ليث رؤف حسين
رحلتي في الحياة والبحث عن شهادة الدكتوراة!!!
الحلقة الثانية والثالثة؛
الطز الثانية للدكتوراه لم تكن سريعة. قضيت الأربعة شهور التالية وأنا أتنقل بين دوائر شئوُن الطلبة والإتحاد الإشتراكي وجامعة القاهرة للحصول على قبول سريع لأن والدتي جلبت لي معها من بغداد توصية راقية من الدكتور محمد بن النحاس باشا الوزير السابق للتربية رسالة إلى عميد جامعة القاهرة محمد حلمي مراد (الذي أصبح وزيرا في حكومة السادات) ورسالة إلى وكيل وزارة التعليم العالي. وهكذا بدأت الرحلة بصحبة الوالدة, التي أصرت على المجيء معي لزيارة رئيس جامعة القاهرة.
دخلنا غرفة الرئيس وكانت عبارة عن صالون ضخم وأبهة بطول لا يقل عن عشرين مترا وعرض عشرة أمتار وسقف عال كسقوف الكنائس وليست كتلك الغرف لعمادات الجامعة البسيطة في موسكو, بعد إلقاء التحية والمجاملات العقيمة رحب بنا الرئيس وقدمت له الوالدة الرسالة من محمد باشا النحاس, بعدها أكلت أول بهدلة من رجل غريب, إلتفت لي العميد وقال بالحرف الواحد مش عيب عليك ياباشمهندس تتعب الماما معاك وتأتي بها إلى الجامعة وهي تعبانة وإنت راجل كبير!!!
أجبته بكلام رجل مكسور الجناحين ولا حول له ولا قوة أمام الوالدة التي لم يكن ليجاري جرأتها غيري أنا وبنفس العنجهية أجبته, إسألها هي لماذا أتت معي!!!
ضحك ثم حول أوراقي لإدارة الوافدين وعميد الهندسة للمتابعة. دخلت في دوامة البيروقراطية في مصر ومر شهر وإثنان وثلاثة وأنا أدور بين المؤسسات والدوائر في حلقات مفرغة وقاسية وشاقة ومُرَّة لأرجع يوميا إلى الشقة في العجوزة الدُرِّي وأنا منهك نفسيا وكان الأصدقاء العراقيين معي في السكن يواسونني مرة بالذهاب والسهر بصحبة البيرة الستيلا في كازينو قصر النيل مع عشاء إسكالوب من البتلُّو المصري وأخرى في جلسة كونكان مع عبد الرزاق العطار وصبري الموصلي وحسن الصراف وآخرون وثالثة بصحبة بنات الهوى (اللاتي لم أقربهن لا قبلاً ولا بعد ذلك في حياتي) في الشقة الفاخرة في شارع الدُرِّي بالعجوزة. ولم أستطع تحمل الإنتظار, إنتظار القبول والإنتظام في الدراسة التي بدأت بالفعل وإنتظار الحب والحبيبة فاطمتي!!
نفذ صبري وصار قلبي يدق بشدَّة كلما قَرُبَ موعد إنتهاء المهلة القانونية في تذكرة السفر التي حجزتها من موسكو ثم فجأة طَزَّيت بالكتوراة للمرَّة الثانية وهربت من الجامعة ومن أهلي وشددت الرحال إلى الكويت ليلتحق نصف قلبي ببقيته التي ذهبت قبلي إلى هناك.
نزلت من الطائرة مساء يوم من أيام تشرين الباردة وإلتيقت الحبيبة في المطار ورحت أحلم وأحلم برحلة جميلة طويلة, حلوة ومرَّة إمتدت للعمر كله. وهكذا إستلمت الدكتوراة الأولى بالحب مع فاطمتي وإختفيت من حياة والديَّ وعائلتي الكبيرة التي صارت تبحث عني في البلدان لتجد مستقري. أصيب والديَّ بخيبة أمل كبيرة لعصياني أوامر والدي لأول مرة في حياتي وتخطيطاتهم لحياتي المستقبلية, وعصيت وتمردت على أوامر الوالدة ووقفت ضد إرادتها وهي التي لا يمكن لأحد ما أن يقول لها كلا!!! ما عداي أنا.
الطز الثالثة للدكتوراة جاءت في عام 1972عندما عملت في إدارة المنطقة الصناعية في الشعيبة في الكويت وكنت مشرفا على قسم الصيانة للمباني والمنشآت الصناعية بعد رحيل المهندس المعماري المصري صبري (وكان لا يحمل الإختصاص الهندسي المطلوب). ومن ضمن مسؤوليات القسم إضافة للصيانة, كان عليَّ مراقبة الميناء الذي يُشَكُّ بتأثره وتحركه بحركة المد والجزر. وكنت أتابع الدراسة وأخذ القياسات بإنتظار لجنة من أستاذين للهندسة الأول بريطانياً والآخر أمريكيا للبت بها لإعطاءنا الحلول الهندسية الملائمة له ونطبقها.
فجأة مات البروفيسور البريطاني وبقي البروفيسور جورج أوستربيرگ السويدي الأمريكي وكان يرأس قسم الهيدرولوجيا (علم المنشآت المائية) بالإضافة إلى عمادة كلية الهندسة في جامعة (نورث ويسترن) في بوسطن ماساتسوتش.
معلومات عن الجامعة: تأسست جامعة الشمال الشرقى Northeastern University كجامعة خاصة في بوسطن، ماساتشوستس؛ في عام 1898. تقدم الجامعة مجموعة من البرامج الدراسية الجامعية وبرامج الدراسات العليا والدكتوراه. وتنقسم البرامج الأكاديمية بين عدة كليات، مثل كلية بوفيه للعلوم الصحية، وكلية الآداب والعلوم، وكلية إدارة الأعمال، وكلية علوم الحاسب الآلي، وكلية العدالة الجنائية، وكلية الهندسة، وكلية القانون، إضافة إلى كلية الدراسات الفنية وكلية الريادة التكنولوجية.
حضَّرت المعلومات التي قمت بها خلال الشهور القليلة التي سبقت حضورالبروفسور أوستربيرج وأعجب بالقياسات التي أُخذت للموقع وبجرأتي في قوة الطرح والبحث الذي قمت به إضافة لما كان مطلوبا. ثم طلب مني إثبات ما أدعيه.
أخذته في يوم قائض ورطب من أيام أيلول وذهبنا في نزهة عمل بحرية لمدة يوم كامل كنا نعصر فيه ملابسنا من شدة الحر والتعرق الذي أصابنا أنا والبروفيسور المسكين ذي الإثنان والستين عاما إلى أن إقتنع بوجهة نظري التي ذكرتها بالتقارير. في اليوم التالي فوجئت به أثناء الإجتماع وقد أعلن فشل الدراسات السابقة وبعد التأكد من طرحي أقر به وطلب من وكيل الوزارة المساعد (سليمان خالد الحمد) بأن أصحبه إلى الدنمارك لتقديم البيانات والنتائج الختامية للبحث لمصمم الميناء (شركة كامبساكس) وغلق الموضوع ووافقت الوزارة على عجل بإيفادي مع البروفيسور وأنا مثل الأطرش بالزفة لا أعلم لماذا قرر أخذي معه؟؟؟
ركبنا الطائرة المتجهة إلى كوبنهاجن والبروفيسور يحدثني عن كلية الهندسة والدكتوراة والحياة والعمل في الحرم الجامعي. فجأة نظر إلي وقال: ليث, هل ترغب بإنهاء دراستك في الدكتوراة؟؟ سأعطيك مقعداً دراسيا لإنهاء الدكتوراة مع منحة حكومية أمريكية.
نعم بودي كان جوابي سريعا, و جالت في رأسي أسئلة كثيرة, أين القبول والموارد المالية وماذا سيكون رد فعل حبيبتي أم العيال وإبنتي الصغيرة لبيبة التي بلغت الثلاث سنوات من العمر؟؟
كان كعسكري محنك, حاصرني من كافة الجوانب وأخذ ينصب الشباك الواحدة تلو الأخرى بطرق عجيبة وعلى مدار عشر ساعات والحديث يدور ويرجع حول الدكتوراة,. شرح لي كيف سيضمن الفيزا من لندن فورا ويحصل القبول للدراسة في الجامعة وكيف سيعفيني من إمتحان التوفل و أخيرا قال لي : لقد تركنا إبني أنا وزوجتي وذهب للعيش بمفرده وبقيت وزوجتي بدون ولد يؤنس وحدتنا وبما أنك شاب, أقترح عليك القدوم معي إلى إمريكا والعيش معي في بيتي كإبن لي!!! ماذا عن عائلتي الصغيرة ؟؟
أنت وعائلتك تستطيع العيش معنا في البيت الكبير. كيف أستطيع أن أقرر مصير عائلتي بدون إستشارة؟؟ كيف أهرب من العمل؟ ماذا سأقول لفاطمتي بعد أن شقيت كثيرا عرقا وجهدا للوصول للوظيفة المرموقة؟؟ مئات من الأفكار والأسئلة تدور في مخي بسرعة البرق ولا أجد لها جوابا آنيا شافيا.
أخيراً طرأت علي فكرة المماطلة, حتى أستطيع إقناع فاطمة والإستقالة من الوظيفة واللحاق به فسألته وماذا عن أخلاق المهنة وكيف سأترك رؤسائي الذين رعوني في الكويت وأترك الوظيفة هربا وبدون إعلام ووو العديد من الأسئلة التعجيزية.
أمامك يومان لتفكر. خذها أو لا!!! لكنك ستندم على ذكر أخلاق المهنة, وقد ندمت بعد عامين لأني طزيت بالدكتوراة المرة الثالثة.
1154 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع