د. محمّد الارناؤوط
لماذا فشلت أول جامعة في العراق؟
مع المؤرخ سيّار الجميل في كتابه الجديد
في عام 1993 أعلن في الأردن عن تأسيس جامعة آل البيت التي أسندت رئاستها إلى المؤرخ المعروف محمد عدنان البخيت، فاستقطبت كفاءات عالية وطلاباً من العالم الإسلامي.
ومع انضمامي إليها في العام الدراسي الأول 1994-1995 عرفتُ أنها تستلهم جامعة رائدة لم نكن نعرف عنها، ألا وهي جامعة آل البيت في بغداد 1924 -1930، التي ولدت أيضاً بطموح كبير وانتهت إلى فشل سريع. وكان من حسن حظنا في قسم التاريخ أنه كان معنا المؤرخ العراقي سيار الجميل الذي قدم ورقة مميزة عن هذه الجامعة في ندوة عقدت في 1996 عن «بناء الدولة العربية الحديثة: تجربة فيصل الأول بن الحسين في سورية والعراق». ومع إني تركتُ جامعة آل البيت إلا أنني بقيتُ مهتماً بفشل النموذج السابق لأفهم ما حلّ بالنموذج اللاحق، ولذاك سّرني أن التقي د. الجميل في مكان ثالث (تونس) لكي أحصل منه على كتابه الأخير «جامعة آل البيت في العراق 1924-1930» (بغداد 2012)، الذي يشكّل مرجعاً وحيداً بعنوانه عن هذه التجربة الرائدة في التعليم الجامعي بالمشرق.
الجميل يعيد الاعتبار إلى بدايات التعليم الجامعي في العراق وإلى كوكبة من الأكاديميين الذين عملوا بإخلاص على إرساء تعليم جامعي في وقت مبكر. وكتابه ينسف الفكرة الشائعة عن أن جامعة بغداد التي تأسست في نهاية العهد الملكي (1957) هي أول جامعة عراقية، حيث أنه يعود إلى الجذور سواء في ما يتعلق بكلية الحقوق التي تأسست في نهاية العهد العثماني (1908) أو إلى «جامعة آل البيت» التي انطلقت بطموح كبير في 1924 ثم هوت بسرعة في 1930. في ما يتعلق بالبدايات (كلية الحقوق) يلاحظ أنها تزامنت مع عودة الحكم بالدستور والحاجة إلى كوادر حقوقية متعلمة على الأسس الأكاديمية كانت تحتاجها ولايات العراق الثلاث (البصرة وبغداد والموصل)، ولذلك فقد اجتذبت عدداً كبيراً من الطلبة حتى وصل عددهم في 1910 إلى 118. والمهم هنا، على عكس الشائع، أن الدراسة بالكلية بدأت في اللغة التركية ثم تحولت بالتدريج إلى العربية في 1913 في سياق السياسة الجديدة التي اتبعتها إسطنبول بعد مؤتمر باريس 1913. ومع أن الكلية أغلقت أبوابها في 1914 بسبب الحرب العالمية الأولى إلا أنها فتحت من جديد في 1919 لتشكل في 1924 نواة «جامعة آل البيت».
وكان الملك فيصل منذ توليه حكم العراق في 1921 قد عبّر عن اهتمامه بالتعليم العالي وشكّل في 1922 لجنة تأسيسية لأول جامعة في العراق (جامعة آل البيت) لتضم ست كليات (الدين، الطب، الحقوق، الهندسة، الآداب والفنون) في الأعظمية بشمال بغداد. وبعد اكتمال التحضيرات الأولية عيّن رئيساً أو أميناً عاماً لها فهمي المدرس (1873-1944) الذي كان من أعلام العراق في القرن العشرين. وكان المدرس قد برز بعمله في جامعة إسطنبول ثم التحق بالأمير فيصل إلى مؤتمر الصلح في باريس 1919 حيث قام بعدها بجولة في الجامعات الأوروبية المعروفة (السوربون وأوكسفورد وكامبردج) استفاد منها لاحقاً عندما تولى منصبه الجديد. وفي ما يتعلق باسم الجامعة الجديدة يكشف الجميل عن مدى التحامل على الملك فيصل من قبل فريق من العراقيين على رأسهم الشاعر معروف الرصافي الذين اتهموا الملك فيصل بالوقوع تحت تأثير مستشاره اللبناني رستم حيدر لممالأة الشيعة في العراق، على حين أن التحامل اللاحق كان لأسباب أيديولوجية بحتة بعد انقلاب 1958. أما الجميل فيبيّن هنا كيف أن الملك فيصل بعد خمسة أيام من توليه عرش العراق كان ينادي بـ»إعادة مجد المستنصرية» التي بقيت عدة قرون شعلة للعلم، ولكن تبيّن خلال زيارته للمستنصرية في 16/7/1921 أن ما تبقى منها من أطلال لا تصلح لجامعة حديثة في القرن العشرين، ولذلك مال الرأي إلى أن تكون متحفاً أو مكتبة عامة.
ومن ناحية أخرى يخوض الجميل في صاحب الفكرة والمبادرة حيث شاع الرأي أن الميجر ج. م. ويلسون مدير الأشغال العامة هو الذي اقترح على الملك فيصل تأسيس مثل هذه الجامعة، بينما يقطع الجميل بأن «فكرة المشروع ذاته كمؤسسة علمية قد ولدت على يد فيصل الأول، ولكن الميجر ويلسون كساها المزيد من الأفكار والمقترحات (ص 119-120). وهكذا تولت وزارة الأوقاف تمويل بناء الكلية الدينية التي اكتملت في 16 آذار 1923 الذي أسمته الصحف العراقية «يوم الجامعة»، حيث تقدم الملك فيصل عشرات الألوف من المحتفلين ليفتح باب الكلية بمفتاح من ذهب ووزعت على المشاركين شارة الجامعة بألوان العلم العربي التي كتب عليها «تذكار جامعة آل البيت». ويلاحظ هنا أن منهج هذه الجامعة كان يخدم تفكير فيصل الأول في بناء هوية وطنية جامعة، حيث جمعت المواد الدراسية بين الفقه الحنفي والفقه الجعفري وتاريخ الأديان والعلوم الفلسفية الخ.
على رغم الحماسة الكبيرة التي واكبت افتتاح الجامعة في 1924 إلا أنها اتسمت بالتعثر في مرحلة التأسيس حتى انتهى الأمر بالحكومة أن تصدر في 1930 قرارا بإغلاقها وتحويل مبناها إلى مقر لمجلس الأمة (البرلمان) والاكتفاء بإرسال بعثة علمية إلى الجامعة المصرية. وفي ما يتعلق بهذا التعثر يتناول الجميل الاتهامات المتبادلة بين رئيسها فهمي المدرس وساطع الحصري الذي شغل آنذاك منصب مدير المعارف العام في العراق ويصل إلى أن الحصري «كان وراء إفشال مشروع الجامعة» لكونه كان على خلاف شخصي مع المدرس.
ويبدو أن الأمر كان يتعلق بخلفية وأجندة كل واحد منهما. فالمدرس عراقي أصيل اشتغل في جامعة إسطنبول 15 سنة بتدريس الحقوق وتاريخ الآداب العربية وجال على الجامعات الأوروبية وكان من ابناء الجيل الباني للحلم العراقي الجديد، بينما كان الحصري وافداً على العراق يحمل أجندة أيديولوجية ويحرص على أن يكون كل مشروع تعليمي يحمل بصمته. ومن هنا فقد وجه في مذكراته أقسى العبارات لمشروع قانون جامعة آل البيت حيث وصفه «أنه يكون كارثة عظمى للعراق تأسيس أول جامعة للقطر تحت تأثير قانون سيء التصور وسيء الكتابة ومليء بالسخافات»، بينما رد عليه المدرس في صيف 1924 بمقالة قوية بعنوان «جامعة آل البيت وساطع بك الحصري» في جريدة «العالم العربي» اتهمه فيها بأنه يريد إفشال الجامعة الجديدة لتوجيه الشباب العراقيين إلى الجامعة الأميركية في بيروت.
ويبدو أن هذا المصير الذي لحق بجامعة آل البيت العراقية لم يكن حاضراً في 1993 عند تأسيس «جامعة آل البيت» في الأردن دونما إشارة إلى الأصل، على رغم التشابه في الطموح بتعليم جامعي يجمع ما بين العلوم الدينية والعلوم الحديثة، إذ أن رئيس الجامعة د. البخيت واجه مثل هذا الإفشال خلال السنوات الست الأولى للجامعة (1994-2000) لتنتهي الجامعة بتعبيره «من التحليق العالي إلى التحليق المنخفض» أو «من جامعة عالمية إلى جامعة محلية»، وهو ما يستحق مقالة أخرى.
1138 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع