د. منار الشوربجي
قد لا يعلم الكثيرون في عالمنا العربي أن الشعب الأميركي هو الأكثر تدينا بين كل الشعوب الغربية، وأن الخطاب العام للسياسيين الأميركيين، الديمقراطيين والجمهوريين، حافل بالكلمات والتعبيرات ذات الدلالات الدينية.
وقد لا يدرك الكثيرون أيضا أن العلمانية الأميركية التي تعني فصل الدين عن الدولة، لم يكن معناها أبدا فصل الدين عن السياسة. لكن الأهم من هذا وذاك، أن مسألة فصل الدين عن الدولة في أميركا مسألة تتسم بالسيولة، ولا تزال مثار صراع مستمر لم يتم حسمه بعد.
فعلى عكس الصور النمطية السائدة في مجتمعاتنا عن أميركا "المادية" والحريات التي "تصل لحد الإباحية"، فإن كل الدراسات الجادة أثبتت أن نسبة المؤمنين بوجود رب لهذا الكون، ثم نسبة المتدينين والمواظبين على ارتياد دور العبادة، أعلى بكثير في الولايات المتحدة بالمقارنة بباقي الدول الغربية.
وكان عالم السياسة الفرنسي الكبير أليكس دي توكفيل، أول من لاحظ منذ زمن بعيد أنه "لا يوجد بلد في العالم للدين المسيحي فيه ذلك النفوذ الروحي الهائل على الناس، كما في الولايات المتحدة".
وهناك علاقة وثيقة للغاية بين الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأميركية. فليس خافيا أن عددا لا بأس به من رجال الدين، يترشح بالفعل لكافة المناصب في أميركا بما فيها منصب الرئاسة.
وفي انتخابات الرئاسة مثلا، يعاب على المرشح إذا لم يتحدث عن انتمائه الديني. وهو ما حدث بالضبط للمرشح الديمقراطي هوارد دين عام 2004، فبدا الأمر للناخبين غريبا ومثيرا للتساؤلات.
وجورج بوش الابن لم يكن أول من استخدم كلمات دينية في خطابه السياسي، فمن يستمع اليوم جيدا لأوباما ومن اعتاد الاستماع لأي من الرؤساء الأميركيين في ما سبق، لا بد وأنه لاحظ كم العبارات ذات الدلالات الدينية.
ومنظمات اليمين الأصولي المسيحي تلعب دورا بالغ الأهمية في العملية السياسية في أميركا، فهي منذ عودتها للعمل السياسي في السبعينات، وبعد أن أحبطها جيمي كارتر في فترة رئاسته فانضوت بكل طاقاتها تحت لواء الحزب الجمهوري، صارت مع الوقت قوة ضاربة داخل الحزب حتى سيطرت على مقدراته مع بداية التسعينات، فغيرت مساره ودفعته أكثر نحو اليمين.
ومع تولي أوباما السلطة صارت لليمين الأصولي وحركة حفل الشاي، هيمنة واضحة على الحزب الجمهوري، من شأنها أن تحدد مصيره على الأقل في المستقبل المنظور.
أما مسألة العلمانية، أي فصل الدين عن الدولة، فرغم أن البعض يراها محسومة في الولايات المتحدة، إلا أن الأمر أكثر تعقيدا مما يبدو عليه.
فالواقع أن ما ينص عليه الدستور الأميركي هو أنه يحظر على الكونغرس أن ينشئ دينا محددا للدولة، أي ينص على أن تظل الدولة محايدة بالنسبة لكل الأديان الموجودة في الولايات المتحدة.
لكن الحقيقة هي أن هذه المسألة لم تتحقق أبدا على أرض الواقع، حيث لم تكن الدولة الأميركية أبدا محايدة بالنسبة للأديان المختلفة. أما مسألة خروج الدين من المجال العام، فلا تزال محل جدل مستمر داخل أميركا.
وكانت آخر حلقات ذلك الجدل، هي الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا الأميركية أول مايو الجاري، وقضت فيه بجواز إقامة الصلوات "المسيحية" داخل المباني الحكومية عند بداية يوم العمل.
وكانت اثنتان من نساء مدينة جريس في ولاية نيويورك قد رفعتا دعوى قضائية ضد مسؤولي المدينة الذين أقاموا صلوات مسيحية قبل بدء الجلسات الحكومية العامة في مبنى حكومي، وكان يتم "تشجيع كل الحاضرين على الاشتراك في الصلاة"، الأمر الذي ينتهك حق غير المسيحيين ويفرض عليهم الاشتراك في صلوات لا يؤمنون بها.
وقد ظل الموضوع مطروحا أمام القضاء المحلي حتى وصل للمحكمة العليا، فحكمت بأن مسؤولي المدينة "لم ينتهكوا دستور الولايات المتحدة، حين بدؤوا الاجتماعات بصلوات تحتوي على تقاليدنا، ولا تجبر أحدا من غير المنتمين للمسيحية على الاشتراك في الصلاة".
أكثر من ذلك، كتب أحد قضاة المحكمة دفاعا عن الحكم أن "السياسيين الأميركيين صلوا دوما أمام تجمعات منذ زمن آبائنا المؤسسين للدولة، الذين كانوا يخطبون في غرف مكتظة في فيلادلفيا وقت إنجاز الدستور.
والصلاة الافتتاحية المسيحية للكونغرس الأول أقامها قس إنجيلي استطاع أن يتغلب على اعتراضات أصحاب الطوائف الدينية الأخرى".
ويعكس هذا الحكم الذي صدر بأغلبية 4:5، انقساما في المحكمة كما في المجتمع الأميركي نفسه. فالمحكمة كانت فيها أصوات مناهضة لذلك المنطق، مثلما توجد أصوات مناهضة له داخل المجتمع الأميركي.
فهناك من يرون عدم البدء بالصلاة أصلا، لأن اختيار دين أو مذهب معين للصلاة يمثل تجاهلا للأديان الأخرى في مجتمع تعددي، بينما يرى آخرون أن التوقف عن الصلاة كعادة موجودة أصلا، يعني الحرمان من حرية التعبير.
الطريف في الأمر هو أن قضاة المحكمة المؤيدين والمعارضين للحكم، أعلنوا ذلك الحكم بعد أن كانوا قد أدوا الصلاة في بداية يوم عملهم! الأمر الواضح إذن، هو أن فصل الدين عن الدولة لم يحسم بعد بشكل نهائي في أميركا!
1210 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع