د. منار الشوربجي
لو أنني أميركية ذات بشرة سوداء، لعشت مرارة شديدة في الأسابيع الأخيرة. لم أكن سأفاجأ بأي مما يجري، ولكنه كان سيزيد من شعوري وشعور عائلتي بالألم، فهو كان أسبوعاً حافلاً لا ريب، يذكر الجميع بقبح العنصرية التي تضرب جذورها في عمق التربة الأميركية.
في بداية الحكاية، خرج فريق من المسلحين المعادين للحكومة الفيدرالية، المعروفين بالميليشيات، يواجهون ممثلي تلك الحكومة، ويؤكدون على وجودهم علناً.
والقصة، باختصار، أن حمل المواطن الأميركي للسلاح حق منصوص عليه في الدستور الأميركي، ومن ثم، لا يملك أحد أن يحرمه منه.
ومن هنا، يوجد أفراد مدججون بالسلاح، وتوجد أيضاً عشرات الجماعات والحركات المسلحة المدججة بالسلاح لأغراض مختلفة، بعضها ديني، كمجموعة ديفيد كوريش مثلاً، التي انتهت بحريق شامل لمقرها في أوائل التسعينيات بمن فيه من نساء وأطفال، ومنها جماعات يطلق عليها حركات الميليشيات، التي تعتبر أن عدوها الرئيس هو الحكومة الفيدرالية.
لكن تلك الحركات التي تعتبر نفسها معادية للحكومة الفيدرالية، عادة ما تكون عضويتها من البيض الذين يعادون الحكومة لأسباب متعددة، منها أنها أعطت حقوقاً متساوية للأقليات، وخصوصاً السود، وأنها تحرص على حماية الأقليات عموماً من التمييز.
وهي أيضاً تعتبر الحكومة الفيدرالية أصل كل الشرور، وربما تتآمر مع الخارج لتجلب لأميركا حكومة عالمية تحكمها.
ومن هؤلاء المعادين للحكومة الفيدرالية، برز في الأسابيع الماضية شخص يدعى كلايفن باندي، رعى ماشيته على أرض مملوكة للحكومة الفيدرالية في ولاية نيفادا على مدى عشرين عاماً، ورفض أن يدفع عنها أية ضرائب لحكومة لا يعترف بها أصلاً، وهي الضرائب التي تراكمت حتى وصلت إلى ما يربو على المليون دولار.
وحين قرر مكتب إدارة الأراضي الفيدرالي أن يذهب إليه لتنفيذ القانون، كان الرجل قد أخطر المؤمنين بقضيته فجاءوا بأسلحتهم لمواجهة ممثلي الحكومة الفيدرالية معه.
لكن تلك نهاية القصة، فقد احتفى إعلام اليمين، وخصوصاً فوكس نيوز، احتفاء واسع النطاق بكلايفن باندي، وحولوه إلى بطل يقف ضد «التوسع في دور الحكومة الفيدرالية». ويبدو أن باندي أعجبته الشهرة، فراح يتحدث براحته عن آرائه في قضايا أخرى لم يكن اليمين يحسب حسابها حين احتفى به.
فقد راح يطلق عبارات تنضح بعنصرية قبيحة، الواحدة تلو الأخرى، حتى ضج به الجميع. فهو على سبيل المثال، تذكر كيف كان يمر بسيارته أمام أحد المنازل التي بنتها الحكومة في شمال لاس فيغاس لغير القادرين «وأمام ذلك البيت الحكومي الذي كان بابه مفتوحاً دائماً، كان يجلس ما لا يقل عن ستة أشخاص.
لم يكن لديهم ما يفعلونه، ولم يكن لأطفالهم ما يفعلونه. ولأنهم كانوا يعيشون على دعم الحكومة، فقد كانوا يجهضون بناتهم ويضعون أولادهم في السجن، لأنهم لم يتعلموا أبداً كيف يجمعون القطن.
فكنت أسأل نفسي، ألم يكن وضعهم أفضل كعبيد عندما كانت عندهم حياة أسرية ووظيفة، أم أن الأفضل لهم أن يعيشوا على دعم الحكومة؟ هل هم حصلوا الآن على حرية أكثر أم أقل؟».
والحقيقة أن عنصرية خطاب باندي، لا تخفي أنه نسي أن يقول إن الدعم الحكومي الذي يحدثنا عنه محدود للغاية، لأن أمثاله لا يدفعون الضرائب لمدة عشرين عاماً، فيكون رد فعل الحكومة الفيدرالية التي يعادونها، أن تصبر عليهم طوال عقدين! وخطاب باندي تجسيد حقيقي لجوهر العنصرية، فالمسألة العرقية لا وجود لها على أرض الواقع، وإنما هي بناء اجتماعي.
فلون البشرة لا معنى له، إلا إذا أضفى المجتمع عليه ذلك المعنى، وعنصرية باندي تعبير دقيق عن ذلك البناء الاجتماعي. فالسود مكانهم بالضرورة مختلف عن مكان البيض، وإذا لم يكن في منازل تدعمها الحكومة، فلا بد أن يكون مكانهم في العودة للعبودية، لا بالانطلاق للمجتمع في مساواة وعدل!
لكن الأجواء العنصرية لم تتوقف عند باندي، إذ امتدت للرياضة، التي هي أحد مجالات فخر سود أميركا.
فمن ولاية نيفادا إلى ولاية كاليفورنيا، كانت قصة المليونير الأبيض مالك فريق كرة السلة. فالمليونير ثمانيني العمر، دونالد سترلنغ، له صديقة في العشرينيات تمقتها زوجته.
فقررت الفتاة أن تسجل محادثاتها لحماية نفسها، ومن بين ما سجلت للرجل، كان حواراً قال لها فيه «يضايقني كثيراً أنك تربطين نفسك بأناس سود»، ورجاها ألا تظهر علناً معهم ولا حتى في الصور.
لكن ذلك الرجل العنصري يملك فريقاً للكرة 70 % من لاعبيه من السود، ثم إن الفتاة التي يحدثها هي نفسها من أصول أفريقية ومكسيكية معاً!
والحقيقة أن أياً من تلك الوقائع، لا تشكل أي مفاجأة لأي أميركي أسود على الإطلاق، فالكل يعلم أن العنصرية موجودة في الولايات المتحدة ولم تختف أبداً.
كل ما في الأمر أنها تطل بأشكال مختلفة من مكان لآخر، ومن مدينة لأخرى، مرة في شكل قتل شاب صغير كل مشكلته هي لون جلده، ومرة في شكل العدد الهائل من السود الموقوفين في السجون الأميركية، ومرة في شكل التلاعب بحق التصويت، ومرة في شكل تصريحات قبيحة مثل تلك عرضتها اليوم.
لكن، مع كل مرة تطل فيها العنصرية، يطل أيضاً ما يدعو للأمل لدى السود في مقاومة الظلم والعنصرية.
وفي هذه المرة كان ذلك في أغنية جديدة، من الواضح أنها تأثرت بالحدثين، لأنها وضعت صوراً لسترلنغ، إلا أن الألبوم ظل يبادلها أيضاً بصور رموز عظيمة في مقاومة العنصرية، من أمثال مالكولم إكس ونيلسون مانديلا، بل وصور لحركة «احتلوا وول ستريت».
ومن بين كلمات تلك الأغنية المعبرة «أشعر أنني أسود حقيقي الآن... كم من الألم قد يجعل عرقاً كاملاً يشعر بالمرارة، والكم المعقول من الحب يجعلنا نضمد جراحنا».
وينتهي الشريط بعبارة «السواد ليس مجرد لون.. السواد لم يعد مجرد عرق، فهو شعور ومكان يشعر فيه المرء بالعزلة».
945 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع