أيام زمان الجزء ٥٧ / الطبخ قديماً
كل ما هو مطبوخ ينتمي إلى «الثقافة»، بينما ينتمي كل ما هو نيء إلى «الطبيعة».
لكي نفهم مكونات وآليات الطبخ التي نقوم بها اليوم، لا بد أن نطلع على المطبخ ما قبل أربعة آلاف عام وما هي مكوناته وآلية طبخه والطبخات التي افرزها من خلال حضارات خالدة.
فحضارة بلاد الرافدين امتدت أراضيها لتشمل أجزاء من تركيا وإيران والشام واتسعت لتضم مزيجًا مختلفًا من المجموعات العرقية مثل السومريين والأكديين والآشوريين والبابليين، وتميزت الحضارة العراقية القديمة بعناصر معينة واعتماهم بشكل كبير على الحنطة والشعير والتمور،
ومن الفواكه التفاح والتين والعنب وفواكه أخرى تستعمل بكميات أقل مثل المشمش والكرز والتوت والإجاص،
وبالنسبة إلى الخضار اعتمدوا على البصل والثوم وعلى الأشكال القديمة للخس والشمندر والبازلاء واللفت والعدس والخيار.
ويعتبر المطبخ أحد الحجرات الأساسية الموجودة في كل أنواع المنازل، وقد تطور المطبخ عبر العصور تطوراً ملحوظا، ما بين الماضي الذي يحمل معه عبق التاريخ الكثير من العصور الماضية، والحاضر والمستقبل، والتي تحمل التاريخ على كتفيها والكثير من الأيام الحالية، وتؤثر العصور في الكثير من الأمور ومنها المطبخ.
يعتبر المطبخ النواة في كل بيت، حتى إن اسمه بات في بعض اللغات مرادفاً للعائلة، وهو حكاية تطور بدأت فصولها قبل مئات آلاف السنين، وتسارعت بشكل مدهش في العصر الحديث، في البداية كان الموقد هو نواة مطبخ اليوم، كما كان منطلق نشأته ومحور تطوره، وظهر عندما اكتشف الإنسان النار، والطعام المطبوخ على النار هو ألذّ طعماً، ويحتمل أن يكون ذلك قد حصل قبل أكثر من مليون سنة، حسبما استخلص بعض العلماء، من اكتشاف بقايا موقد في كهف "وندرويرك" في جنوب إفريقيا، ولكن إجماع العلماء يقتصر على أن الإنسان عرف طهي الطعام على النار قبل 400.000 سنة، وتأكد ذلك بفعل اكتشاف كثير من الحفر المحتوية على بقايا الحطب المحروق المختلط بعظام الحيوانات، في أماكن عديدة من الدول.
كان الموقد الأول عبارة عن حفرة في الأرض، ومن ثم تطوَّر ليصبح فوق الأرض، ولتلافي تطاير الشرر في الهواء، تعلَّم الإنسان إحاطة النار ببعض الحجارة، ومن ثم بناء سور صغير من الطين حولها، وهذا الموقد البسيط ظهر قبل أكثر من عشرة آلاف سنة، لا يزال حتى اليوم يختزل بمفرده المطبخ بأسره في أرياف بعض الدول، حيث يقتصر المطبخ على هذا الموقد المُقام خارجاً في فناء البيت. فالمطبخ بجميع مكوناته وجميع جوانبه، يختلف من حضارة إلى أخرى، ومن عصر إلى آخر، وكل عصر يضع بصمته الخاصة به ويُخلد تاريخه عن طريق تأثيره في الكثير من الأمور.
كان المطبخ أثناء الحضارة اليونانية عبارة عن فسحة واسعة مفتوحة من الأعلى، وهذه الفسحة تكون في منتصف البيت، وكانت المرأة أثناء تلك الحضارة تطهي الطعام في هذا المكان، وبقدوم الحضارة الرومانية، أصبحت المطابخ تتواجد في المناطق العامة، بهذه الطريقة تذهب جميع النساء إلى تلك المطابخ العامة حتى تحضرن الطعام لمنازلهن، ويُذكر أنه في هذا العصر كان هناك مطابخ خاصة أيضاً، ولكن كان يمتلكها الأشخاص الأغنياء، فهذه المطابخ تتواجد بالقرب من بيوت الأغنياء أو بداخلها، فلا يذهب هؤلاء الأشخاص إلى المطابخ العامة، وعلى الرغم من قلة المعلومات عن وصف المطبخ في الحضارة الإسلامية، فإن الأدب الشعبي يشير بوضوح، إلى أن بيوت العامة في العصر الوسيط في كل من بغداد ودمشق والقاهرة، كانت تخلو من المطابخ وتعتمد على المطابخ العامة، إذ كان الناس يحتفظون في بيوتهم بالمؤن التي يحتاجونها، ويرسلون يومياً مستلزمات الطبخة من حبوب ولحوم وخضار إلى مطبخ عام، حيث تطبخ ويعاد إرسالها إلى بيوتهم في الوقت المحدَّد. غير أن الحال كان مختلفاً في قصور الأغنياء والحكّام.
يقال إن السلطان قانصوه الغوري وهو من سلاطين المماليك، مد في السماط أربعمائة صحن صيني، وطلب بأن تعمل المأمونية الحموية، وكل قطعة نصف رطل، وكان من الإوز والدجاج والغنم ما لا ينحصر، ومن اللحم ألف وخمسمائة رطل، ومن الدجاج ألف طير، ومن الإوز خمسمائة طير، ومن الغنم المعلوف خمسون معلوفًا، ومن الرمسان الرضع أربعون رمسيا حتى قيل: صرف على ذلك السماط فوق الألف دينار، بما فيه من حلوى وفاكهة وسكر وغير ذلك، وكانت ليلة مشهودة، وكانت الأطباق تقاس بالأمتار، فمن الطبيعي أن تقاس المطابخ بعشراتها.
وخلال العصور الوسطى في أوروبا، عندما كانت بيوت العامة تتألَّف من غرفة طويلة، والمطبخ يقع في منتصف المسافة ما بين باب المدخل والمدفأة التي تستخدم نارها للطبخ والتدفئة والإنارة، أما في قصور النبلاء، فقد كان في معظمها غرفة خاصة تكون مطبخاً، ولكن مع بدايات عصر النهضة صار هؤلاء يبنون مطابخ منفصلة عن مبنى القصر الرئيسي، لحمايته من الدخان وروائح الأطعمة التي قد تعكر عليهم استقبالاتهم الرسمية، وفي أواخر العصر الوسيط، تم ابتكار مواقد التدفئة المبنية بالحجارة بمدخنة تشفط الدخان إلى ما فوق السطح، ففقد موقد المطبخ وظيفتـه في التدفئة، فانفصلت غرفــة الجلوس عن المطبخ،
متحرَّرة من الدخان. والتطور الثاني الذي شهده عصر النهضة الأوروبية، ابتكار مزيد من مستلزمات المطبخ، التي لم تعد تقتصر على الموقد الحجري وبعض القدور، بل تظهر بعض الرسومات العائدة إلى تلك الفترة، وجود مواقد معدنية تعمل على الحطب أو الفحم، ويُنفخ فيها الهواء ميكانيكياً، ومزودة بذراع ميكانيكية لتقليب المشاوي، يُنسب اختراعه إلى ليوناردو دا فنشي.
بعيدًا عن صورة المستقبل، وعودة للماضي للتعرف على مطابخ العالم القديم، يعرض لنا كتاب "الطبخ في الحضارات القديمة" من تأليف كاثي كوفمان، شرحًا مفصلًا عن ثقافة الغذاء لدى الشعوب القديمة مثل مصر والعراق والرومان واليونان، بالاعتماد على النصوص المكتوبة قديمًا بشأن الأدب المطبخي الذي كان حكرًا على النخبة المثقفة من الأطباء والأدباء والفلاسفة، كما يوضح لنا اختلاف قيمته وفقًا لكل شعب.
فعلى سبيل المثال قدس الإنكشاريين فن الطبخ، إذ وصفهم المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي علي الوردي بأنهم "يعطون أهمية كبيرة للطبخ وتقديم الطعام، فهم مثلًا يقدسون قدور الطبخ ولا يفارقونها حتى في أوقات الحرب ويدافعون عنها دفاعًا مستميتًا"، هذا بالإضافة إلى أرقام المؤن الهائلة ومواد المطبخ التي كانت ترافق الجيش الإنكشاري، وحين قضى المماليك على الجيش الإنكشاري قضى على ثقافته المطبخية أيضًا، وبالتزامن مع الاحتلال الإنكليزي تراجعت نظرة الاحترام والتقدير للعاملين في المطبخ، وبالتالي تخلى الأدباء والأطباء عن الكتابة عنه.
اختلفت الوجبات الغذائية ومكونات الطعام باختلاف الظروف المناخية والعوامل الجغرافية، فبالنسبة إلى المشروبات، اعتمد أغلب سكان مصر وبلاد الرافدين على شرب الجعة يوميًا والأغنياء منهم كانوا يفضلون الخمر، هذا بالجانب إلى الرومان والإغريق الذين فضلوا الخمرة عن الجعة، باستثناء الرومان الفقراء الذين عاشوا في مناطق لم تسمح لهم الظروف المناخية بزراعة الكروم.
أما التوابل، فمن المتعارف أنها كانت باهظة الثمن، وكانت تستورد منها بكميات قليلة جدًا، لاستخدامها في العطور والأدوية، مثل الزنجبيل والقرفة وجوزة الطيب والقرنفل، باستثناء الفلفل الأسود الذي استخدمه الإغريق بكميات قليلة، والرومان بكيمات كبيرة، وفتحوا طرق التجارة إلى الهند وما ورائها، وحظي زيت الزيتون بمكانة مهمة، فكان ينظر إليه بترف ويصدر إلى مصر وبلاد الرافدين، بعد أن اعتادوا لأزمنة طويلة على زيتي السمسم وبذر الكتان، بينما كانا يستخدما بكثرة في الحضارة الإغريقية والرومانية، أما السكر فلم يعرف سوى في القرن الرابع قبل الميلاد، واستعمل كدواء لسنين طويلة، لذلك استخدمت الشعوب القديمة العسل والتين والعنب والتمر لتحلية الأطعمة، ومن أوجه الاختلاف الإضافية بين الماضي والحاضر، لم توجد البطاطا والقهوة والفانيلا والشكولاتة والطماطم والفلفل الحلو والفاصولياء واليقطين في تلك الأيام، لذلك تفتقر أطباقهم لهذه المكونات.
والمثير للدهشة، أن بعض الأغذية التي نستخدمها في يومنا الحاليّ لم تكن بنفس الهيئة، فقديمًا، كان البطيخ أقل بدانة، وكان الخس من النوع الطويل المهلهل وله مذاق مر نوعًا ما، أما الخس المدور الحديث فهو لم يوجد في تلك الفترة، هذا إلى جانب الجزر الحلو البرتقالي الذي كانت ألوانه أشبه بألوان قوس قزح من البنفسجي إلى الأحمر إلى الأصفر إلى الأبيض، وبهذا نستنتج أن أطعمة المطبخ القديم كانت أكثر مرارة من الأغذية الحديثة. أما عادات المائدة في الحضارات القديمة، كانت الأطعمة تقدم على شكل قطع صغيرة أو طرية حتى يسهل تقطيعها وتناولها على المائدة بالأيدي، وكان يتم تناول الأطعمة في أثناء وضعية الاتكاء وليس الجلوس، لكن هذه الطريقة اختلفت تدريجيًا، فلطالما كان الجلوس بانتصاب الطريقة الأكثر تهذيبًا للأكل، ولكن بحلول القرن السابع قبل الميلاد، بدأ الأثرياء يتمددون على أرائك في الوجبات غير الرسمية، واستبعدت النساء من حفلات الأكل في اليونان، وفي حال حضورهن في أي حضارة كن يجلسن ولا يتمددن على الأرائك، وفيما بعد أصبح الأكل بطريقة الجلوس في الحضارة الرومانية والإغريقية دليل على الدونية.
وقدم مطبخ حضارة بلاد الرافدين لموائد العالم القديم، حيث اعتبرت الأفران الحجرية واحدة من أهم الإنجازات التي طورها السومريون، وبالنسبة إلى اللحوم، فلقد استهلكوا أكثر من خمسين نوعًا من السمك وبرعوا في تقنيات حفظه سواء مملح أو مخلل أو مجفف أو مشوي، مع العلم أنه كان من المحرمات على الكهنة، واشتهروا بحبهم للحم الأغنام والماعز، رغم اعتقادهم أن الحليب غذاء للطبقة الدنيا، أما لحوم الأبقار فلقد كانت تخصص للمعابد والقصور والاحتفالات العامة، وبمرور الزمن أصبحت لحوم الخنازير تقترن بالطبقات الوسطى والمعدمة، ودليلًا على ذلك المثل السومري الذي يقول: "اللحم بالدهن جيد جدًا! اللحم مع الشحم جيد جدًا! ماذا سنعطي للأَمَةِ لتأكله؟ فلتأكل فخذ الخنزير"، ونهاية اعتبروا الجراد وجبهة شهية وغنية. كما لم يعرف العسل في بلاد الرافدين إلا في الألفية الأولى قبل الميلاد، لكنه كان يستورد للنخبة الاجتماعية، وكان دبس التمور التحلية الأكثر شيوعًا في ذاك الحين، وبحسب الكتاب خدمت ثقافة المطبخ طبقات المجتمع المختلفة في بلاد الرافدين، تناولت النخب الحضرية أربع وجبات يوميًا، وجبتين رئيسيتين، إحداهما في الصباح، والأخرى مع الغروب، مع وجبتين خفيفتين، أما العمال أو بخاصة الفلاحين فلا يتناولون سوى وجبتين في اليوم، واشتهرت تلك الحقبة بموائد العشاء الليلية، التي كانت تزين بالمصابيح الزيتية والأضواء الباهظة، وكانت تمتلئ الموائد بالأكواب والكؤوس الأنيقة المصنعة من بيض النعام والأحجار شبه الكريمة والفضة، وكان يدهن الضيوف بالزيوت المعطرة ويشعل البخور لهم، واعتاد هؤلاء الضيوف الجلوس في أماكن مخصصة لهم بحسب ترتيبهم الوظيفي، أو مكانتهم في القصر أو أصلهم العرقي، واعتبر من المهين أن يأكل أحد أفراد النخبة مع الفقراء أو الخدم، أو رفض الحضور إلى العزائم الرسمية.
وللحديث تكملة
المرجع: الطبخ في الحضارات القديمة تأليف كاثي كوفمان
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/mochtaratt/65431-2024-10-31-08-51-54.html
895 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع