفوفه، فالصراع على السلطة الذى بدأ مبكرا قبل الوصول الى تحقيق حلم الدولة المستقلة أصبح واقعا لا تخفف منه محاولات المصالحة التى استغرقت سنوات بين طرفى الحكم فى الضفة وغزة وما أسفرت عنه مؤخرا من تشكيل حكومة وحدة وطنية فى يونيو الماضى والتى تبدو هشة أو شكلية الى حد كبير. فهذه الوحدة الظاهرية لا تعنى وحدة فى السياسات العامة للطرفين فيما يخص قضايا الأمن القومى، ولا فى تحالفاتهما الاقليمية وتحركاتهما الدولية. فلحماس مشروعها الأيديولوجى المرتبط بالتنظيم الدولى للاخوان وبالدول الاقليمية المتعاونة معه أو الراعية له، أى أن مشروعها يتجاوز فكرة الدولة الوطنية الفلسطينية . وللسلطة الفلسطينية من جانبها خياراتها الأخرى المختلفة . اذن ليس هناك تمثيل سياسى موحد للفلسطينيين مهما ادعت الأطراف المعنية عكس ذلك، وبالتالى لا يمكن الحديث هنا عن استراتيجية شاملة سعيا لاقامة دولة فلسطينية مستقلة. ان هذا الانقسام ستظل تستخدمه اسرائيل كذريعة لابقاء الأمور فى مربعها الأول وهو أمر يبدو أن الولايات المتحدة والمجتمع الدولى تؤيدها فيه، فالمفاوضات تكون مع من؟ من يضمن أى اتفاقيات يمكن الوصول اليها؟ هو محور الحديث فى الكواليس السياسية و أيضا فى الدوائر الأكاديمية و الدولية عموما التى توجه وتؤثر على الرأى العام العالمى .
أما من الناحية الاقليمية، فان الوضع يبدو أكثر تعقيدا مما كان عليه طوال العقود الماضية. فمنذ اندلاع ثورات الربيع العربى ودخول أغلب الأنظمة و المجتمعات العربية فى صراعات مفتوحة، لم يعد للصراع الاسرائيلى الفلسطينى الأولوية التى كان يشغلها فى زمن مضى، بل أضحت ملفات مثل العراق وسوريا وليبيا تطغى على ما عداها فى المنطقة، خاصة مع تزايد التوقعات حول سيناريوهات التقسيم التى تنتظر تلك الدول فى اطار الخطة المعروفة بـ الشرق الأوسط الجديد .
أما المتغير الاقليمى الأخطر والذى ارتبط بتطور تلك الأوضاع فيتعلق بصراع دول الاقليم على لعب الأدوار المحورية تحقيقا للمكانة والنفوذ والمصالح التى تتضارب بحكم التعريف و تختلف من دولة الى أخرى، فتاريخيا كان مركز الثقل فى النظام الاقليمى العربى للدول التى تشكل القلب منه (مصر، سوريا، العراق) ولكن مع كل التداعيات والحروب الاقليمية والأهلية وسقوط بعض الأنظمة على مدى العقدين الماضيين بدأت تظهر محاولات نقل هذا الثقل الى الأطراف أى الدول غير العربية (ايران وتركيا) ولكل منهما تحالفاتهما العربية، سواء مع دول (مثل قطر) أو تنظيمات وأحزاب وأقليات و طوائف (شيعة، أكراد، حزب الله اللبنانى، حركة حماس، تنظيمات متطرفة مسلحة سنية وغير سنية، أنظمة فى حالة صراع مثل النظامين السورى والعراقى وهكذا..) و نتيجة لذلك تداعى هذا النظام أى النظام الاقليمى العربى وتوارى معه دور الجامعة العربية كمنظمة اقليمية معبرة عنه وظهرت المحاور الاقليمية التى تشكلت ضمنيا بحكم الواقع الجديد الى أن أخذت شكلا صراعيا واضحا (تقارب مصرى سورى اماراتى كويتى أردنى فى مواجهة تركيا، ايران، قطر والتنظيمات المتحالفة معها)
هذا الوضع الجديد انعكس على جميع الملفات من العراق الى سوريا الى الخليج الى العلاقات مع ايران، فضلا عن ملف القضية الفلسطينية وبالذات غزة بحكم انحياز حماس للمحور الثانى, وهذا يفسر رفضها للمبادرة المصرية فى الوقت الذى تطرح فيه قطر مبادرة أخرى بمساندة تركيا التى تطمح لأن تلعب دور الوسيط فى الشرق الأوسط عموما وتسعى بالتالى للحصول على دعم أمريكى وغربى لهذا الدور.
واذا كان من الصعب أن يصبح الدور التركى بديلا عن الدور المصرى فى القضية الفلسطينية تحديدا، فعلى الأقل تحاول أنقرة منافسته بقوة .
أما أمريكا التى تعد لاعبا دوليا رئيسيا فى دعم دول اقليمية بعينها وفقا لدرجة تحالف تلك الدول معها وتوظيفها لأدوارها، وبالتالى انجاح أو عدم انجاح أى مبادرة تقدم من دولة من تلك الدول (وهو ما يسرى على المبادرات المطروحة الآن) فالأرجح أنها لن تنحاز تماما لطرف على حساب آخر وقد تسعى الى الدمج بين الأفكار أو عناصرالمبادرات المطروحة مع الالتزام بالأفكار الأمريكية المعروفة التى لا تخرج كثيرا عن نزع سلاح غزة وتدمير الأنفاق مقابل فك الحصار واعادة الاعمار. انها مرة أخرى.. حرب الدائرة المغلقة .
1169 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع