د.منار الشوربجي
الجدل الصاخب في أميركا بخصوص قضية المهاجرين، لا يمكن فهمه بمعزل عن البعد العنصري، ولا بعيدا عن تبعات السياسة الخارجية الإمبراطورية للولايات المتحدة.
فالهجرة باتت، في العقدين الأخيرين، من أكثر القضايا جدلية في أميركا، لكنها عادت للواجهة بقوة في الأسابيع الأخيرة، حينما وجدت الولايات المتحدة على حدودها أكثر من 50 ألفا من الأطفال والقصّر، الذين أتوا وحدهم ساعين لدخول الأراضي الأميركية.
والأغلبية الساحقة من هؤلاء القصّر أتت من أميركا الوسطى، وتحديدا من السلفادور وهندوراس وغواتيمالا، هربا من جحيم العنف والجريمة المنظمة، حيث تصل نسبة الجريمة إلى أعلى معدلاتها في العالم.
وقد قوبل أولئك اللاجئون بعاصفة من الهجوم والرفض الاجتماعي والرسمي، ففي كاليفورنيا وتكساس خرجت عدة تظاهرات تحمل لافتات تقول لهم »لا أحد يريدكم هنا« أو »ارجعوا من حيث أتيتم«، وهكذا. وقامت السلطات الأميركية بوضع أولئك الأطفال في مراكز اعتقال، تضاربت الأقوال حول حسن معاملتهم فيها.
وللأمانة، فإن الذين وصلوا للولايات المتحدة خلال تلك الفترة، لم يكونوا كلهم من الأطفال. صحيح أن الغالبية كانت من الأطفال القصّر والنساء، إلا أنه كانت هناك أسر أيضا جاء فيها الآباء مع زوجاتهم وأولادهم، هربا من الجحيم الذي تركوه وراءهم في بلادهم. ورغم أن السلطات الأميركية عاملت أولئك باعتبارهم »مهاجرين غير شرعيين«، فقد طالب بعض الجمهوريين باعتقالهم أو ترحيلهم فورا إلى بلادهم. وأكدت منظمة الأمم المتحدة أن الأوضاع التي تركوها وراءهم، تجعل وصف اللاجئين ينطبق عليهم، مما لا يجوز معه ترحيلهم أو التخلي عنهم، إذ يقضي القانون الدولي بحمايتهم، وطالبت الولايات المتحدة بفتح أبوابها لهم.
لكن قضية أولئك اللاجئين تجري اليوم مناقشتها في أميركا وسط الاستقطاب الحزبي الحاد نفسه بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل وفي أجواء يسعى فيها الجمهوريون إلى عزل الرئيس أوباما. والرئيس أوباما كان قد وصف أزمة أولئك اللاجئين بأنها »أزمة إنسانية«، إلا أنه لم يعترف بأنها قضية لاجئين، لكنه طالب الكونغرس بتوفير 7.3 مليارات دولار للتعامل مع تلك الأزمة. وقد رفض الجمهوريون فورا طلب أوباما، وأصروا على مناقشة القضية ضمن الإصلاح الشامل لقانون الهجرة، والعمل على جعله أكثر تشددا وصرامة.
والحقيقة أن أكثر ما يلفت النظر في الصراع الدائر في واشنطن بشأن قضية الهجرة، هو المسكوت عنه، فهو يجري بمعزل تام عن خطاب الهوية الأميركية. أليس غريبا لبلد يفخر بأنه »أمة من المهاجرين« أن يتعامل بكل هذه القسوة مع المهاجرين الجدد؟ فالثقافة السياسية الأميركية تقوم في جوهرها على تعريف محدد لأميركا وللهوية الأميركية، فأميركا دولة »استثنائية«، تمثل »نموذجا يحتذى«.
فهي التي أتى إليها المهاجرون الأوائل ليقيموا فيها ذلك المجتمع الفاضل، أي الاستثنائي القائم على القيم، فصار نموذجا يحتذى. إذن الاستثنائية الأميركية قائمة على جهد »المهاجرين«، فكيف إذن يقال للمهاجرين الجدد »لا أحد يريدكم هنا«؟ المسكوت عنه في الحقيقة هو أن لا أحد يريد هجرة الشعوب الملونة، فما يجري مع هجرة أبناء أميركا اللاتينية لا يجري أبدا مع هجرة البيض من أبناء أوروبا الشرقية مثلا.
واللافت للانتباه أيضا في ما يتعلق بموضوع أولئك الأطفال الذين أتوا من السلفادور وغواتيمالا وهندوراس تحديدا، هو أن الولايات المتحدة تتصرف وكأنها الضحية البريئة المعتدى عليها.
فبلاد هؤلاء الأطفال مدمرة، فيها خراب كامل، وصلت فيها معدلات الجريمة إلى أعلى مستوياتها العالمية، وهؤلاء الأطفال لا يأمنون على أنفسهم من العصابات المنظمة التي تستهدفهم بالقتل إذا رفضوا العمل معها، بينما في بلاد أخرى، يعتبر القتل في الشوارع مسألة عادية. ولأن الحال كذلك، فقد سعى هؤلاء الأطفال العزل لترك بلادهم، للبحث عن حياة كريمة وحرة في أميركا. ولكن أميركا »البريئة« لا يمكنها وفقا لظروفها، توفير سبل العيش لكل هؤلاء.
لكن رواية »أميركا البريئة« تلك لا أساس لها أصلا، إذا كنا نتحدث عن شعوب أميركا اللاتينية التي تدخلت أميركا في شؤونها، ودمرت مرات عديدة أحلامها في الحرية والديمقراطية والاستقلال الوطني، عبر دعم الحكم الاستبدادي وتدريب أسوأ المستبدين في أميركا اللاتينية على كافة أشكال التعذيب والقمع.
فعلى سبيل المثال، اعترف بيل كلينتون عام 1999 بأن بلاده دعمت جيش غواتيمالا في ارتكاب أعمال وحشية أثناء الحرب الأهلية، وإن كان كلينتون لم يعترف بأن بلاده هي التي دربت ما صار يعرف بفرق الموت في غواتيمالا، بعد أن أسهمت المخابرات الأميركية في الإطاحة بالرئيس الغواتيمالي في 1954. وقد دربت أميركا أجيالا من أبناء أميركا اللاتينية على الوحشية والقمع، صاروا هم اليوم الذين يتولون التدريب في العالم كله مقابل المال. وأميركا لم تترك لتلك الشعوب ثرواتها، وإنما سعت لوضع يدها على تلك الثروات، عبر نظم عميلة لها.
باختصار، في أميركا اللاتينية اللاعب الرئيسي كان دوما الولايات المتحدة، التي لا تزال تطلق على دول القارة الجنوبية تعبيرا بالغ الفجاجة والغطرسة، هو»الحديقة الخلفية« للولايات المتحدة. كل ذلك لا يصلح معه أبدا أن تكون أميركا الضحية البريئة، التي يصل لشواطئها أطفال البلاد التي »دمرت نفسها بنفسها«!
1117 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع