د .محمد عياش الكبيسي
أثيرت منذ أيام قضية الطبيبة السودانية التي حكم عليها القضاء السوداني بجلدها مائة جلدة بتهمة الزنا، ثم بإعدامها شنقا بتهمة الردّة، حيث إن المتهمة تزوجت من مسيحي، وهذا الزواج باطل شرعا، ثم لما سئلت عن ذلك أجابت بأنها مسيحية تبعا لوالدتها، بمعنى أنها تنفي ردّتها عن الإسلام لأنها لم تكن مسلمة من الأصل، وقد استغلت وسائل الإعلام الغربية وبعض القنوات العربية هذه الحادثة لإعادة الجدل حول فكرة «تطبيق الشريعة الإسلامية»، بينما تشكلت لوبيات أخرى للضغط على مختلف القوى في المجتمع الدولي للتدخل بينهم الرئيس الأميركي أوباما!
لا ينبغي تناول هذا الموضوع من الزاوية القضائية، فهذا ليس من صلاحية أحد إلا القضاء نفسه، والقضاء السوداني ليس محلا للتهمة، بيد أن هناك مساحة أوسع وأعمق بكثير من دائرة القضاء وهي التي ينبغي التفاكر والتحاور فيها، خاصة أن هذه الحادثة ترتبط في أذهان الناس بصور مشوشة ومشوهة كثيرا لتطبيق الشريعة.
ينقل الإعلام ووسائل التوثيق والتواصل الاجتماعي صورا تشكل بمجموعها ظاهرة جديرة بالدراسة والتأمل، فهناك صورة لامرأة أفغانية متسترة بحجابها الأفغاني المعروف، توضع في حفرة بعد ربطها بالحبال، ثم ينهال الرجال عليها بالحجارة حتى قضت أمام أنظارهم. وهناك صورة لمجموعة من «المجاهدين» في سوريا يحاولون بطريقة بدائية بتر يد أحد الشباب بتهمة السرقة، فلا يتمكنون من بترها إلا بالضرب المتكرر على المفصل وهو يصرخ من شدة الألم، وهناك عشرات وربما المئات من صور الرؤوس المقطوعة بتهمة الردة، وترى شابا ملتحيا يحمل أحد الرؤوس ويلهو به كأنه كرة بيده، بينما كان أحد المشايخ يلقي بموعظته الدينية والجهادية لبعض الشباب! وقد رأيت أحد الفتية مصابا بحالة نفسية وهو يضع يده على رقبته باستمرار، يقول لأنه في طفولته رأى «مجاهدا» يحمل سكينا يحز بها رأس أحد «المرتدين» في شارع عام من شوارع مدينة الرمادي العراقية. ولا يبعد عن هذه المظاهر ما قامت به جماعة بوكو حرام واختطافها لعشرات الطالبات ثم التعامل معهن كسبايا حرب وفق (تطبيق الشريعة) الذي يرونه!
وإذا كان القضاء السوداني يعمل بشكل مؤسسي ومهني وفي دولة لها سيادتها واستقرارها، فإن غالب الممارسات الأخرى تتم بطرق شاذّة وفوضوية بلا دولة ولا مؤسسة ولا رقابة، مما يجعلها أشبه بممارسات العصابات الإجرامية وإن تلبست لبوس الدين.
لا شك أن أحد أهم العوامل التي تقف خلف هذه الظاهرة هو السلوك الشاذ والبشع الذي تمارسه بعض القوى الدولية والحكومات المحلية، فجرائم الجيش الأميركي في «أبو غريب» والفلوجة، وما تقوم به اليوم حكومة المالكي وحكومة بشّار مما يندى له جبين الإنسانية، ومثل ذلك ما تقوم به العصابات المتوحشة في إفريقيا وبورما، كل هذا يجعل من هذا السلوك الشاذ حالة مألوفة ضمن المشهد العام للسلوك البشري على هذه الأرض، بالممارسة أو بالإقرار أو بالتغافل وعدم الاكتراث، فشعوب الغرب -دعك عن حكوماتها- لم تنطلق منها مظاهرة واحدة للتنديد بجرائم شيّ الأطفال المسلمين في بورما على مواقد النار، وما زالت روسيا والصين توفران الغطاء الكامل لجرائم الأسد حتى بعد استخدامه للسلاح الكيماوي ضدّ الأطفال والنساء وكبار السنّ.
إن هذه الجرائم المعولمة قد أسهمت بصناعة نفسيات مأزومة ومتوترة لدى عدد ليس بالقليل من شبابنا، حتى وصل إلى مرحلة التهوين وربما الاستنكار على كل من يحاول أن يقنعه بالرسالة الكلية للإسلام (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، وأن هذه الرسالة بالأساس جاءت لتنقذ هذا الإنسان المضطهد والمظلوم وليس للتماهي مع هذا الظلم والاضطهاد بمبررات القصاص والتعامل بالمثل، إذ إن الإسلام وفق هذا المفهوم الضيّق والمأزوم سيفقد خصوصيته وسيتحوّل إلى عنصر مضاف من عناصر الضنك والشقاء لهذه البشرية، وهذا ما أثبته الكثير من الممارسات «الجهادية» من أفغانستان والشيشان إلى الصومال واليمن ثم العراق وسوريا.
والملاحظ هنا أن هذا السلوك لم يأت كله انتقاما من الذين يقومون بتلك الجرائم ضد المسلمين والمظلومين، وإنما في الكثير من الأحيان يتم توظيف «الجرائم الأولى» خاصة فيما يتعلق بانتهاك الأعراض وهدم المساجد مثلا من أجل تجنيد العناصر البريئة والغيورة، ثم يتحوّل الأداء إلى تصفية حسابات فئوية و «جرائم ثانية» كما حصل بين «داعش» و «النصرة» وهما من مشرب واحد، وربما انتقل هذا السلوك إلى حالة عدوانية «شريرة» حتى مع الضعفاء والمساكين والمظلومين أنفسهم، وقد ذكر لي أحد المعتقلين السابقين في سجن بوكا -وهو السجن الأميركي الثاني بعد «أبو غريب»، أنه شهد بنفسه مجموعة من «المجاهدين» المعتقلين يقومون بتعزير رجل لتلبسه بجريمة التدخين، ثم انبرى ابنه وهو «مجاهد» أيضا فطلب من أميره أن يوكل أمر التعزير له حتى لا تأخذه العزة بالإثم فينتقم ممن آذى أباه، فسمح له «الأمير» بذلك، فقام يضرب أباه بالحذاء، والأب يقول: والله يا ابني أنا لا أفهم بالدين، لكن لا أظن أن دين محمد يرضى بهذا!
إن كل هذه الممارسات تتم تحت لافتة الإسلام و «تطبيق الشريعة»، وهذا يستدعي من علماء الشريعة بالذات أن يكون لهم موقفهم المناسب وأن يتحملوا مسؤوليتهم، خاصة بعد أن تمكن هؤلاء الشباب من عزلهم نهائيا عن الميدان، وفتح المجال لأسماء مستعارة (أبو فلان) و (أبو فلانة) ليفتوا ويقضوا في دماء الناس وأموالهم، من غير السماح بمناقشتهم أو حتى سؤالهم.
ومن الإنصاف أيضا أن نشير إلى وجود عامل آخر وهو حالة من الشغف والعطش لرؤية الشريعة الإسلامية واقعا على الأرض، بعد أن تم تغييبها إثر سقوط الخلافة الإسلامية وخضوع الأمة للهيمنة الأجنبية في الكثير من مقدراتها وخياراتها، مما مثّل جرحا نفسيا غائرا، ومن هنا يأتي الانتعاش النفسي برؤية المظاهر الشكلية لتطبيق الشريعة وإن كانت بطريقة شاذّة أو مشوّهة، إلا أن هذا التطبيق المشوّه من شأنه أن يقتل هذا الشغف ويحيله إلى حالة من الخوف والقلق، خاصة مع وجود الإعلام المناهض للشريعة وتطبيقها، فالمسلم لا يمكن أن يتردد في قبول الحكم الإسلامي، وإلا فهو لماذا مسلم؟ لكنك ترى اليوم كثيرا من المسلمين وربما من الوسط الشرعي نفسه من علماء وخطباء، يتخوفون بالفعل من الجماعات الإسلامية وينحازون للطرف الآخر ولو كان فاسدا أو مجهولا، وهذا قد لا يكون بالضرورة «نفاقا سياسيا»، بل هو أحد وجوه المشكلة التي تصنعها تلك الممارسات المنحرفة والشاذّة. وهناك أيضا خلط سياسي وإعلامي متعمد بين اللافتات الإسلامية كلها المتطرفة والمعتدلة والتي مارست التجربة والتي لم تمارسها، بحيث تتكون صورة واحدة في الذهن تجمع تحتها كل المشاريع العاملة على «الحل الإسلامي» أو «تطبيق الشريعة» مهما تباينت أو تناقضت.
يمكن القول إن أغلب الصور التي تنقل عن (تطبيق الشريعة) مهما كانت نوايا (المطبّقين)، أقرب إلى تشويه الشريعة وليس إلى تطبيقها، وهي بحاجة إلى محاكمة (شرعية) جادة وشاملة، فالمسألة لم تعد أخطاء شخصية أو اجتهادات جزئية، بل هي ظاهرة خطيرة قد تنعكس بمرور الزمن إلى رأي عام رافض أو مشكك بصلاحية الشريعة ذاتها.
لو بدأنا مثلا بحادثة رجم المرأة الأفغانية، كيف ثبت هذا الحد؟ والزنا لا يثبت شرعا إلا بالإقرار، أو بشهادة أربعة رجال عدول يتفقون كلهم على رواية واحدة ودقيقة لعملية الزنا (كالميل في المكحلة) بتعبير الفقهاء! وهذا لا يحصل حتى في أكثر المجتمعات تحللا وفسادا، وعلى فرض حصوله في بيئة شاذّة فإن وجود أربعة رجال (عدول) في تلك البيئة هو أمر مستبعد، ولو حصل افتراضا فهو شبهة في الشهود تكفي لرد شهادتهم، والله يقول: (لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) النور 13، أما الإقرار فهو إنما يعبّر عن حالة إيمانية عميقة لدى المذنب تجعله يطلب العقوبة ويسعد بها -كما حصل في قصة الغامدية- مع أن الإسلام لا يوجب ذلك، والفقهاء يرجحون الستر على طلب العقوبة، ونصّوا على أن المقرّ لو تراجع عن إقراره سقط عنه الحد، فهل كانت المرأة الأفغانية بهذا الفقه أو بهذا المستوى من الإيمان لتختار بنفسها الفضيحة بين الناس والرجم بالحجارة حتى الموت، مع أن الأمر فيه كل هذا المتسع؟!
الملاحظ أيضا أن هذا الشغف بمعاقبة (المذنبين) كثيرا ما يأتي مقترنا بذنوب من قبل (المطبّقين) قد تكون أشد بكثير من تلك الذنوب، وأذكر هنا حادثتين اثنتين:
الأولى من أفغانستان، وقد ذكرها لي أخي الأستاذ وضاح خنفر الإعلامي والمفكر المعروف، فقد كان مع فريق لقناة الجزيرة بصدد إعداد تقرير عن زراعة المخدرات في أفغانستان، وقد اختاروا منطقة في جلال آباد معروفة بزراعة الأفيون، قال: لما وصلنا المنطقة أحاط بنا بعض المسلحين وكادوا يقتلوننا ظنا منهم أن كاميراتنا هي أجهزة تضر بالأفيون! وأن (الكفار) قد بعثونا لتدمير المورد الأساس للجهاد! وقد جلس المسكين يكرر الشهادتين ويقرأ لهم القرآن ليثبت أنه مسلم، وصار يعتذر لهم عن حلقه للحيته لأنه فلسطيني واليهود في فلسطين يمنعون الفلسطينيين من المظاهر الإسلامية، حتى تمكن من كسب ودّهم وعطفهم، ثم تجرأ فسألهم: كيف أنتم مجاهدون وتزرعون المخدرات؟ فقالوا له: نحن نزرعها ونبيعها للكفار فنخدّرهم بها ثم نقتلهم بفلوسهم!
أما الثانية فكانت في العراق، وسأنقلها بالنص من شهادة أبي سليمان محمد الثبيتي العتيبي القاضي الشرعي لدولة العراق الإسلامية، في رسالته إلى شيوخ القاعدة في خراسان: (.. وسرقة أموال الناس باسم الدولة، ولقد شهدت بنفسي حوادث من هذه، منها ما قام به أمير سرايا الجهاد سابقاً -وهو نائب أمير المؤمنين حالياً أبو عبدالرحمن الفلاحي- حيث غنمت جماعته ستاً وعشرين شاحنة، وقيمة البضائع للشاحنة الواحدة دفتران ونصف عدا قيمة الشاحنة نفسها، فلما اشتكى صاحبها ووصلت لي شكواه استدعيت هذا الرجل فقال لي معتذراً عن هذه الأموال بأنها أموال للرافضة، ولم يُثبت لي ذلك، فلما أثبتنا أنها أموال سنّة قال لي نعم أموال سني، ولكن صاحبها عليه دين للدولة الإسلامية، فلما طالبته بإحصاء الدين وجدنا أن الدين لا يصل إلى قيمة شاحنة واحدة فضلاً عن ست وعشرين شاحنة، فقال لي هذا الرجل -وهو نائب أمير المؤمنين- لقد أخذت هذا المال تعزيراً، لأن عندي أمرا من أبي حمزة بأخذ أي أموال للتجار تذهب إلى بغداد، فسألت عن هذا الأمر فأنكره وقال: لم يصدر مني هذا، ثم قال لي ما نصه بالحرف الواحد: (يا شيخ أبا سليمان أنت قاضي عام الدولة، فلا تدخل في أي قضية حتى نحيلها نحن إليك، لكيلا تذهب هيبتك). ففهمت أن هذا هروب من مواجهة هذا الرجل.. علماً بأن هذا التاجر رجل معروف ويساعد الإخوة في تنظيم القاعدة سابقاً في تهريب مواد متفجرة وأجهزة تفجير عن بعد.. والكل يعرفه في الأنبار).
فانظر كيف يعاقبون رجلا مسكينا بتهمة (التدخين) ثم هم يزرعون المخدرات! ويقطعون يد شاب مسلم بتهمة السرقة، ونائب أمير المؤمنين عندهم يسرق ستا وعشرين شاحنة محملة من مسلم سنّي متعاون معهم! وحين يتجرأ عالم أو مفكر لنقد هذه الظاهرة وعزلها عن اسم الإسلام وشريعته، ينبري بعض المخدوعين والمغرر بهم لتصوير هذا النقد وكأنه طعن في الدين وانتقاص من الجهاد والمجاهدين، وهذا تأكيد لإلصاق هذا الشذوذ والانحراف بالدين نفسه، وهو ما ينطوي على مجازفة خطيرة بسمعة الإسلام ومقبوليته، خاصة إذا جاءت هذه الدفوع من شخصيات لها صبغة دينية أو شرعية. إن النقطة المنهجية الأولى التي ينبغي الاستناد إليها تكمن في تفكيك عبارة (تطبيق الشريعة)، فالشريعة شيء، والتطبيق شيء آخر، الشريعة وحي ودين، والتطبيق فعل بشري، المشرّع هو الله، والمطبّق هو الإنسان، وهذا يعني أننا ننقد التطبيق وقد نرفضه دون أن يؤثر هذا في ديننا وعقيدتنا، ومثل ذلك التفريق بين (الشريعة الإسلامية) و (الدولة الإسلامية)، فالدولة كيان بشري وليست دينا منزلا ولا وحيا مقدسا، وهذا الكيان إنما يقترب من الصواب بقدر قربه من الشريعة، لكنه ليس هو الشريعة، فمن اعترض على الدولة وأدائها حتى لو كانت دولة الخلافة الراشدة لا يعد معترضا على الشريعة، ولذلك كان توصيف الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لمن خرج عليه من المسلمين (إخواننا بغوا علينا)، فالبغي عليه شيء، والبغي على الإسلام شيء آخر، وإذا كان هذا بحق أمير المؤمنين ودولته الراشدة العادلة، فكيف بالمجاهيل ممن منحوا أنفسهم ألقاب الخلفاء والأمراء؟ وكيف بالمحاكم التي تقضي وتنفذ في الكهوف بأسماء وهمية وألقاب مستعارة؟
هناك الكثير ممن سجلوا هذه الملاحظات والخروقات الخطيرة، لكنه ما زال يظن أن نقده لهذه الظاهرة إنما يصبّ في خدمة العدو، والصحيح هو العكس، فـ (المجاهدون) قد دخلوا في صراعات داخلية طاحنة بسبب هذه الممارسات والتصورات المختلفة عن الشريعة، حتى ضمن المدرسة الواحدة، كما أن هذه الحركات خسرت الحاضنة الشعبية وأثارت فيها قدرا كبيرا من الشتات في الرأي والفوضى في التفكير وعدم القدرة على اتخاذ القرار الصحيح، ولو قارنا مثلا بين أداء المقاومة العراقية قبل ظهور (الدولة الإسلامية) وبعده، لوجدنا حجم الكارثة التي أصابت الساحة المقاومة بالكامل، والشيء نفسه تكرر في المشهد السوري، ثم عادت الكرة إلى العراق من جديد، حيث انتفض السنّة بكل توجهاتهم لسنة كاملة ضد سياسات المالكي الطائفية، ثم لما قام المالكي باجتياح ساحة العزة والكرامة في الرمادي انتفض الناس بلا عنوان ولا حزب ولا لافتة، ثم حصلت الكارثة من جديد وفقدت الجماهير حماسها بعد إصرار (داعش) على رفع راياتها وإعلان ولاياتها وإماراتها، وهذا ما يفسّر خروج أغلب الفلوجيين عن فلوجتهم، وعزوف السامرائيين عن القتال بعد أن دارت رحاه ليوم كامل في أحيائهم وأزقتهم، فهل هناك خدمة للعدو أكثر من هذا؟
في الوسط الإسلامي تدور تساؤلات ومناقشات حول إمكانية اتباع سياسة التدرج في تطبيق الشريعة، بين من يرى أن الشريعة نفسها قد جاءت متدرجة بحسب تطور المجتمع المسلم من مكة إلى المدينة ومن حالة الاستضعاف إلى التأسيس ثم التمكين ثم مرحلة الفتح والتوسع، وبين من يرى أن ذلك التدرج كان تدرجاً (سماوياً) لا يحق لأحد أن يكرره حتى لو تكررت تلك المراحل نفسها في مجتمعات أخرى.
الحقيقة أن هذا النمط من التفكير يعد إحدى المشكلات المنهجية والتي قد تعبّر عن تصورات مرتبكة لفلسفة التشريع ومبادئه ومنطلقاته، وقد رأيت من يحاول مثلا بناء استراتيجية العمل الإسلامي اليوم وفق تصنيفات كتب السيرة النبوية لمراحل الدعوة السرية ثم العلنية ثم الهجرة ثم الدولة! ويظن أن الحركة الإسلامية لا بد أن تعيد هذه المسيرة بهذه المراحل ذاتها، ويتطرف آخرون ليلزموا أنفسهم بالمدة الزمنية (الواردة) لكل مرحلة!
مما نقرأه في هذا الصدد أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة لتأسيس العقيدة وبناء النفوس القادرة على تحمل أعباء الدولة، والحقيقة أن هذه المدة لم تكن قراراً في استراتيجية الدعوة، بل هي اضطرار وانتظار، وحين أسلم أهل المدينة من الأوس والخزرج أصبحت الهجرة إليها حلا أكيدا للتخلص من سطوة قريش، والسؤال هنا؛ ماذا لو أسلم الأوس والخزرج قبل ذلك التاريخ؟ هل كان عليه الصلاة والسلام يؤجل الهجرة إليهم ليستكمل الفترة الزمنية اللازمة لهذا الإعداد الإيماني والتربوي؟ الجواب وبكل تأكيد؛ لا، لأنه عليه الصلاة والسلام كان قد بحث بنفسه عن مكان آخر غير مكة كما في قصة الطائف، ولو رحّب به أهل الطائف لاستجاب بكل تأكيد، وهذا معناه أن الثلاث عشرة سنة ما كانت إلا واقعة حال أملتها ظروف معينة وفي بيئة أرضية معينة ولا شأن لها بالوحي والتشريع السماوي.
أما النقاش في مسألة (التدرج)، فقد جاء الارتباك بسبب الخلط بين مقولة (التشريع) وبين مقولة (التطبيق)، فالتشريع هو تحليل وتحريم وهو حق إلهي بحت «أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» الشورى 21، بخلاف (التطبيق) والذي هو فعل بشري تتحكم فيه حيثيات كثيرة ومختلفة تتعلق بطبيعة الزمان والمكان والأرض والمجتمع، وتتفاوت مسؤوليته من شخص إلى آخر، وهنا ينبغي التمييز أيضا بين (التطبيق الفردي) وهذا خارج سياق النقاش أصلاً، وبين (تطبيق الدولة) وهو المقصود عادة بهذا المصطلح، فالنقاش لا يدور حول أداء الفرد هل يشرب الخمر مثلا أو لا؟ وإنما النقاش حول من الذي يحق له أن يلزم الآخرين بهذا الحكم ومتى وكيف؟
إن تطبيق الشريعة بهذا المعنى ينبغي أن يخرج تماماً عن دائرة الأفراد والمجتمعات وأن يبقى منحصرا في دائرة (الدولة)، فمسؤولية الإلزام تتطلب سلطة شرعية ووضعاً قانونياً صحيحاً وآليات محددة للتنفيذ والفصل بين الخصومات وتلقي الشكاوى والدفوعات، وهذا محل تأصيل وبحث طويل في تراثنا الفقهي، وإنه لمن الخطأ والخطر أن يقرأ المسلم حكماً شرعياً فيمنح لنفسه صلاحية تنفيذه في الآخرين متجاوزاً حكم الله نفسه المتعلق بتحديد المسؤوليات والصلاحيات، فلو قرأت مثلاً قوله تعالى: « وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» ثم ذهبت تقطع يد الخادم أو العامل الذي عندك فهذه فوضى وهمجية يتنزه الإسلام أن ينحدر إلى دركها، وهذا ما هو حاصل بالضبط في الكثير من ممارسات الجماعات (الجهادية) فلكل جماعة قاض يحكم بقتل المرتد وقطع السارق دون أن يعرف الناس ما اسم هذا القاضي وما عمره وما تحصيله العلمي وما هي خبرته وأين مكانه ومكتبه؟! وقد قدّر الله لي أن ألتقي بأحد هؤلاء القضاة، وكانت فرصة للتعرف عن قرب على ملابسات هذا العمل، وكان مما سألته عنه في طبيعة عمله؛ هل تتيحون فرصة لشهود الدفاع أو لأهل المتهم بتقديم ما عندهم من معلومات؟! فقال: طبعا لا، لأن ظروف عملنا تتطلب السرّية والتخفي! قلت: فهل تعتقد أن القضاء الشرعي العادل ممكن أن يكون سرياً؟ قال: والله لا أدري لكن هذا هو المتيسر «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»!!
إن الخطاب القرآني مثل: (قاتلوا) و (اقطعوا) و(اجلدوا) و(خذ من أموالهم) موجه للدولة وليس للأفراد أو الجماعات، وإن أي تنفيذ له خارج نطاق الدولة هو خروج عن الشرع نفسه، وتشجيع للفوضى والدمار وإن جاء بثوب ديني وتحت راية دينية، عدا حالة الدفاع عن النفس والتي لها تأصيلها الخاص وفقهها.
والدولة ذاتها لا يحق لها تطبيق هذه الأحكام كيفما اتفق، بل عليها مراعاة المقتضيات الشرعية للتطبيق والتي يغفل عنها الكثير، ومنها:
أولا: مراعاة طبيعة العقد الاجتماعي بينها وبين شعبها بكل مكوناته وشرائحه، فالحكومة تستمد شرعيتها من الشعب، وهذه الشرعية محددة بطبيعة التفويض والتخويل الشعبي، فالنص الديني لوحده لا يعطي الصلاحية لفلان دون فلان، وعليه فالناس إذا أرادوا تطبيق الشريعة فإنهم سيفوضون حاكما أو حكومة ما بالتنفيذ، وإن لم تصل قناعة الناس ووعيهم إلى هذا المستوى، فينبغي على العلماء والدعاة أن يرتفعوا بوعي الناس وفهمهم للدين وأحكامه ولا يحق لجهة ما أن تمنح لنفسها بالقوة صلاحية التطبيق القهري والقسري، كيف والله يقول: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»، وقد رأينا الشرع نفسه يبيح لأهل الذمة أن يمارسوا شعائرهم مع ما فيها من عقائد (شركية) في بلاد المسلمين وتحت حماية الخلافة (الإسلامية)، ويشربوا الخمر أيضا ويصنعونها ويبيعونها لبعضهم البعض، وهذا كله بمقتضى العقد (الذمة) الذي بينهم وبين الدولة، هذا ليس معناه التشكيك بحرمة الخمر أو التدرج في بيان الحكم، وإنما هو الفارق المهم بين منهجية (البيان) و(منهجية التطبيق)، فالبيان لا يحتمل إلا الصراحة والوضوح «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ» المائدة 74، وأما التطبيق فهو الذي يتسع لمرونة واحتمالات ومقتضيات وخصوصيات الأرض والزمان والإنسان.
ثانيا: أن العقد الذي بين الدولة (الحكومة) وبين شعبها يتضمن مسؤوليات متقابلة، فالتفويض يقابله التزام، وإذا كان للدولة أن تعاقب فعليها قبل ذلك أن تفي بالتزاماتها في الحرية والعدل والخدمات والتربية والتعليم وحسم أسباب الجريمة قبل وقوعها، وانظر كيف يشترط الفقهاء في حد السرقة مثلا أن لا يكون للسارق شبهة كأن يكون عاملاً مهضوم الحق أو جائعاً مضطراً لدفع الجوع عن نفسه أو أن هناك سوءاً في إدارة المال كالمال الذي ليس له (حرز) أو المال (السائب)، وقد أوقف عمر بن الخطاب بالفعل حدّ السرقة في عام الرمادة (المجاعة)، ونحو هذا إيقاف الحدود أثناء الحرب، ومن المفارقات أن شهوة الجماعات المسلحة في إقامة الحدود تتزايد أيام الحروب والفتن والجوع والجهل، وهذا كله يسير بعكس المنهجية الإسلامية الصحيحة في التطبيق
1188 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع