عزيز الحاج
تعود ذكرى الثورة العراقية المجيدة والعراق في أسوأ وضع ممكن، لاسيما من بعد غزوات داعش ومن معها واحتلالهم لمساحات واسعة من الأراضي العراقية،فيما تزداد الأزمة السياسية استفحالا وخطورة جراء تشبث المالكي بالسلطة وسياساته الطائفية والإقصائية.
في عام 2000 كتبت في جريدة الاتحاد الظبيانية أن الزعيم العربي الذي يدخل التاريخ بصفحة مشرقة هو: " الذي إذا فشل مرة بعد أخرى، استقال كما يفعل الساسة في ديمقراطيات الغرب. وهو الذي ، إذا وصل إلى قمة الهرم، منع الفساد وضرب بحزم على الفاسدين حتى لو كانوا إخوته أو أبناءه......"و"باختصار،هو الذي يؤمن بانه واحد من الشعب ، لا فوقه ولا منقذه، وأنه غير معصوم ، وأن الحقيقة لا تحتكر، وأن الرأي الآخر يجب سماعه واحترامه، وأن ممارسة القمع جريمة وانحطاط ، وأن الإعلان عن الخطأ فضيلة وارتقاء، وأن الحقيقة لا تتجزأ، وأن انتقائية المعايير مرفوضة ومدانة."
ثورة الجيش والشعب العراقية في 14 تموز 1958 جاءتنا بزعيم يجمع معظم الفضائل التي ذكرت، والحديث عن تلك الثورة مع تجاهل ذكر ودور زعيمها جهل بالتاريخ، وربما تشبث بأخطاء ماضية. ويقينا، لو كان قائد الثورة أحد العسكريين القوميين المعارضين، لقام في العراق منذ ذلك الوقت نظام شمولي استبدادي، كما حدث مع انقلاب الناصريين في مصر.
عبد الكريم قاسم كان مشبعا بعشق الشعب والوطن. نعم ارتكب في مسيرة الثورة، وكانت قصيرة، أخطاء ساعد بعضها على نجاح الانقلاب الفاشي في 8 شباط 1963 ، ولكن فضائله ومزاياه ومنجزاته ترجح كفته في التاريخ. وليس هنا مجال سرد تلك المنجزات الكبرى، فقد كتبنا في ذلك عشرات المقالات والدراسات. إن مدار هذا المقال هو المقارنة بين زعامة قاسم وبين زعامة حكام العراق اليوم حيث ثمة مقارنات متعسفة مجحفة بحق عبد الكريم قاسم، وتشكل تجنيا يضاف إلى ما تعرض له من تجنيات وأحكام ظالمة في حياته.
زعيم الثورة كان وفيا للعراق ولشعب العراق حتى آخر لحظة من حياته التي انتهت بعملية اغتيال مروعة وجبانة أمام شاشة التلفزيون.
قاسم لم يعمل لمصلحة طائفة ما أو عرق ما أو لصالح حزب ما أو عشيرة أو عائلة ما. إنه كان يفكر في كل العراقيين بلا تمييز ويعمل لمصلحتهم جميعا حسب اجتهاده وتوصيات الوزراء، الذين كان معظمهم من خيرة الكفاءات الوطنية، والذين جاؤوا للمناصب وفق المبادئ الوطنية العامة وليس وفق المحاصصات الطائفية والعرقية. كان يزور الكنائس وأماكن عبادة اليهود، ولا يفرق بين كردي وعربي وتركماني، ولا بين سني وشيعي، وهو الذي عين عالما صابئيا مندائيا لرئاسة أول جامعة عراقية برغم امتعاض القوميين وآخرين. وهو الذي أعلى شأن المرأة العراقية، وعين أول امرأة للوزارة، في سابقة على النطاق العربي. وقد أصدر قانونا متقدما جدا للأحوال الشخصية لصالح المساواة بين الجنسين وكان القانون الأكثر جرأة بعد قانون الحبيب بورقيبة. وهو نفس القانون الذي يراد قتله نهائيا واستبداله بما سمي بالقانون الجعفري الذي وافق عليه المالكي وحوله للبرلمان العتيد. وقاسم حاول زيادة دور الشيعة في الحياة السياسية ولكن المرجعية الشيعية عادته وحرضت ضده بسبب قانون الأحوال المدنية، ولأنها اعتبرت الثورة مؤامرة بريطانية. وقد تحولت لإحدى بؤر العمل لإسقاط الثورة وزعيمها. كذلك كان موقف حزب الدعوة الذي تأسس عام 1959، أي بعد عام من الثورة، لغرض واحد وحيد هو التربص بالثورة والتآمر عليها بالتعاون مع حزب الإخوان المسلمين. ولم يعترف حزب الدعوة فيما بعد بذلك الخطأ التاريخي، كما اعترف مسعود البرزاني ومام جلال طالباني بخطأ الانجرار وراء معاداة حكومة الثورة والانزلاق لحمل السلاح. وقد صرح مسعود برزاني أكثر من مرة بأن عبد الكريم قاسم كان وطنيا مخلصا وصديقا للشعب الكردي. وفي حديث خاص مع مام جلال طالباني [ متمنيا عودته بعافية إلى محبيه وهم أكثرية العراقيين]، قبل سقوط صدام، أكد أن مصطفى برزاني لم يكن مندفعا لحمل السلاح، وكان ذلك أيضا موقف أكثرية قياديي الحزب [ كان هناك حزب واحد هو الديمقراطي الكردستاني]،ولكن قلة متوترة في المكتب السياسي استطاعت أن تفرض موقفها المتشنج على أثر غارات العشائر الزيبارية على القرى البرزانية بتشجيع إيراني لإشعال الفتنة؛ فكان الانزلاق الخطير. هذا ما تؤكده أيضا شهادة وزير الثورة اسماعيل العارف في مذكراته المنشورة أوائل التسعينات، والتي علقنا عليها في وقته، وألحقنا تعليقاتنا بكتابنا [ القضية الكردية- التاريخ والآفاق[ الصادر عام 1994. وذكر فيما ذكر أن البرزاني طلب منه أكثر من مرة مقابلة قاسم لشرح التوتر في كردستان وقال له "إن هناك مؤامرة ضد الثورة، وإنه لا يريد التورط لأن الزعيم أحسن إليه وإلى الأكراد." وقد تم أكثر من مقابلة واحدة بين قاسم والبرزاني دون أن يعرف العارف ما دار بين الرجلين. وفي مرة من المرات قال البرزاني للعارف إنه يود اللجوء للهند لأن أتباعه يتهمونه بالتقصير في الدفاع عن الأكراد. والحقيقة إن إبران الشاه لعبت دورا استثنائيا في إشعال الفتيل والتحريض، لا حبا بالأكراد العراقيين، وهي التي حاربت أكراد إيران، وإنما عداء لثورة العراق. وإيران الخمينية لا تقل عن نظام الشاه عداء للأمة الكردية، وهي التي تحرض اليوم ضد إقليم كردستان وتدعم حاكما لا يريد خيرا للأكراد. وقد دفع الشعب الكردي- بعد سقوط حكم الثورة- ثمنا غاليا للاندفاع لمعاداة حكومة أعادت البرزانيين من المغترب، وأصدرت دستورا مؤقتا ينص على أن العراق شراكة عربية – كردية...
قاسم لم يقرب أيا من أفراد العائلة والأقارب، ولم يكن متساهلا مع الفساد، وقتل وهو لا يملك حتى دارا خاصة به، وعندما ورث قطعة أرض في مدينة الصويرة، أهداها لتكون بناية لمدرسة بنات. وقاسم لم يكن حقودا ولا هاوية تأجيج الصراعات السياسية كما هو حال حاكم اليوم، بل دعا الأحزاب المتخاصمة للوفاق، وكان يوصي بحماية مظاهرات معادية له، والتي كانت تهتف حتى بموته. وحين كانت جماهير اليسار تنادي في قاعة السينما ،"إعدم. إعدم"، قاطع خطابه بالقول بما معناه أن يطالبوه بغير هذا، كبناء مستشفى أو مدرسة أو مصنع. وقد رفض تسليح الجماهير المؤيدة له عند الانقلاب خوفا من حمامات دم عامة وشاملة على نطاق العراق.
لم تكن للعراق عهد ذاك موارد نفطية كبيرة، ومع ذلك، فقد جرى تشييد المدن والمساكن للأكثر حاجة من السكان، وشيدت المصانع وأول جامعة، وتمددت بغداد، وازدهرت، وزادت جمالا ورحابة، بالعكس مما حدث لها اليوم من تحولها لعاصمة الوسخ ومياه المجاري والفيضانات وهذا برغم الميزانية الضخمة نتيجة زيادة عائدات النفط بطفرات لا سابق لها في تاريخنا الحديث.
لم يأت قاسم للسلطة بانتخابات، وإن كان يعد لها لولا الانقلاب الدموي، ويقينا لو كانت الانتخابات، لفاز بالأكثرية العظمى من الأصوات. لم يكن منتخبا ولا ديمقراطيا بالمعنى الغربي، ولكنه كان يتصرف بروحية ديمقراطية متسامحة ولصالح العراقيين أجمع ولأن يكون العراق وطنا للجميع، واستطاع بالموارد المالية القليلة، ورغم تعاقب المؤامرات عليه ورغم المصادمات السياسية الحزبية الدموية، أن يحقق في بضع سنوات طفرات هائلة في مختلف الميادين لمصلحة العمال والفلاحين والطبقة المتوسطة وكل القوميات والمذاهب والأديان.
كان إنسانا بسيطا وعراقيا صمميا ونزيها شفافا. وهذا يكفيه. أما محاولة وضعه في كفة متوازنة مع المالكي، المتشبث بالولاية برغم الكوارث التي ساهمت سياساته في خلقها، فهو خطيئة بحق زعيم مستقر دوما في أعماق الملايين.
1455 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع