في تكاليف حروب التغيير العربية

                                        


                           د. نسرين مراد


من أجل التغيير السياسي يواجه الإنسان العربي تكاليف باهظة تكاد لا تبقي له ولا تذر. كل ما يحتاج إليه في ساح الحروب، يستورده من الخارج وبأثمان عالية. ما لا يستورده هو الدم واللحم والعظم والنفس والمعنى والروح، والمبادئ والقيم السامية.

تلك تُدفع أثماناً عزيزةً، لا يدرك قيمتها إلا الذين يقدّمون تضحيات نيابةً عن آخرين من المحصَّنين ضد الحروب. قدّم العرب حتى الآن مئات الآلاف من الضحايا على شكل قتلى وجرحى مزمنين، وذوي إعاقات تتراوح بين البسيطة وبالغة التعقيد.

يستورد العربي كل المستلزمات العسكرية من الدول الأجنبية التي تمتلك المصانع والمواد، ولديها من الشركات ما هي قادرة على توصيل تلك البضائع المميتة إلى أي مكان في العالم العربي؛ سراً وعلناً. يجري ذلك عبر وسطاء رسميين وأهليين، يتقاضون عمولات لا تقل جسامةً في الكلفة عن أثمان المواد الحربية المطلوبة بحرج بالغ.

في النتيجة فإن حفنةً من المنتفعين الغرباء وتجار الحروب، تستحوذ على الجزء الأكبر من التجارة العسكرية الحربية. الشعب العربي يدفع من ماله وممتلكاته ومقدراته فاتورةً عزيزةً، عليه حالياً وعلى الأجيال القادمة. كل ذلك يقدمه على مذبح الأمل بالتغيير المنشود؛ والذي حقيقةً قد لا يعدو أكثر من وعود براقة كاذبة؛ مثلها مثل الحمل الكاذب لدى أُسَر عانت العقم طويلاً.

المواد اللازمة للحرب تبدأ بأحذية المقاتلين ولباسهم الميداني، وتمر خلال أنواع من الأسلحة الفردية الخفيفة والمتوسطة ونوعاً ما الثقيلة. سرعان ما تنتقل إلى المعدات الثقيلة من عربات قيادة وآليات مصفحة ومدرعة ودبابات، وقطع من المدفعية الثقيلة بعيدة المدى. تنتهي أخيراً بأسلحة خيالية التكاليف متقدمة للجو، وبدرجة أقل البر والبحر.

تضاف إلى ذلك تكاليف قطع الغيار والصيانة، والتي بدورها تأتي على ما تبقى من الدخل الفردي والقومي الخجولين. العتاد المطلوب للآلة الحربية العربية مستورَد، ويبدأ بالرصاصة والقذيفة والمقذوف إلى الصاروخ والقنابل العنقودية والفراغية، وينتهي بالصواريخ متوسطة وبعيدة المدى. الفاتورة طويلة وغالية باهظة وعزيزة تحمل الكتل العربية، من حكومات ومعارَضات، على الاقتراض لأجل غير مسمى.

ذلك ما يشل مستقبل الأجيال العربية القادمة، ويحد من استقلالها وقدراتها على توطيد الاستقرار وتحفيز النمو والتخطيط والتطوير.

الفاتورة النفسية والمعنوية والثقافية والحضارية أشد فتكاً، ولا تُقدَّر بثمن. الأجيال العربية تعاني من الأمراض النفسية والمعنوية والتخلف التعليمي والتثقيفي والفكري الحضاري. تجتاحها موجات إضافية من الفساد والتأخر والفوضى وهجر التعليم؛ ميزات تعود بها تلقائياً إلى ما قبل عصور التاريخ الحديث.

تجعلها بيئةً صالحةً لقبول تدخلات أجنبية شريرة بأقل التكاليف على الأعداء. الأجهزة القضائية والتعليمية والصحية والتربوية والتطويرية والتنموية ضحايا مباشرة لحروب التغيير الحديثة.

يلاحَظ ذلك جلياً في الدول التي حلت بها الفوضى والدمار. حصل ذلك نتيجة اتباع سياسات غير عقلانية أو عملية في سبيل إنجاز التغيير المنشود. كان من الممكن أن ينجَز بأقل التكاليف والخسائر.

النزف المالي والاقتصادي والتعليمي والحضاري، لا بد من وقفه بكل الأساليب المتاحة. على الجميع، خاصةً القادة من السياسيين والاجتماعيين والعقائديين، العودة إلى تحكيم العقل البشري. ذلك بدل الانجرار وراء نزوات شخصية فكرية اجتماعية ثيولوجية شريرة، لا يمكن أن تؤدي بالحال إلا إلى الأسوأ.

 الكل مسؤول بدرجة أو بأخرى عن حالة الضياع والخسران التي تعصف بالوجود العربي، من المحيط إلى الخليج. على الجميع التخلص من عقلية تصفية الحساب مع الخصوم باستخدام فكرة الحسم العسكري الحربي. يستقطب «القياديون» في ذلك المجموعات الطائفية والحزبية والسياسية والقبلية والعقائدية؛ وذلك هو عين الجنون والطريق إلى تفاقم الخسران.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1112 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع