إبراهيم الزبيدي
حقيقتان لا يستطيع أحدٌ إنكارهما بسهولة. الأولى أن التحالف الوطني لا يمثل جميع أبناء الطائفة الشيعية العراقية، قطعا وبلا جدال. وادعاؤه بذلك يُعد سطوا علنيا واحتيالا يعاقب عليهما القانون.
فالشارع الشيعي العراقي أكبر من أن يطويه كيان سياسي واحد ويضعه في جيبه. فهو واسع جدا ومتنوع ومتعدد المشارب والعقائد والقناعات. بل هو أكثر من جميع مكونات الشعب العراقي الأخرى ازدحاما بالمبدعين وأصحاب الكفاءات العلمية والثقافية والعلمية ممن نزعوا قشور الفكر الديني الطائفي، وخرجوا إلى عوالم الثقافة الإنسانية المتحضرة، ولم تعد تعنيهم بشيء طائفةُ المواطن أو قوميته أو دينه، بل إنسانيته وحدها دون شريك. فليس من العدل جمعُهم، كلهُم، مع طوابير بشرية ساذجة جرى تجهيلها وتضليلها واستخدامها وقودا لمصالح سياسية ضيقة. كما لا يصح، قطعا، رميهُم في سلة حزبٍ أو ائتلاف أو تحالف، خصوصا إذا كان رجعيا متخلفا يعتقد بأن الديمقراطية تخالف الدين، وبأن الدعوة لفصل الدين عن الدولة كفر وإلحاد.
والشيء الآخر أن الطائفة الشيعية العراقية سبقت المكونات الأخرى في احتضان اليسار والحركات التحررية التقدمية العريقة. والحزب الشيوعي مثال على ذلك، بشكل خاص. ولا ينكر أحد أن الحركة الوطنية العراقية، عبر تاريخها الطويل، مدينة لمناضلين بالملايين من أبناء الطائفة الشيعية العراقية بأعظم التضحيات والبطولات الخالدة. ولا يعقل أن تقبل هذه الملايين التقدمية المناضلة بمحو تراثها الوطني التحرري التقدمي، لتؤخذ رهينة في بيت الطاعة المذهبي المسمى بـ (التحالف الوطني)، بفكره الديني الطائفي المتزمت، ومعاداته المبدأية للديمقراطية وحرية الرأي والعقيدة.
أما الحقيقة الثانية فهي أن الدستور، رغم أنهم هم الذين كتبوه وصادقوا عليه بوصاية بريمر ورعاية المرجعية، لم ينص على أن السلطة التنفيذية تكون، حصريا، من نصيب تحالف (حزب الدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري والفضيلة) بزعم أنه الممثل الشرعي الوحيد للطائفة الأكبر عددا، وهو لا يملك تفويضا من الطائفة باستفتاء شعبي عام يدعم هذا الزعم، بل نص على أن صناديق الاقتراع هي المرجع الوحيد الذي يقرر من يتولى تشكيل الوزارة، وليس أي شيء آخر.
أما ما ابتدعه بريمر وكبار أعضاء مجلس الحكم والمرجعية فهو تسلط احتكاري تعسفي يُكذِّب ديمقراطيتهَم التي يتسترون بأذيالها، ويتذرعون بشرعية انتخاباتها.
وقد رأينا ما فعلته ديمقراطية التحالف بالوطن وأهله حين منح السلطة لنوري المالكي ثماني سنوات مريرة. ولم ينسَ أحدٌ من العراقيين كيف تحايلوا على الدستور، في أعقاب انتخابات 2010 واستصدروا حكما قضائيا من مجلس مدحت المحمود يقضي بأن من يحق له تأليف الوزارة هو الائتلاف الأكبر الذي يتشكل بعد الانتخابات، وليس الحاصل على أكبر عدد من المقاعد، وذلك خلافا لكل أعراف الديمقراطيات في العالم.
وهاهو المالكي يدفع ثمن ذلك الغش القديم، إذ يتعذر عليه اليوم تشكيل الحكومة، وهو الفائز بأكبر عدد من مقاعد البرلمان. ولو لم يرتكب تلك الخطيئة في الدورة السابقة لوجد نفسه مكلفا بالرئاسة هذه المرة فور إعلان نتائج الانتخابات، ولجنب نفسه الصراعات الحامية التي يخوضها على عدة جبهات من أجلها.
ولكن، وكما حكمت مصالح قادة التحالف في الدورة السابقة فسلموا السلطة لنوري المالكي، رغم علمهم بفشله في الدورة الأولى، فقد تحكم تلك المصالح ذاتُها هذه المرة أيضا وتجبرهم على تنصيبه دورة ثالثة.
أما التسريبات التي يتداولها الإعلام، هذه الأيام، عن مشاحنات وخلافات بين أقطاب البيت الشيعي الحاكم فهي مجرد إشاعات لم تثبت، ولم تصبح واقعا بعد.
ومع ذلك فإن دوافع الصدر والحكيم إلى الاعتراض على تسليم المالكي رئاسة الوزارة، هذه المرة، ليست كلُها وطنية وخالية من الغرض الشخصي والحزبي ويحركها خوف صادق وحقيقي على الوطن، وحرص أكيد على أمنه واستقلاله ووحدة شعبه وأراضيه.
فلا ينكر أحدٌ، حتى من داخل التحالف ذاته، أن كبار قادة البيت الشيعي رجالُ أعمال لهم مشاريع ضخمة في العراق وخارجه تعمد المالكي عرقلتها وإفسادها بهدف إضعافهم وتقليم أظافرهم ومنعهم من منافسته على سلطة يريدها خالصة له، ولأسرته، دون شريك.
وحتى لو حدث ما لا يحدث، واقتنعت إيران أخيرا بوجهة نظر الحكيم ومقتدى، واعتبرت المالكي عبئا عليها وعلى نفوذها ومصالحها، ووافقت على تكليف رئيس وزراء غيره، فالمأزق أكبر وأكثر إيذاءً للوطن وأهله. فمن هو البديل؟
طبعا لن يكون إلا إسلاميا من داخل التحالف، بالتحديد، وليس يساريا ولا ليبراليا علمانيا مطلقا، حتى لو كان شيعيا وليا من أولياء الله، وحجة من حججه في العلم والكفاءة والأمانة والشجاعة والنزاهة والوطنية الصادقة.
ويروج بعض رجال الصحافة منذ أيام أخبارا عن احتمال موافقة الحكيم والصدر على الدخول في ائتلاف وطني عابر للطوائف يضمهما مع النجيفي والمطلق وعلاوي لسحب البساط من تحت أقدام المالكي. ولكن الواقع يقول إنها ليست سوى قصور في الهواء.
وحتى لو حدثت هذه المعجزة وولد ائتلافٌ من هذا النوع فهو أيضا زواج مصلحي طائفي محض، وشكل مطور من نظام المحاصصة القديم.
ومع ذلك فقد سارع مسؤولون كبار في التحالف إلى تبديد أحلام من هذا النوع، فأعلنوا أن الصدر والحكيم يطالبان بوضع نظام داخلي للتحالف ينص على " رفض الولاية الثالثة لأية قائمة تتسلم زمام الامور، ويحدد رئاسة الوزراء بولايتين كحد أعلى، مع إعطاء رئيس الوزراء المكلف مدة سنة من أجل اختبار جدارته في ادارة البلاد، وقدرته على بناء الدولة، وازالة الخلافات، فاذا نجح في عمله يُدعم بسنة أخرى، أو بفترة إضافية، أما إذا فشل فسوف يتم استبداله بآخر"، بمعنى أنهما يريدان للعراقيين أن يكونوا فئران تجارب في مختبراتهم. مع العلم بأن النجاح والكفاءة والجدارة أمورٌ تحددها موازينهم هم، ومفاهيمهم التي جربها العراقيون وذاقوا طعمها المر. ألم يكن قانون تزويج القاصرات نجاحا منقطع النظير؟؟
إذن فالوطن باقٍ في محبسه، بين مطرقة نوري المالكي وسندان إخوته المجاهدين في التحالف. والحكومة القادمة باقية أيضا في أحضان الحبايب، أربع سنوات مقبلة. وهنيئا للعراقيين هذه الديمقراطية والتعددية ودولة القانون!!.
1258 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع