يظهر الحديث عن مكانة المرأة في الإسلام ما أحاط بها هذا الدين الحنيف من رعاية وعناية, وما أعطاها من حقوق كانت قد سُلبت منها في الجاهلية السابقة واللاحقة,
فالحديث عن مكانتها في الإسلام ليس بدعاً من القول, بل هذا كتاب ربنا سبحانه وتعالى ليس فيه سورة, بل ولا آية, إلا وللمرأة فيها نصيب, إما بالاتعاظ وأخذ العبر منها, أو بمشاطرة الرجل أحكامها وتوجيهاتها, بل قد تنفرد عنه في كثير منها, حتى خصص الله للنساء سورة من السور الطوال في كتابه, وجعل لها في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا يمكن حصره من الأحاديث الخاصة بالمرأة, أمراً وتوجيهاً وإرشاداً وبياناً لمكانتها, ولم يسمح لأحد بالانتقاص من مكانتها, أو التقليل من شأنها, فهي الأم, وتحت أقدامها الجنة, وهي الزوجة الصابرة المكافحة المطيعة, وهي الأخت المؤازرة التي ترفع الرأس, والبنت المكللة بالعطف والحنان, وهي فوق ذلك كله ربة البيت, وعماد الأسرة, وملاذ العائلة, وأم الرجال الأفذاذ, والمدرسة التي إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق, فحاشاها أن تكون عورة, وحاشاها أن تكون مجلبة للعار. .
فالعَوْرَةُ في اللغة: سوءة الإنسان, وكل ما يستحيا منه, والجمع عَوراتٌ, والعَوْرَةُ أيضا كل خلل يتخوف منه, وعورات الجبال: شقوقها, والكلمة مشتقة من العور وليس من العار. وقد يطول بنا الحديث عن العورة والعار والعري, فمثل هذا النوع من النقاش لم ينته بين الفقهاء والدخلاء حتى يومنا هذا, خصوصا في المواضيع المتشعبة عن المرأة وخصوصياتها, ولسنا مغالين إذا قلنا إننا لو قمنا بجمعها وتكديسها فوق بعضها البعض فإنها ستغطي قمم الجبال, حتى قال بعضهم إن صوتها عورة, على الرغم من إن ظاهر الكتاب والسنة لا يدل على ذلك, ومنهم من قال: إن النساء ناقصات عقل ودين, ولا جدوى من تعليمهن, ويرون أيضا إن الجهل والغباء خصال متأصلة في تكوين المرأة من النواحي الفسيولوجية والدماغية, ويرون إن البلاهة والخبل نتائج متوقعة للنساء عندما يبلغن سن الشيخوخة, ووصل الغلو عند بعضهم إلى اتهام المرأة بالتسبب في خسائرنا المتعاقبة في الحروب والمعارك, بذريعة إنها لم تحسن إنجاب الرجال والقادة مثلما كانت تفعل في صدر الإسلام, وهناك الكثير من هذا اللغط الذي أطلقه أرباب الفكر الأعور في حملاتهم المتواصلة على النساء, وليس أدل على كلامنا هذا من شبكة اليوتيوب, التي سجلت خطاباتهم بالصوت والصورة ونشرتها بين عامة الناس. .
بداية دعونا نقرأ هذه الرواية الطريفة التي تعكس صورة مشرقة من صور الإسلام في تعامله الإنساني المرن بين الرجل والمرأة. .
تقول الرواية: لما جاء جرير بن عبد الله الحميري رسول أبي عبيدة من الشام إلى بيت الخليفة عمر بن الخطاب يبشره بالفتح استقبلته زوجته عاتكة وسألته عن أخيها سعيد بن زيد, فلما عاد عمر كان أول ما سأل جرير: هل سألتك عاتكة في شيء ؟, فارتبك جرير, ونظر إليها في حرج, فقالت: أما وقد سألك الخليفة فلا تكتم عنه شيئاً, أخبره بالحقيقة. .
فقال عمر: إذن سألتك عن أخيها سعيد بن زيد.
قال جرير: نعم يا سيدي, وبشرتها أنه بخير.
فقال عمر وهو يلحظ تعجب جرير: لو قلت لها أنه مات مقتولا لما قدمت إليك هذا الطعام. .
فقالت عاتكة: ألا تحب يا مولاي أن أطعم الضيف وأكرمه ؟.
فقال عمر: بلى يا عاتكة, وددت لو فعلت ذلك دون أن تسأليه عن أخيك. .
قالت عاتكة: وأي بأس في ذلك ؟.
فرد عمر مستنكراً: وأي بأس في ذلك ؟؟؟. عمدت إلى بشير المؤمنين كافة, فاتخذته بشيراً لك خاصة. .
عاتكة: قد علمت أنك ستحاسبني حسابا عسيراً.
عمر: ومع ذلك ما تحرجت ولا تألمت.
عاتكة: وهل زرأت المسلمين شيئا حتى أتحرج أو أتأثم ؟. .
عمر: تلك حجة النفس الأمارة بالسوء. يوشك من لا يتحرج اليوم من هذا القليل أن لا يتحرج غداً من الكثير.......
ألا ترون كيف تعاملت زوجة الخليفة مع جرير, وكيف استقبلته قبل قدوم زوجها, وكيف خاطبته, وتكلمت معه, وقدمت له الطعام والشراب وأكرمته, وكيف راجعت زوجها وتحاورت معه أمام الضيف. .
دعونا الآن نراجع حديث (المرأة عورة), وهو من الأحاديث الضعيفة التي تعرضت للطعن والتجريح, فقد ورد الحديث بلفظ: ((المرأة عورة, وإنها إذا خرجت من بيتها استشرقها الشيطان, وإنها لا تكون أقرب إلى الله منها في قعر بيتها)), رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر عن حبيب بن أبي ثابت, ورواه ابن خزيمة عن حبيب. .
وهنا لابد لنا من الإشارة إلى إن الإسناد الصحيح لا يعني بالضرورة صحة الحديث كما هو معلوم في علم الحديث, إذ لابد من صحة المتن وخلوه من الشذوذ أو النكارة. فما بالك إذا كان الإسناد غير صحيح بل منقطع, على اعتبار إن حبيب بن أبي ثابت, الذي نقل الحديث, يعد من المدلسين, ولم يسمعه ابن عمر, ثم إن كتاب الطبراني (الأوسط) ليس كتاب سنن, ولا قصد الطبراني بتأليفه أن يجمع الأحاديث الصحيحة, بل أراد أن يجمع فيه الأحاديث المعلولة بالتفرد, حتى يعلم الناس نكارتها, فيأتي المتأخرون ويصححونها, ولو عرف الطبراني ما سيفعل المتأخرون بكتابه هذا لما أظنه كتبه أصلا. .
يروي الطبراني الحديث نفسه في مكان آخر عن ابن مسعود لا عن ابن عمر, دلالة على إن الطبراني لم يجهد نفسه في النظر إلى إسناده حتى يصححه, وإنما اعتمد على ذاكرته, والذاكرة تخون, في حين شكك ابن خزيمة في صحة الحديث, وبين علته في صحيحه, وقال في صحيحه (394): إنما شككت في صحته, لأني لا أقف على سماع قتادة هذا الخبر من مُوَرِّق. .
من المؤسف له ان بعض أرباب الفكر الأعور يظنون إنهم وحدهم يفهمون الدين, وإنهم أفضل من غيرهم في تفسير تعاليمه وتأويلها, ويعتقدون إن من لا يتصرف بشدة مع المرأة سيكون من المقصرين في تعامله الحازم معها. فالإقصاء والتغييب والإبعاد والحرمان والتعسف هي الأسلحة, التي حملها هؤلاء في تضييق الخناق عليها, فهي في نظرهم بهيمة تساق, وعورة تثير الفتنة, وجارية تغوي الرجال. .
وعلى النقيض من هذه الأفكار المتشددة, هامت الكثيرات في فضاءات التحرر, فروجن لأنفسهن في حوانيت التعري, وعرضن أجسادهن للإغراء, فتمردن على نواميس المجتمع, وصارت الأسواق والساحات العامة مسارح مفتوحة لهن لعرض آخر تقليعات الأزياء الفاحشة, فالحرية عندهن مجرد فسحة للتعري أمام الناس والارتماء في العلاقات المشبوهة القائمة على النزوات العابرة. .
ولا فرق هنا بين من يتعامل مع المرأة كبهيمة مقيدة جبلت على الغباء والتخلف, وبين من يتعامل معها كجارية معروضة للمتعة في أسواق التهتك, فالدوافع الغريزية هي التي وضعتها في هذا التصنيف, وقد رصد المفكر الجزائري مالك بن نبي هذه الدوافع بقوله: ((دعاة تحرير المرأة ودعاة حجبها دوافعهم غريزية بحتة)). . .
ربما أسهمت المرأة إلى حد ما في قبول هذه الأوضاع المزرية, وربما اضطرتها الظروف القاهرة لاختيار احد الطريقين, متجاهلة مكانتها الرفيعة في المجتمع, ومتجاهلة مركزها المرموق, ودورها الايجابي في النهوض مع الرجل لبناء المستقبل الزاهر شريطة استردادها حقوقها كاملة. .
دعونا الآن نناقش أرباب الفكر الأعور وجها لوجه, ونقول لهم: هل من العدل والإنصاف أن تصوم المرأة وتصلي وتحج وتؤدي العبادات كلها, لكنها عندما تموت تدخل النار بمجرد أن يكون زوجها غير راض عليها ؟, ثم لماذا تلعنها الملائكة حينما ترفض تلبية طلب زوجها إلى الفراش, ولا تلعن زوجها عندما لا يلبي غرضها ؟, ولماذا يحق لزوجها أن يضربها ويعنفها أمام نساءه متى شاء ذلك ؟, وأي دين هذا الذي يسمح بإهانتها وتوبيخها لأتفه الأسباب ؟, وأي تشريع هذا الذي يسمح بعدم تكفل الرجل لشراء كفن زوجته بعد مماتها ؟, ولماذا يحق لزوجها أن يمتنع عن مساعدتها ماليا عند مرضها وتردي صحتها ؟, ومن ذا الذي أعطاه الحق في الكذب وتلفيق الأعذار لإسكاتها, ولماذا تحرم من حقها في الدراسة وطلب العلم ؟, أليس طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ؟, أم إن كلمة (ومسلمة) حذفت من الحديث الشريف بناءً على رغبات أصحاب العاهات الدماغية, الذين يريدون العودة بها إلى عصر الجاهلية الأولى, بدعوى إنها غير قادرة على فهم المواد العلمية الصعبة, وغير قادرة على التصدي للأزمات ؟. .
هذه ماريا سكلودفسكا (مدام كوري) نالت بنبوغها العقلي ما لم ينله الرجال, فكانت أول من حصل على جائزة نوبل في الكيمياء, وأول من حصل على جائزة نوبل في الفيزياء. جائزتان عالميتان في اختصاصين مختلفين, وهذه الإمبراطورية البريطانية, التي لا تغيب عنها الشمس, حكمتها امرأة منذ أكثر من ربع قرن وحتى يومنا هذا, وانحنى لها بعض الزعماء العرب من المؤمنين جدا بعدم أهلية المرأة, وهذه (ماريا غوبرت) التي حصلت على جائزة نوبل في الفيزياء لاكتشافها غلاف نواة الذرة, و(روزالين يالو), التي نالت جائزة نوبل في الطب لتنميتها علم المناعة والمصليات, و(ريتا ليفي مونتالشيني), التي نالت جائزة نوبل في الطب لاكتشافها عوامل النمو, وجاءت آخر الحاصلات على جائزة نوبل في الكيمياء من إسرائيل, تكريما لتعمقها في الكشف عن وظائف الريبوسوم, اما العربية الوحيدة التي حصلت على جائزة نوبل في العام الماضي فهي اليمنية السيدة (توكل كرمان).
ألا يعلم أصحاب الفكر الأعور إن المصدر الحقيقي لشبهة (النساء ناقصات عقل ودين) هو العادات والتقاليد البالية الموروثة, التي تنظر إلى المرأة نظرة دونية, وإن الإسلام حررها من تراكمات عصور الجهل والتخلف, التي كانت تحتقرها وتنتقص من أهليتها, وان أصحاب الفكر الأعور هم الذين يسعون اليوم لتطبيق التفسيرات الشاذة والمغلوطة لبعض الأحاديث والمأثورات كي تكون سندا لهم في توجهاتهم الغبية. .
لقد جاءت سورة (المجادلة) لتحسم الجدال وتنصف المرأة, وتوجه أكبر صفعة لأصحاب العقول المتخلفة, وهكذا تضافرت الحجج المنطقية مع نصوص الاجتهاد في إزالة شبهة الانتقاص من أهليتها, فالمرأة ليست ناقصة عقل ودين, لأنها نصف المجتمع, ومساوية للرجل في الحقوق والواجبات, قال تعالى في محكم كتابه: ((ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)) صدق الله العظيم. .
والحديث ذو شجون
815 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع