بين البصرة وبغداد: رحلات وحكايات
أفقت من حلم، راودني مراراً مع بزوغ الفجر. وقفت جوار شباك يطل على الشجرة العملاقة، أتأمل السماء، وبقايا نجوم متناسقة في خطوط الضوء واتجاهات المكان، في وضع بديت فيه وكأني أردد الدعاء بصوت مكتوم.
"لمَ الصوت المكتوم؟" سألتْ حال استفاقتها من النوم قلقة.
فأجبت: "إنه الفجر، طالما رددت جدتي عند توسد حضنها الدافئ، إنه الوقت المحبذ للتأمل والتمني، عندما يكون الناس نيام."
سألت ثانية أو أعادت صيغة السؤال عن شكل الأمنيات التي استحقت درجها في قوائم التمني، والناس نيام؟ أجبت دون تردد:
"أتذكرُ ليلة الزفاف، وسؤال سألتيه عن الأمنيات، لحظة وقوفك وذاك الوجه الجميل بمواجهة شط العرب في مدينة البصرة الفيحاء قبل أربعين عاماً من اليوم. لقد بقيت تلك الأمنية ماثلة في العقل كما هي، لم تذبها عوامل العمر في نقع المكبوت مثل غيرها من المواقف، والأمنيات."
قاطعت قائلة: "كانت حول رغبتك في الطواف حول العالم، دولاً ومدناً وأصقاع، تسد بمشاهدها فراغات استمرت ماثلة في خلايا الجغرافية الموزعة في العقل."
نعم هي كذلك، أمنية باتت تعاودني على شكل أحلام، وجدتُ في تطلعي إلى السماء وقتاً في إنضاج فكرتها.
"خير البر عاجله"، عبارة قالتها، وسألت: "ومن أين ستبدأ؟"
جاء سؤالها بصيغة الموافقة على تنفيذ أمنية تأجل تنفيذها أربعين عاماً بسبب الارتباط الوظيفي ومشاغل العائلة، والمستقبل كانت في عمومها صعبة.
"سنبدأ من العراق، هو أصل بدايتنا، ومن هناك سنختار."
حلَّ اليوم الثاني جلوساً في الطائرة الإماراتية عند الكرسي المجاور للنافذة شبه البيضاوية. اقتربت من مطار بغداد، وكأن في اقترابها عبور للزمن حفنة سنين، هي أمد الفراق. طوالها، الطبيعة المحيطة بالمطار لم تتغير، ولا مشاهد الأرض الجرداء في يباس حشائشها والأشواك، وأطلال القصور التي كانت رئاسية تبدو حزينة تشكو الإهمال. نبت القصب على حافات بحيراتها الصناعية، واختفى سمك الشبوط من مياهها الراكدة.
مشهدٌ فيه استدراج لمحتوى الذاكرة، أشبه بالقسري يُعبرُ عن ماضٍ كئيب كان محبوساً بين جدرانٍ ألوانها صفراء مغبرة، ينوهُ عن حاضرٍ لا يقل اكتئاباً. تنطلق صيحات أصحابه منفلتة من فتحاتٍ كأنها أُبقيت عمداً في الجدران لتصريف أنين أهل العراق.
سماءُ بغداد وقت الهبوط، قريباً من المغيب، صافية تغطيها سحابة لم تكن غيماً، ولم تكن كذلك دخاناً. قالت "إنه وهج الحرارة ولفح الهواء الجاف، سيختفي ليلاً كي يعطي بغداد وسعاً في النظر هو الأحلى من النهار".
قلت بصوت يغطيه الشجن: "ومع هذا تظل بغداد فتاة هي الأحلى، أعشقها مجبولاً في الليل وفي النهار."
لم يتغير مدرج الهبوط والإقلاع لعقود، ولا قاعات المسافرين وسقوفها من الأسطوانات البيضاء المتدلية بهدوء ناعس، ولم تتغير كذلك أساليب المعاملة، وتشابه الأسماء في سجلات أمنٍ تورمت من كثرتها. أُغلقت عند ختم الجواز بعد تأكد الضابط أن القادم بعد غياب طويل ليس الشخص المقصود.
غفوة آخر ليل بغداد، قبل الأذان، انفتحت طوالها أبواب اللاشعور بتداعيات أفكار محبوسة، أو كوابيس، لم أعد أميز في مثل هكذا مواقف بين التداعيات وبين الكوابيس في نوم قلق. ومع هذا، فالعقل نصف النائم ميز شيخاً مظهره وقور، يرتدي جلابية بيضاء ممسوسة بمكواة فحم قديمة، وكوفية أهل الجنوب، سلمَ سلامَ متدينٍ من قريب، يُلزم رد التحية وتقديم الاحترام.
قال مرحباً في بغداد، وسأل عن حيرة في تحديد الطواف والاتجاه، تبرع من عنده لتخفيفها، معروفاً يقدمه من أجل آخرة عنها ينتظر، هكذا قال واستمر مخاطباً: "حيرتك سيدي، تيه، وضيق أمرٍ لا تعرف له اتجاه، أنصحك عدم اتباع العواطف، ولا من سبقك في المشي على الدروب ذاتها."
أجبت وما زالت الحيرة تسيطر على غالب تفكيري: "إذاً سأبدأ من وادي السلام بزيارة قبور من غادرونا، ومنها أنطلق نحو العالم الفسيح."
أجاب باستهزاء باهت: "زيارة القبور لا تجدي نفعاً في هذه الأيام، ولا في قادم الأيام. ضحك من بعدها بصوت معلم رخيم، وأتم قوله ألم تصبح أكوام حجارة".
لكن زيارتها وفاءً لمن سبق، وسعياً لتخفيف الهموم، وفك ضيق الصدور، هذا ما قاله الأجداد يوم ضاقت بهم الأمور. عاود الضحك قهقهة، وقال: "ليس كل ما قاله الأجداد والأولون صحيح، لقد تغيّرَ الزمنُ وأنتم باقون لا تتغيرون. فَتِشْ عن مكان تكثر عند أهله الهموم لتقارن بين همك وهمهم فتهون عليك الهموم، ويتبدد ضيق الصدور."
قلت: "البصرة وأهلها، والنفط وما بقي من موانئها، وذكريات الزواج في ربوعها وفصل من فصول الشباب". وقبل أن يُعلقَ قولاً، جاء الصوت قوياً من الجامع القريب (الله أكبر)، فأختفى الشيخ بلمح بصر، وأستمر النوم عميقاً، مع بقاء صورته في الذاكرة القريبة، كأنها رُسمت بماء الذهب، وكأنه رسم الصورة واضحة وحدد البصرة بداية المشوار.
كان الطريق السريع إلى البصرة طويلاً، تتسابق على سطحه الموسوم بصلاحية السير، سيارات الدوج الأمريكية (چالنجر) بسرعات تتجاوز المائة والسبعين، دون تحديد أو رقيب، إلا من سيطرات عسكرية تنتشر وسطه بين الحين والحين للتدقيق الأمني، لا علاقة لها بالسرعة وحوادث فاقت في كثرتها خروقات الأمن المتفرقة.
رتابة الطريق، وما حوله في المحيط تدفع إلى الكسل، وتشتت الانتباه بين عداد السرعة وبين قواعد أسمنتية هي بقايا أسيجة أكلها الأعراب الساكنين قريباً منه، وتلاعبوا بممراته، وسرقوا الدعامات الجانبية، باعوها بقليل من الدنانير، الزموا الدولة إعادتها بمليارات الدنانير، هم هكذا تعودوا التلذذ في الكسب من حصة الدولة، وإن كان على حساب أرواح تزهق، أو خسائر أموال تدفع من استحقاقات الرفاه المستقبلي.
وقفت إلى جانب الطريق، بعد انتهاء تحويله إلى ممر واحد لتسعين كيلو متراً، عجز أهل الحاضر إكماله ممرين، لا أحد يعرف السبب. أردت إراحة ساقيَّ بقليل من المشي، وتبديد النعاس وأخذ جرعات من الهواء قليل الغبار. قالت لنتبادل أدوار القيادة، فالطريق طويل. وحال جلوسها خلف المقود، تقدم منها راعي غنم كان قريباً، سلم وسأل عن أسباب الوقوف في هذه المنطقة التي أسماها بلهجته المحلية (المنگطعة). رددت بلهجة لا تخلو من الاستغراب: "وهل هناك ما يمنع الوقوف على حافة طريق عام؟"
ضرب عصاه في الأرض وقال: "أولا تعلم بأن أولاد الحرام بالمنطقة أكثر من أولاد الحلال، والسلابة في كل مكان، وأنت لوحدك مع امرأة؟ هذا وحده يكفي لعدم الوقوف".
لم تدع مجالاً لتبادل الحديث مع الراعي المنصف، ولا إكماله بالشكل المعروف. رفعت يديها للتعبير عن الشكر من خلف الزجاج الجانبي، وضغطت على دواسة الوقود، فأخذت السيارة مكانها على الطريق، بسرعة فاقت المعتاد. ولما استوت وهدأت المشاعر، رحت في نومة مستعجلة، حضر في أولها ذاك الشيخ الجليل، ظهر هذه المرة بهيئة قاضٍ يمسك مطرقة، كذلك وقور. حاولت الاستفسار منه عن كثير من أمور ظهرت على الطريق، وقبل التفوه بكلمة، قال: "لقد نجحتَ في الامتحان، وستتأكد أن فهم البصرة والطريق في هذا الوقت العصيب سيعرفك بنفسك، والعراق من حولك، والمستقبل الآتي من بعدك."
"من أنت لتحكم هكذا؟ وكيف لك أن تغيّر هيئتك؟" سألته في المنام.
ابتسم هذه المرة ابتسامة عدم رضا، وسأل: "ألم تود السؤال عن حال الطريق؟"
نعم، لأني واثق من صعوبة التعرف على ما جرى ويجري، وإن سألت أهل الشأن، ستأتي الإجابة محورة تبعاً لموقع المجيب، والمكان، والوقت الحاكم للإجابة.
ابتسم بهدوء الناسك وأجاب: "سببُ التحويلة على الطريق وكثرة الحفر، والتشققات الظاهرة عليه، مقاولات أحيلت، ومن بعد إحالتها أحيلتْ، ومبالغ منها اقتطعتْ، على أحزاب وُزعتْ، جميعها سكتتْ، بقالُ السلطان آخر من عليه رستْ، وزع منها كثيراً، ولم يبق من مال وجبْ، فأخذ ما تيسر من آخر دفعة وهرب."
حال اكتمال إجابته، مرت السيارة على حفرة هزت بدنها، صحوت بسببها مفزوعاً لأتبين أن الشيخ حلم، يتوافق مع الرغبات الشخصية في تفسير الواقع.
..........
اقتربت الشمس في محاقها من حال الغرق في صحراء التيه الزاحف صوب البصرة، وانعكست أشعتها خفيفة على مجموعة بيوت في الطرف الشمالي شُيدَت حوسمة على أرض الدولة. وارتد الباقي منها على الباقي من البصرة خيوطاً حمراء باهتة، مخلوطة باللون الأصفر. شوه الغبار المتصاعد من كل الأطراف جمالها الأخاذ، وحال دون التمتع بمنظرها المبهر لمن قضى ست ساعات نصفها قيادة على طريقها الدولي السريع.
دقائق صمدت هذه الشمس الشاهدة على علل البصرة، توارت خلف أفق مفتوح لتثير ذكرى أول تواجد على أرضها خدمة في الجيش. يوم كانت الشعيبة اسماً يرمز إلى القوة، وعساكر تمتثل للأوامر ضبطاً، تعطي الحياة قدراً من القوة، وبصرة تزهو بأهلها الطيبين، وأنهارها النظيفة، ونواديها المزدحمة، وميناء معقلها النشط، وزوار الخميس يأتون من الكويت وأطراف الخليج. أسموها عروس خليجهم، فكانت حقاً أحلى عروس، وقبلة سياحة شتوية، تستحق التقبيل.
لكن أهل الخليج تركوها عروساً تغتصب ليلة الزفاف، تبادلوا وأهلها والجيران وأبناء العمومة والزمن الغابر، خناجر مسمومة لطعن طهارتها، غسلاً لعارهم المأزوم. شاخت من بعدها وهي في سن الشباب، حتى بات من يدخلها بعد فراق طويل، ومن تركها عروساً جافاها الزمن اللئيم، يسأل لماذا شاخت قبل الأوان؟
أين بواخرها، وتلك الحركة التي لم تهدأ على أرصفتها ليل نهار؟
أين البنات الحسان، وبحارة ذاك الزمان، و(شناشيل) بيوت تزين واجهات لها مزخرفة بأعواد الخشب الزان؟
التفتُ صوب اليمين، وأخرى نحو الشمال، فتشت عن أنهار لها زادت عن الستمائة نهر قبل الزفاف، لم أجد بالمعنى الحرفي نهراً كامل الأوصاف، كأنها أضحت أطلال أنهار، ملأها الجهّال زبالة رائحتها كريهة، وإطارات قديمة، وأبدان مبردات صدئة، وقناني مياه، كأنهم ينتقمون من بصرتهم، أو تبلدوا فأضحوا بلا إحساس.
سرت مسافة ثم توقفت عند الناصية، وقبل معاودة السؤال عن ساحة سعد، وسائق الدبابة الذي هدّم التمثال، وتلك الوجوه النظرة، وابتسامتها السمراء، أخذت نفساً عميقاً من شدة الأسى والاكتئاب. وفي وسط الاكتئاب تخيلت سماع صوت آت من جوف الصحراء، كنت قد سمعت نبرته من قبل، فشككت باقتراب حالي من هلوسة أنتجتها شدة التعب.
دعينا نتوجه إلى الفندق، قلت، فكان فندق البصرة الدولي، خمس نجوم فيه الماء الحلو مضمون وكذلك الكهرباء، قصدناه إلى موقعه على شط العرب، محطتنا الأولى لاستراحة سفر لازمة بعد ساعات الطريق. باحته الوسطية المميزة هي ذاتها يوم كان اسمه الشيراتون، وزرع يتدلى من شرفٍ مطلة يعطي الباحة خيالاً ووسعاً للمكان، كأن خضرته أرجعته في العمر عشرات السنين إلى الوراء يوم كانت البصرة ناهدةً ساعات الزفاف. تبدلت بعد زفافها اللوحات الزيتية المؤطرة على الحيطان، وتغير الفرش، وبعض خطوط الزخرفة، وكذلك مكان الاستعلامات. نظر موظفها نظرة استغراب، كأنه أدرك في العقل علامات تعجب واستفهام، فبادر من جانبه بتقديم شرح موجز عن الفندق، وأثناء تسليمه المفتاح قال، لقد حُرق الفندق بعد السقوط عمداً، لينهبوا موجوداته وأشيائه والأثاث، ويسجلون الفعل ضد مجهول، وأعيد ترميمه استثماراً وتبديل الاسم إلى البصرة الدولي، وأكمل قوله: "البصرة سيدي تستحق مثل هذا الفندق وأكثر، لأن فيها ستة آلاف وخمسمائة شركة، وفيها قنصليات، وجامعات، ومراكز أبحاث، ومنافذ حدود، وشباب عاطلون".
دون سيطرة مني على ذاتي، وكرد فعل انفعالي خرجت عبارة، قوامها (نعلة الله على الشيطان) سمعها نزيل بهندام نظيف، قال: "لمَ تلعن الشيطان؟، كل ما جرى ويجري في البصرة لم يفعله الشيطان، ولا دخل له بمثل هكذا أفعال، إنها من فعل إنسان هذا العصر، فاقت شيطنته ذاك الشيطان".
.....
وهج الحرارة كان لاذعاً في أجواء البصرة طوال النهار، مصحوباً برطوبة أثقلت الأنفاس وأبطأت حركة الاسترجاع لصور من الماضي البعيد. فكرتُ بتغيير خطة اليوم الثالث، ونهضت مبكراً. مشيت على رصيف الشط قبل ساعة من الشروق، تخيلته مرهماً لرتق الجراح، حيث خفتت حدة الوهج، وانخفضت مستويات الرطوبة.
كانت البداية من تمثال السياب، شاعر المعاناة والألم، وحمامة وقفت على يده الممدودة مشدوهة، كأنها تناجي تلك الروح التي أبقتها الملائكة هائمةً، تعتب في هديلٍ حزين على من تركها تحوم غريبةً في المكان. حمدتُ الرب على سلامة التمثال من تجار النحاس، لم يبيعوه قوالب مصهورةٍ أيام القتال، ولم يمحوا ذكراه من هذه البصرة التي ارتبطت باسمه رائداً للشعر الحر، عملاقاً. نظرتُ إلى الماء في الجوار، كان هادئاً إلا من قارب يدفعه محرك صغير، يعكر صفو العبور إلى الجهة الثانية من الشط، يقل شخصين يؤشران معاً على باخرة أبحاث المركز البحري ترسو صدئة جوار الرصيف.
قال الواقف على مدخل مهمل يفضي إليها: "ما زالت تنتج أبحاثاً، لكن المشكلة ليست في الأبحاث، بل في الشمس التي ترفع الحرارة في النهار، وتضاعف وقع البلادة في عقلٍ لا يعير اهتماماً لتطبيق الأبحاث".
كان الرصيف إليها ومنها إلى الأمام مكسواً بحجر مستورد من إيران، بعد فشل إكساء سبقه عدة مرات، أبقى وسطه حفراً، وكأن الحجر المرصوف قد اقتلعته أرجل شباب يتسكعون على حافاته منتشين بمنتجات الأفيون، أو يتحدون الوقع بحبات من الكريستال، يُمَنونَ أنفسهم بإعادة إعلانه مقاولة رصف جديدة تعالج بطالتهم، شباب غارقين في الهموم.
غابت من على ناصية الرصيف تلك المقاهي التي كانت تتزاحم على حافات المياه بعوائل بصرية، وأخرى من السياح، وظهرت في مكانها مصاطب جلوس بُنيت بعد رحيل الفن وغياب ألق العشق المخمور. يبست أشجار الحناء عطشاً، وذوت بشكل غريب أنساق النخيل الشامخة على شاطئ التنومة المقابل. نبتت بدلاً عنها بيوت بلا انتظام، تكدست على جوانب الشوارع بشكل فوضوي، تتباين في ارتفاعاتها وألوانها وأشكالها، بذخَ أصحاب البعض منها وأفرطوا في زخرفتها بينما وقف البعض الآخر متواضعاً، بسيطاً، متمسكاً بقدر من العراقة. أسطحها المتعرجة ونوافذها المتباينة في الأحجام والتصاميم أضفت على المشهد شعوراً بالغرابة والتفرد، وكأن الزمن قد ترك بصماته المختلفة على كل بيت بشكل منفصل. إنه تنوع صارخ، خلق سيمفونية بصرية فريدة، تمتزج فيها الفوضى بالجمال، وتجتمع فيها الفروق لتروي قصة مكان تشكلَ من تجاوزات ما بعد التغيير (2003)، لا تساعد الذاكرة على الاستدراج، ولا تشجع على إكمال التجوال مشياً، فكانت العودة إلى الفندق لتناول الفطور معاً واللجوء إلى السيارة حلاً هو الوحيد لجولة أخرى صوب المعقل، والميناء، ومحطة القطار وجزيرة السندباد.
أخذتُ من شارع الجزائر طريقاً يؤدي إلى تلك الجزيرة، بدا وكأن حافاته قد زحفت إلى وسطه فصار أضيّق مما كان أيام زمان، وبانت المعالم غيرها، كأنها تغيرت فلم يعد أي منها دالاً على المكان. عندها أضحى السؤال لازماً للاستدلال، وكان موجهاً لشاب يقف خلف عربة، يبيع من عليها طعاماً في لفائف صمون، رائحة الزيت المحروق من كثر استخدامه قلياً لبيض مقاوم لحرارة الصيف، قد غطت محيط الدائرة بنصف قطر لا يقل عن عشرة أمتار. فطرحت عليه السؤال:
أين قيادة القوة البحرية؟
أشار إلى جانبه دون أن يرفع رأسه عن المقلاة.
لكنها صرائف وبيوت مشيدة دون انتظام، قلت.
رفع رأسه هذه المرة وقال بفخر الواثق من نفسه: "كانت". ثم توقف عن تقليب محتويات المقلاة قليلاً وأكمل: "دخلناها يوم تركها بحارتها أول ساعات السقوط، أعلنّا من وسطها الانتصار، شيدنا على أرضها بيوتاً نعيش فيها الآن".
ركز على العينين وأكمل: "ما نفع البحرية ونحن جياع؟".
وأين النادي العسكري؟
أومأ بيده صوب اليسار.
لكن ما أراه مجرد مسقفات.
نعم، صار قسماً منه مخازن، وقسماً سكنته عوائل، والآخر تعشعش فيه الغربان. التفت حوله وعاود الكلام: "ألا تعلم أن العسكر الجديد لا يحتاج نوادٍ للترفيه، لأن المنتسبين منغمسون في القتال ليل نهار، وإن سنحت الفرصة لأخذ قسط من الراحة ينغمسون في أعمال لتحسين الحال المعيشي، أو يستعدون لقتال ثانٍ مع عدو مجهول". عندها تركتهُ، وهو من جانبه لم يعر أي اهتمام أو عاود الانتباه على المقلاة. سرتُ قليلاً ثم توقفت باتجاه برج مراقبة، هيكله الكونكريتي يدل على أنه مطار البصرة القديم، وفندق شط العرب التراثي الشهير. لا حاجة هنا للسؤال، فالمطار ومدرجه تقطعت فيه الأوصال، ونمت من حوله الأبنية والعشوائيات، وسُيِّج الفندق بقطع الخرسانة اللعينة بعد استخدامه مقراً للقوات. توقفت ثانية عند آخر كتلة خرسانية، اتكأتُ عليها، هنا بالذات حضرت صورة الملك غازي يوم افتتاحه منتصف الثلاثينات فندقاً عصرياً آنذاك، وحضرت كذلك عناوين كتبت عن المطار في حينه، (أنه قد أنشئ ليكون همزة الوصل بين شرق العالم وغربه). قلت لحظتها: "ها قد بات في نهايته خراباً بلا أطلال".
..........
نظرت إلى جهة الجزيرة السياحية، قلت بصيغة التعجب: "لم أرَّ معالم جزيرة، الذي أراه واجهات بيوت مبعثرة أنشئت حسب أعراف الحوسمة وقوة النفاذ، تتشابه في ربوعها الشواهد والآثار، وكذلك بهاتة الألوان". من بعد هذا سألتها:
هل ترين ما أراه أم أني قد أصبت بعمى الألوان؟
ردت والحسرة ملء شفتيها الجميلتين: "أرى الأغبر لوناً لها، كأنه صار سيداً عليها، وكأن باقي الألوان اختفت من أمامه قسراً". أجبتها والألم بادٍ على مخارج الكلمات: "أو طُعِنتْ بخناجر الجهل الآتية من الريف، ألم تلاحظي أن اللون الأخضر في هذه المنطقة التي كانت مطاراً للبصرة المكناة يومها فيحاء العراق، قد اختفى إلا من نخلة تتحدى الملوحة والزمان، بقيت شامخةً تنازع البقاء، تبكي وحشتها في لهيب النهار".
كانت المنطقة التي تتوسطها النخلة مقفرة، كأن أهلها البصريون الأصلاء قد انسحبوا من واجهتها أمام زحف العشيرة القادمة من خلف مقابر الوادي السحيق، لتنافس حضارتهم. يبدو أنها تمكنت منهم، باتت تحكم المكان بقوة السلاح، ويبدو أن كبار البصرة هجروها، مثل أهل بغداد، أو انعزلوا ينتظرون الخلاص على يد قدرٍ تقول عرافة مشهورة تخفي أصولها اليهودية أنه مكتوب. إلا شيخاً ثمانينياً توحي هيئته وحسن ملقاه، وجلوسه في ظل النخلة إياها، أنه لم يهجر المكان وأنه بصري كان ميسوراً. توقفت قربه ثم ترجلت لأسأل عما جرى في هذا المكان.
رد السلام بلسان البصريين المعهود، قال: "لم يعد لنا وجود نحن البصريين أصحاب المكان، ابتلعنا أولئك القادمون من بعيد، خربوا عقول صبيتنا بطاعون المخدرات، سمموا أفكارنا وآراءنا عن الحياة، والوطن الذي يريدون. أدعياء دين، تعمدنا انتخابهم تقرباً إليهم، وتفادياً لشرورهم، حتى باتوا أسيادنا في الدنيا، ويقال في الآخرة هم كذلك أسياد". توقف لينظر صوب اليمين وأكمل: "انظر إلى ذاك البناء، فندق شط العرب الشهير، نام فيه الملك غازي، ومن بعده فيصل الملك الذي قتلناه، ونوري السعيد، وأمراء الخليج، وأقامت فيه الروائية الشهيرة أجاثا كريستي عدة أيام". غيّر مجرى هذه المرة، حوله بصيغة سؤال:
ألا يستحق التخليد؟
لمَ يضعونه مقراً لقوات أمن يمكنها الإقامة في أي مكان؟
لمَ يجعلون البندقية قَيّمَةً تعلو التاريخ؟
عاود تغيير الصيغة لتكون على شكل راوٍ يجيب على أسئلته وأخرى باتت تتوالى عليه تباعاً: "لكنهم يجهلون وقع التاريخ، لأنهم لا يفهمون إلا البندقية سلطة بزنادها يحكمون. نحن أهل المدينة نختلف عنهم لما يتعلق في الأحكام".
هدأ قليلاً، أعاد التوازن إلى ذاته المنفعلة، سأل عن الوجهة إلى أين؟ ولما عرف القصد تجوالاً لاستدراج صور الماضي البصري الجميل، استأذن المرافقة في التجوال، فكانت المحطة القريبة جسر خالد بن الوليد، قال: "توقفْ هنا، انظر إلى ذاك النادي البحري، في زاوية من الشط، ما زال يرقد ميتاً من ضربة جاءته عمداً من قوات الاحتلال سنة ٢٠٠٣ ، لا تحتاجه العشيرة مكاناً للترويح، فالترويح عندها بندقية ومهوال، ولا تحتاج قاعاته لمناقشة شؤون البحار فهي لا تهوى البحار. ثم أن مياه العراق محروسة من الإله، لا حاجة لها إلى قوات بحرية، ولا إلى نادٍ يتسكع في صالاته البحارة الضباط".
التفت إلى ضفة الشط القريبة، قال: "لقد شوهها الأغراب بنوا عليها أكواخاً بغير انتظام، وسط هذه الأكواخ تعقد صفقات بقصد الابتزاز، تحسم فصول العشيرة ممهورة بدعاوى الابتزاز، تصلها المخدرات عبر هذا الجسر الذي سيتغير اسمه حتماً، تُخزن في دكاكينها، يعاد تصنيع بعضها، ومنها توزع جملةً ومفرداً إلى البصرة، وباقي المحافظات".
كفى شرحاً أيها الشيخ البصري، لنغادر المكان، قبل أن نصبح سلعة للابتزاز، قلتها بوضوح، فابتسم بحسرةِ ناسك، وقال: "لا تخشى الابتزاز، فهم هنا لا يعرفون أصلي، يسمعون كلامي بحكم العمر، يحسبوني صديقاً لهم، وعموماً دعك من هذا القلق غير المبرر وأسأل عن المكان الذي تريد، فالجسر يفضي إلى مناطق عدة جميعها كانت ساحة قتال فيها ذكريات".
سألته عن جزيرة السندباد، فأشار بسبابته صوب أطلال لبقايا جزيرة، وسأل:
ما شأنك بالجزيرة؟
أتذكرها، قبلة سياحة، يتبارك بها العرسان، قضيت في أحد بيوتها (شاليهاتها) الرقم ٤٣ شهر عسل ما زالت حلاوته باقية تحت اللسان.
غص الشيخ في ضحكته حتى كاد يختنق، ثم قال: "كانت جزيرة". لكنها موجودة، أتذكر مدخلها. رد باستهزاء، وكرر القول: "كانت هنا جزيرة اسمها السندباد، في أول يوم احتلال استولى عليها المعدان، والشاليه التي تحاول مشاهدتها إحياءً لذكرى الإقامة فيها يوم الزواج، في باحتها أربع جواميس، تسكنها عائلة تدير عصابة تهريب.
وما أدراك بكل هذا؟ سألته، فضحك مرة أخرى وقال: "إني أقيم هنا، وسأبقى هنا شاهداً على التلويث العمدي لحاضر البصرة، أنتظر اليوم الذي تعود به إلى ماضيها بصرة مثلما كانت، وستعود".
..........
قالت: "لنعود إلى بغداد فجعبة العقل قد امتلأت"، فكان لها ما أرادت. بدأت الرحلة صباح اليوم الرابع، وانتهت عصراً في بغداد. قضينا ما تبقى من اليوم واليوم التالي في استراحة طوعية، وفي اليوم الذي حل من بعد، جاء صوت من الهاتف النقال يؤكد وداع جبار لدنياه، حال بلوغه السبعين من العمر. سارع الأبناء إلى إقامة عزاء له في الجامع القريب من سكنهم شمال شرق بغداد في قضاء يسمى الحسينية، محسوب جغرافياً على بغداد، ومقيم اجتماعياً على الجنوب العراقي. هذا المكان الذي حطت به راحلتهم أولاً بعد مغادرتهم مدينة العمارة عام ٢٠٠٣، يوم استلام الابن الأكبر قحطان وظيفته كملاحظ في أمانة العاصمة بغداد، بتوصية من رجل دين يشارك حزبه في الحكم.
كبير العشيرة أو رئيس فخذها في الحسينية كان قد سكنها يوم بدأت الدولة في ثمانينات القرن الماضي، تخطيط مدن تجاور بغداد أملاً في تخفيف الضغط عليها ضغطاً ناتجاً من تكاثر السكان. هو من أشار على ابن عمه جبار بالسكن في الحي الذي يقيم فيه، وباقي أبناء العشيرة القادمين من العمارة موطنهم الأصلي. نوه يومها إلى أن جميع أبناء العمومة يسكنون هذا الحي، وعوائل أخرى من عشائر جنوبية أخرى تسكن باقي الأحياء. قرر عندها أخذ الحي هذا موطناً جديداً رغبة منه في الحفاظ على التقاليد، والشعور بالاطمئنان بعيداً عن أرض الأجداد.
تكاثرت الأعداد، ازدحم المكان، تغيرت التقاليد، ضعفت سلطة القانون، وصارت الأحياء تسمى بالتسميات الدارجة على العشائر الساكنة، وصارت الثقافة والقيم السائدة عشائرية، وأصبح العيش وسط القضاء أقرب وقعاً إلى الريف القائم لمدن الناصرية والعمارة، وأبعد كثيراً عن وقع الحياة البغدادية. الدلالة وسطه لمن يأتي من خارجه أسهل بذكر العشيرة دون الاسم الرسمي للمكان.
توجهت عصراً صوب الحسينية لقراءة الفاتحة على روح المرحوم، حق علاقة قديمة استمرت فاعلة يوم كنت آمر فصيل في الفوج الثالث لواء الخامس عشر، وجبار عريف الفصيل. أوقفت السيارة عند جوقة شباب كي أسأل، لم أجد الإجابة، فالواقفون من أبناء عشيرة تعادي عشيرة جبار، (تگاومها) لخلاف على سرقة دجاجة.
تكرر السؤال عند جوقة ثانية، وثالثة أبطأت حركة السيارة عندها، فتقدم منها شاب حليق الرأس بطريقة تظهر شعره المنشى مثل ذاك الشعر الموضوع فوق خوذ المقاتلين الرومان، لونه أسود فاحم. سأل عن دوافع السؤال، كان حذراً من الإجابة، فالعشائر هنا، كل منها مطلوب للآخر، وجميعهم مطلوبون للقانون، فاعتادوا التغطية، وعدم الإجابة على أسئلة الغرباء، بل والاندفاع أحياناً وفي حالات الشك بسوء النوايا إلى التضليل في إجابات تعطي عنواناً بعيداً عن المكان المطلوب. لكنه اطمأن بعد أن عرف الغاية، قراءة الفاتحة على روح جبار أحد وجهاء عشيرته، وقفز إلى السيارة مثل قرد في مقتبل العمر، وقال: "عد بالسيارة إلى الخلف، واتبع إشارتي".
بدأ من بعدها سلسلة أوامر متواصلة ترهق أعصاب من كانت أعصابه ناقعة في ماء بارد قائلاً: "رَكِزْ على الطريق". قالها بصيغة الدليل المتمكن، وأعقبها سلسلة تحذيرات: "هذا تكتك سيقطع صاحبه الشارع عرضاً. ابقَ متيقظاً سيتبعه آخر، وآخر. لا تبتئس هم هكذا يسيرون، سلسلة بالرتل المفرد، مثل رهط مشاة يسير جنوده على أرض وعرة". سألته: وما أدراك بهذه المصطلحات العسكرية؟
أجاب: أنا شرطي في الحمايات الخاصة ((FBSطلب من بعد التعريف عن نفسه الاستماع إلى ما يصدر عنهم من ألوان أغان وأهازيج للتمتع وقضاء الوقت. كان التكتك الأول من بينهم أو قدوة الرهط كما شبهه الشرطي الدليل يصدر صوتاً مجسماً للمطربة غزلان بعلو نبرة تشبه تلك التي تحدث في قاعات الأعراس تصم الآذان. ومن بعد هذا التكتك، تكتكاً آخراً يكاد يلامسه، من وسطه ظهر صوت الفنان حاتم العراقي، يغني مقاماً بوقع يعلو مستواه الأول قليلاً حسب الظن، لفقدان معايير القياس. وثالث لمطربة ريف، يكاد صوت الطبل وآهات المنتشين تخنق صوتها الشجي. ومع هذا يمكن تمييزها من بحة الصوت، أنها البنت الأكبر لحمدية صالح. ترك التكتك الرابع في خط سيره، مدركاً بفطنته أنه بعيد نسبياً عن النزول إلى معترك الشارع والتأثير فيه، وأدار بصره محذراً من سيارة كيا جاءت تسير بالمواجهة عكس السير. وقد أمسك سائقها المقود بيد واحدة، بينما تدلت اليد الأخرى من على الباب اليسرى كأنه لم يسيطر عليها، أو وضعها هكذا صيغة استعلاء على الشارع وثقة مفرطة بالذات، ولتأكيد هذا الاستعلاء والثقة لا إرادياً، وضع بين أصابعه سيجارة لم يُشاهَد أنه قد أخذ منها نفساً. حمولته راكب واحد وخروف أبيض، قال الدليل عباس بصيغة أمر: "لا تنحرف عن الطريق".
كذلك لم ينحرف سائق الكيا، كاد الأمر يصل حد الصدام. بسببه توقف السير في هذا الشارع، تعالت أصوات المزامير مثل زفة عرس بغدادية. ترجل عباس من مكانه، اتجه إلى السائق المقابل، تكلم معه بكلام غير مسموع، وعاد مسرعاً ليعلن أن ذاك السائق من عشيرته، سينحرف عن خط السير احتراماً له، ولو لم يكن من عشيرته، لجلب شبابها طرفاً لتحطيم سيارته وفض النزاع.
استمرت سيارتي الجيب في حركتها تحاذي مارة يتحركون بين السيارات كأنهم في موسم حج، لا يعيرونها اهتماماً، وأنا كذلك لا أعيرهم أي اهتمام. كانوا يشتمون بأصوات لا تسمع، كأنهم تعودوا على نمط سير لم يكن موجوداً إلا في هذه المدينة الصاخبة.
استمر السير، ومتابعة حركة الشارع والمارة، وما على الأرصفة وقريباً منها. كان على طولها معامل حدادة، تخدش أصوات تقطيع ألواح حديدها، حياء السمع، تزيد من تشويه الصورة السمعية لطرب تتداخل وسطه الأغاني والألحان، وجنس المطربين. تجاورها ماكنات لحيم تتطاير شرارتها على المارة دون حساب. وسطه جزرة ترابية أراد المخططون وضعها أداة تعريف أو وصلة ارتباط بشارع نظامي ذو اتجاهين. حولتها الحاجة وتجارة العوز إلى سوق شعبي تملأه بسطيات تجاوزت على التخصص في البيع. أوكل أصحابها شأن الدعاية لبضائعهم إلى أجهزة صوت من أقراص مدمجة، تسمعها تباعاً: (كيلو تفاح بألف - الموز بألف - البرتقال بألف - كل كيلو من كل شيء بألف). أسطوانة مشروخة تتكرر، يختلط صوتها مع صوت أسطوانة أخرى من جار يبيع الدجاج يعلن بالطريقة ذاتها: (الدجاجة بخمسة - مذبوحة بخمسة - منظفّة وجاهزة بخمسة). إلى جوارهما دهين أبو علي يعلن عن دهينه بالدهن الحر بالطريقة ذاتها. وهكذا استمر الحال حتى نهاية الشارع. أشار عباس بطرف أصابعه إلى شارع، أو شبه شارع ترابي زحفت على باحته البيوت، لتقام عليها مضائف، ودواوين، ودكاكين، رفعت عليها رايات طوائف وعشائر. أراد أصحابها الاحتماء بها رمزية ذات دلالة، وأبقوا فضلاً منهم على الدولة ممراً يصلح لنفاذ سيارة واحدة سائقها نبيه.
أمر عباس بالتوقف في نهايته، سأل:
هل تعرف مكان الجامع؟ ثم أجاب هو عن سؤاله واثقاً: "لا يمكنك التعرف على المكان".
كان القصد من السؤال واللف في أكثر من شارع والدوران هو المساومة على مبلغ لإكمال مشوار الدلالة إلى الجامع، وترك العودة شأناً ليس من شأنه.
خاطبته بلهجة فيها قدر بسيط من الاحتجاج والصرامة: "لكنك لم تكمل المشوار، ولم تدلنا على أصل المكان". فأجاب واثقاً من وقوفه على أرض تمتلكها العشيرة: "خمسون ألفاً سأوصلكم إلى باب الجامع، من طريق قريب، شرط استلامها مقدماً".
ومن يضمن عدم الغدر؟
رد وابتسامة خبيثة تعلو وجهه الأسمر: "أنا أخو هدله أغدر بكم، وأنتم ضيوف عشيرتي".
استلم الخمسون ألفاً ورقة نقدية واحدة، وضعها داخل الجيب الخاوي، وسار في طريق آخر، نصفه شارع، ونصفه الآخر مستنقع، حتى وصل الجامع المنتصب بهياً على شارع نظامي، توقف قبله بمائة متر أشار اليه ثم نزل، ليغوص بين البيوت كأنه واحد من الجن في مدينة لا يمكن للجن العيش وسطها دون معاناة.
563 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع