زينب حفني
كثيرون يمرون في حياتنا مرور الكرام، لا نُعير اهتماماً لصورهم المبهرجة، ولا تغرينا ألوان خطوطهم الفاقعة وإن مدَّ الله في أعمارهم! ما أن يرحلوا عن دنيانا حتّى نطوي صفحتهم بلا مبالاة وتتلاشى ملامحهم كأنه لم يكن لهم وجود على سطح الأرض!
وهناك أناس مثل النقوش المحفورة على جدران المعابد القديمة، مهما مضت الأزمان تظل آثارها باقية تُقاوم بشراسة عوامل تعرية الزمن، نقف أمامها مبهورين بجمالها، متسائلين بدهشة عن سر عظمتها!
الشاب (ستيفن ساتون) الذي توفي مؤخراً يُعتبر من الفئة الثانية، وكانت شجاعته قد لفتت أنظار العالم بأسره. واستطاع «ساتون» رغم رحلته القصيرة في الحياة، أن يترك أثراً إيجابيّاً في ذاكرة الناس، وحضر الكثيرون من مختلف البلدان مراسم تأبينه لإلقاء تحية الوداع عليه قبل أن يذهب لمثواه الأخير. وكان «ستيفن» عقب اكتشاف إصابته بمرض السرطان اللعين، وضع قائمة من ستة وأربعين هدفاً، مقرراً أن يستغلَّ كل دقيقة باقية من عمره لإنجازها، وكانت في أولويات أهدافه جمع ثلاثة ملايين جنيه أسترليني لمصلحة علاج مرضى السرطان من المراهقين.
قال «ساتون» مبتسماً أمام عدسات المصورين: «إذا أعطتك الدنيا ليموناً فأصنع منه عصيراً، لكن ماذا تفعل لو أعطتك مرض السرطان؟». كلمات تدل على شجاعة صاحبها وإيمانه بأن أي انسان يجب أن يكون له هدف نبيل يتركه بعد رحيله ليستنفع منه الآخرون حتّى وإنْ كان الموت يقف قاب قوسين من بابه! وكان «ساتون» قد بدأ حملته بعشرة آلاف جنيه استرليني من بلدته التي وُلد فيها، وبمعاونة المدرسة التي درس فيها، ومن خلال أصدقائه عبر صفحات التواصل الاجتماعي، ونجح بالفعل في كسب تعاطف الناس مع قضيته وتجاوب معها عدد من مشاهير العالم لينضموا لحملته التي وصلت التبرعات قبل وفاته إلى ثلاثة ملايين جنيه إسترليني.
من النادر أن نجد مثل نوعيّة «ساتون» في مجتمعاتنا. الأغلبية حين تقع في براثن المرض تستسلم لقدرها وتتأهب لاستقبال الموت بروح يفوح منها اليأس والانتظار القاتل، فكيف يكون الحال لو كان مراهقاً يستعدُّ لخوض معارك الحياة؟ للأسف مجتمعاتنا لا تُتقن فن المقاومة، تظن بأن تقبّل المرض يتنافى مع مواجهة مرارة الواقع! يتوقّف أفرادها عن تتبع خيط أحلامهم لإحساسهم بأنهم لم يعودوا بعيدين عن خط النهاية، وأن أعمارهم لم يتبقَّ منها إلا القليل!
للأسف، كما أصبحنا نعيش أزمة أخلاق بسبب ضياع الذمم وتفشّي الفساد! صرنا كذلك نُعاني أزمة طموحات! قد يتهمني البعض بالمبالغة، ولكن الحقيقة أن أحلامنا لا تنفصل عراها عن المجتمع الذي نحيا فيه! وكلما ارتفع حاجز الاحباطات قلَّ سقف الأحلام، لأن أمانينا لا تبنت من فراغ، وتحتاج إلى شمس مشعة وهواء نقي ومناخ حر وأرض خيّرة تطرح بيسر ثمار أحلامنا. مؤسساتنا التربويّة والتعليميّة تحرص على غرس مبادئ الفضيلة والقيم في أذهان النشء، لكنها لا تُعلمه كيف يتمسك بها إن دقَّ ناقوس الخطر! تغرس في عقله تفاصيل تاريخنا بكل ما فيه من مغالطات وتزييف، وتتجاهل توجيهه كيف يغرس نبتة مثمرة ينتفع بها الناس بعد موته! تسعى لتلجيم عقله بقائمة من المحظورات الدينيّة وترهيبه بالنار وأهوالها، من دون أن تتركه يُعمل عقله ويُحرك فكره لما فيه مصلحة دائمة لمجتمعه.
نحن من أجل هذه التربية الخاطئة نشأنا نحب ذواتنا، ندور في ساقيتها طوال الوقت كأن هذا الكون خُلق من أجلنا وحدنا. قصة «ساتون» لابد أن تُدرّس في مدارسنا، كي يتعلم الجيل الصاعد حب العطاء، وكيف يُسخّر مصائبه في صنع ظلال تحمي غيره من شمس الحياة الحارقة!
1553 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع