خالد أحمد زكي وتجربة الكفاح الشعبي المسلح في جنوب العراق
جاءت تجربة الكفاح المسلح التي خاضها مسلحون تحت اسم (جبهة الكفاح الشعبي المسلح) بقيادة خالد أحمد زكي من بريطانيا لتحقق بطريقة مختلفة ما عجز عنه الآخرون .
وكان خالد احمد زكي قد قرر ترك كرسي الدراسة ومكتبه كسكرتير للفيلسوف العالمي (براتراند راسل) في عمله الرائد كمؤسس لمحكمة العدل الدولية، والتخلي عن المركز المحتمل الذي كانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ستضعه فيه، في حالة استقراره ببغداد للاستفادة من خبرته وثقافته ومعرفته بمراكز وشخصيات إنسانية عالمية.
ترك ذلك كله ليتخذ من أرياف الجنوب منطلقاً لمقاومة السلطة القائمة، من اجل :اولاً : إثبات خطأ سياسة ما سمي ( بالخط اليميني المهادن) المهيمن باستمرار على الحركة اليسارية العراقية ، وثانياً الحصول بقوة السلاح على نتائج سياسية وإقتصادية عملية لمصلحة الطبقات الاجتماعية الفقيرة.
كان خالد احمد زكي آخر عهده بمدينة بغداد ، دار عز الدين مصطفى رسول الواقعة خلف السدة حيث زاره فيها عزيز الحاج وبقي معه مدة يومين ،
وكان الحاج عائدا تواً من لقاء مع الملا مصطفى البارزاني الذي أخبر الحاج "أن جنوب العراق والاهوار لا تصلحان للكفاح المسلح " . وعندما سمع خالد احمد زكي ذلك اجاب" أنا زرتُ احراش فيتنام وشاهدتُ كفاحهم . الاهوار اصلح من الجبال للكفاح" وكانت تلك الزيارة قد تحققت لخالد احمد زكي بإعتباره سكرتيراً لمؤسسة ( برتراند رسل ) الدولية.
ويقول الدكتور علي كريم سعيد: واعتقد أن هذا الحوار يؤكد ميل خالد زكي للقياس وللتنظير وتأثره بتجربة كوبا لحرب الغوار الجوالين، وتجربة فيتنام التي وفرّ لها العظيمان الاتحاد السوفييتي والصين، الكثير من اسباب وأدوات الصمود المعنوية والعسكرية والتكنولوجية .كما أن تجربة نضال الشعوب اللاحقة ، كانت قد أثبتت فيما بعد ،إن أية تجربة كفاحية تنجح سوف تعتبر فخاً لمقلديها ، لأن الحكومات والدول العظمى تسارع في أخذ العبرة منها، وتضع الحلول المناسبة لافشال المقلدين ، ولذلك أرى إن الزعيم الكردي مصطفى البارزاني كان حكيماً ومشفقاً عندما قدم النصيحة.
غادر خالد زكي الدار برفقة عز الدين مصطفى الى مدينة الديوانية ، وهناك إستلمه آخرون ، وعاد عز الدين مساء اليوم نفسه ليطمئن عزيز الحاج بوصوله ، وبعد وصول الاخير ترك الحاج الدار بسيارة ورفقة حافظ مصطفى القاضي.
وهكذا يكون خالد زكي قد بدأ لأول مرة في تاريخ العراق الحديث ، حرب غوار جوالة ضد حاكم مسالم ( عبد الرحمن عارف) يحيط به صقور لديهم خبرات سابقة في مصادرة الحريات تحت شعارات (ناصرية) ليست للتطبيق ، فقد كان الزعيم جمال عبد الناصر على قيد الحياة ولم يقيموا الوحدة ، في حين قادوا العراق للمهالك والموت، وقتلوا زعيم ثورته الوطنية لأنه تأخرعن اقامتها فوراً مع عبد الناصر. ولا شك إن هذا ليس نقداً موجهاً لجميع الناصريين . فقد كان بينهم رجال صادقون بذلوا التضحيات من اجل تقويم النهج المنحرف، غير أنهم لم يكونوا من الصقور المحيطة بالسلطات، التي صادرت اسم الناصرية وتوسلت أرخص الطرق للوصول الى مراكزها.
وبعد أن بدأت حركة الكفاح المسلح بنجاح وهاجمت بعض مراكز الشرطة وإستولت على اسلحة ، وخاضت معارك بسيطة ناجحة هنا وهناك هدفها الاعلان عن وجودها وتوفير بعض المستلزمات للاستمرار والصمود.كما هاجم انصارها من تنظيم القيادة المركزية بعض المدارس في الفرات الاوسط والجنوب.
وإستولوا على آلات طابعة و(رونيو) لاستخدامها في الحملة الاعلامية الضرورية لتوسيع التعاطف الشعبي وتسهيل التحاق الراغبين بالحركة الثورية، وحينئذ كان الناس قد بدأوا يتسقطون أخبارها،
وأصبح من الممكن تلمس ميل ورغبة الكثير من الشباب الى معرفة السبل للالتحاق بها، خصوصاً وإن شبيبة العالم كلها كانت ما زالت تعيش تحت تأثير موجة جيفارا وهوشي منه وجياب.
وحصلت أكثر من محاولة ناجحة في مدينة النجف وعموم منطقة الفرات الاوسط للاستيلاء على آلات طابعة من الثانويات او المراكز التعليمية الاخرى، وتردد أن جماعة الكفاح المسلح وراء عمليات السطو، وحينئذ لم تكن هناك قوى مرشحة لهذه التهمة، غير حزبي الدعوة الاسلامية والقيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي لأنه يتناسب مع خططهما واطروحاتهما بالكفاح الشامل المتعدد الجوانب . في حين كانت قوى التيار القومي - يسار حزب البعث وحركة القوميين العرب والعربي الاشتراكي بتفرعاته المختلفة يخطط لاستلام السلطة عن طريق الانقلاب أو عبر إئتلاف وطني رغم أن المفاوضات التي كانت جارية من اجل إقامته ، كانت تبحث في الموضوعات دون آلية تحققها،أما اللجنة المركزية للحزب الشيوعي فقد كانت تتخبط ويبدو أنها لم تكن تملك العزم على وضع خيار سياسي واضح.( علي كريم سعيد، المصدر نفسه، ص213 -215).
عمليات عسكرية قامت بها الجبهة
وضع الثوار برنامج عمليات طموح يتطور متناغماً مع إتساع التأييد الشعبي لهم.وفي البداية حددوا ثلاثة مراكز للشرطة فضلاً عن القيام بأعمال هنا وهناك كلها تصب في مجال توفير مستلزمات القتال والصمود ، وبعد إستطلاع من قبل موسى عطية وحسين السويعدي وعبود خلاطي ،
تمكنوا من مهاجمة إثنين من مراكز الشرطة واستولوا على اسلحتها ، دون قتل احد . ثم تتالت عمليات اخرى ليست أكبر شأناً ، فضلاً عن مصادمات كثيرة مع قوات مسلحة حكومية ومتعاونين مع اجهزة الأمن.
وبالاتفاق بين البؤر الثورية في الاهوار والقيادة المركزية للحزب الشيوعي تمّ تشكيل خط صدامي متطور يعمل في المدن الرئيسة لاسيما في بغداد يماثل خط حسين في اللجنة المركزية.وكان يتلقى الاوامر من المكتب السياسي للقيادة المركزية. وعندما اعتقلت حكومة البكر – صدام زعيم الحزب عزيز الحاج وقيادته المركزية قامت بقتل المسؤول المباشر لذلك الخط، عضو قيادة الحزب المركزية ( صباح العسكري) الذي مات تحت التعذيب ، هو وجميع قيادة الجهاز الصدامي عدا محمد كريم مراد الذي إغتيل مع فياض موزان لاحقاً بعد أن قام بعدة عمليات ناجحة ضد رجال أمن حكوميين واصبح على قائمة المطلوبين الحمراء.
قيادة الحزب الشيوعي العراقي (القيادة المركزية)، صورت بعد أن اعتقلتها السلطات عام 1969. الصف الخلفي (واقفًا) من اليسار إلى اليمين: صالح رضا العسكري (عضو اللجنة المركزية مسؤول عن جهاز الصدامي )، بيتر يوسف (عضو اللجنة المركزية)، مالك منصور (عضو اللجنة المركزية)، كاظم رضا العسكر. -صفار (عضو بوليبورو، الرجل الثاني في الحزب بعد الحاج).
الصف الأوسط (جالسًا) من اليسار إلى اليمين: عزيز الحاج، طلال سلمان (مراسل مجلة الصياد مقابلة الحاج)، خضير عباس الزبيدي (عضو اللجنة المركزية)، أحمد خضر الصافي (عضو المكتب السياسي).
وقد قام الخط الصدامي المسلح بثلاث عمليات سطو على مؤسسات مالية في بغداد وكانت حصيلتها (80) الف دينار ، وهو مبلغ كبير نسبيا ، وكان المفروض وحسب الاتفاق أن يوضع تحت تصرف الثوار ، لكن (ابو سعيد) عبد الله زنكنة" الذي كان لي معه لقاء خاص في السويد عام 2001 .أخبرني قائلاً لم يصل المبلغ الينا ، فعانينا من حصارين ، حصار السلطة المسلح وحصار الرفاق في بغداد ماليا واعلامياً.
ويذكر بأن شكاوى كثيرة كانت تصدر من مريدي الحركة وتتعلق بعدم جدية القيادة المركزية في الدعم المادي والاعلامي . ويقول ابو سعيد زنكنة " عندما ذهبنا للهور ، لم نكن نتصور إننا سننقطع هناك ، فعلى كثرة الشيوعيين في المنطقة لم يصلنا شيء ، مع العلم بأن قراراً كان قد إتخذ بأن يذهب تباعاً كل اعضاء قيادة الحزب المركزية الى الجنوب والاهوار حيث تدور المعركة ولا يبقى سوى شخص واحد للقيادة والتنسيق هو ( كاظم الصفار) ولما لم يأت أحد من بغداد، إتفق خالد احمد زكي بواسطة كوادر الجبهة مع منظمة الحزب الشيوعي في الجنوب ، ممثلة بقائدها ( ناجي عبود العقابي) – ابو محيسن – الذي قتلته السلطة في ما بعد ، فحل محله (رافع الكبيسي) فقتلته السلطة أيضاً ، فاستلم قيادتها سلمان (ابو جعفر) الذي قتل ايضاً.ولكن بعد بعد فترة طويلة نسبياً وفي ظروف غامضة ليس هنا مجال بحثها.
ويضيف ( ابو سعيد) زنكنة دليلاً آخر لدعم رأيه حول عدم حرص القيادة المركزية على التغيير قائلا:" كان يعيش في لندن ضابط اسمه عدنان عيدان ،إتصل هو وجماعته بعزيز الحاج وكان لديهم تنظيم من الضباط يخدمون في مواقع هامة – في القصر الجمهوري - وفي مواقع اخرى. وعرضوا عليه الترتيب لعمل شيء ، لكن عزيز الحاج رفض العرض قائلا" لا نرغب أن ناتي الى السلطة ببسطال العسكر"
واذا صح ما قاله زنكنة فإن عزيز الحاج نفسه كان حينئذ أيضا ما يزال -أسير طريقة التفكير الشيوعية المقلدة . فاذا كنت تطلب السلطة فما اهمية وضرورة أن تأتيها أو تصل اليها من هذه الطريق أو تلك ، ما دمت تنفذ على ايدي وطنيين؟
ربما يكون عزيز الحاج قد إختار تأييد جبهة خالد احمد زكي لكي يرضي مجموعة ( الكادر) جماعة نجم او(ابراهيم علاوي) التي إتحدت معه فور اعلانه الانشقاق واستقطابه السريع لغالبية جمهور الحزب ، الذي توقع منه تقديم بعض النتائج العملية السريعة. ومن اجل إحراج اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ، لجأ الى خيارات جديدة ، ربما يكون قد تصورها قادرة على مساعدة الحزبيين للخروج من دائرة الاحباط ومشاعر الهزيمة التي أصابت التنظيم.بعد أن كانت قيادة الحزب الشيوعي قد بذلت منذ منتصف الخمسينات جهوداً وتضحيات غالية لبنائه وصيانته معنوياً . فما بذلت منذ منتصف الخمسينات جهوداً وتضحيات غالية لبنائه وصيانته معنوياً ، فما أعظم الملل عندما تكون المهمة الجديدة عشرين سنة اخرى لاعادة البناء بإنتظار معاول هدم جديدة.
وفي السياق نفسه قد يكون عزيز الحاج سعى لوضع الكفاح المسلح في مقابل (خط آب) المتعاون مع شديد العداء للشيوعية عامة ، وللشيوعيين العراقيين خاصة( عبد السلام عارف) لكي يرى المترددون شدة التناقض بين خطى اللجنة والقيادة . وبذلك يكون قد إستغل بذكاء فائق سخط قواعد الحزب الشيوعي من تهافت (خطآب)
وفي مقابل ما تقدم أخبر عزيز الحاج المؤلف ( علي كريم سعيد) " بأن حركة الكفاح الشعبي المسلح ، لم تكن خياراً وحيداً ، بل واحدة من الفعاليات النضالية الهامة ضمن الاستراتيجية العامة،أي دوراً ضمن دائرة أوسع ، فقد كان قرار القيادة المركزية هو الكفاح من اجل إسقاط السلطة القائمة بإستخدام كل الوسائل المتاحة التحريضية والمسلحة في المدن والارياف ، والجمع بينهما.
وهي بذلك تختلف ( حسب الحاج ) عن استراتيجية جيفارا ، لأن الاخير أراد بناء حزب وسلطة من خلال الكفاح المسلح ، في حين إعتبرت القيادة المركزية وجود الحزب الثوري شرطاً للكفاح الناجح، وكان الحزب موجوداً وله نشاط في مختلف القطاعات العمالية والاقتصادية والاجتماعية ( في هذه النقطة يختلف فكر عزيز الحاج عن فكرة خالد احمد زكي المتأثر باليسارية الجيفارية )
ومن اجل توكيد كلامه أشار عزيز الحاج لاحد خطوط الكفاح – داخل بغداد وبعض المدن العراقية الكبيرة ، الذي قاده صالح العسكري وأشرف عليه محمود الحلاق ( كلاهما عضو قيادة الحزب) هدفه إغتيال بعض رجال الامن المتورطين مباشرة بأعمال التعذيب والقتل ضد المعارضة السياسية. ويضيف الحاج " كانت عملية الاهوار عملية تعبوية تحريكية لتهيئة الاجواء لمهمة اسقاط السلطة، التي كانت القيادة المركزية ستقوم بها في بغداد.
المعركة الاخيرة
إنتقلت النواة الرئيسة للمجموعة المسلحة بعد وصولها من هور العمارة الى اهوار الناصرية في منطقة (العوينة) أي من منطقة معزولة الى مناطق مكتضة بالفلاحين وصيادي السمك مع الابقاء على قاعدة العمارة في هور ( ابو غريب) كقاعدة خلفية لاستخدامها في الحالات الضرورية عندما تتطلب المعارك والتكتيكات.
وصلوا مع عُددهم على ظهر شاحنة الى (الدواية) وهي ناحية تابعة لقضاء الشطرة ومنها اضطروا للتجديف ست ساعات ليصلوا دار مسؤول محلية الحزب، وهناك أطلق خالد زكي مقولته " من هنا علينا أن نضغط ليولد الحزب بقوة البنادق بعيدا عن انتهازية المدن " وقال " لابد أن تضيء النيران سماوات العراق المظلمة".
وكان كل من عبد الامير الركابي وموسى عطية ومحمد حسن السويعدي ( وهو واحد من ثوار معسكر الرشيد الناجين) قد إستطلعوا المنطقة قبل وصول المجموعة بأيام ، وبنو قاعدة فوق تلال هورة( ابو غريب) على شكل كوخ من القصب يتيه بين تلافيف كثيفة جداً من البردي،
وجهزوها بمستلزمات ضرورية بينها مدفع رشاش من نوع ( تكتريوف)
ورشاش ( سترلنغ) وبندقية بسيطة وكسرية ومسدس ( براونغ 9 ملم) مع زورق ومشحوف.
وكان كل ذلك قد تمّ بسرعة حتى دون علم أمين الخيون الذي كان يقود مجموعة مسلحة أخرى ضد السلطة في اهوار الناصرية أيضا، وكان خيون قد إنسحب مع الملازم فاضل عباس من بغداد ، بعد فشل المقاومة التي اشترك في قيادتها ضد حركة 8 شباط 1963 في مدينة الكاظمية وتدريجياً إبتعد عنه رفاقه بسبب تطرفه ومزاجه الصعب.
إزاء هذا الوضع المتفجر ، وخوفاً من تفشي موجة حمل السلاح والكفاح المسلح وخطرإستفحال الأمر وخروجه عن السيطرة على تركيبة النظام ،إتخذت السلطة قرارها بالقضاء على الحركة المسلحة في الاهوار بسرعة فهاجمت المنطقة وهددت شيوخ عشائرها بعقاب شديد اذا ما قدموا المساعدة للعصاة المخربين ، وبدأت قواتها بتمشيط المنطقة مقتربة تدريجياً من الثوار، وضيّق ذلك عليهم خصوصاً إنقطاع الناس عنهم خوفاً من بطش السلطة.
ومن اجل الرد ورفع معنويات الفلاحين وأنصار القيادة المركزية ليلتحقوا أو يقدموا الدعم للحركة قرر الثوار القيام بعملية كبيرة ، وبعد إستطلاع قام به موسى عطية وعبد الامير الركابي ومحيسن نايف وهو من عشيرة (بني سعيد) ويلقب بـ( سبع الهور) وتدريب جيد تقرر الهجوم على مركزين متحركين للجنود والشرطة في هور ( الحمّار) ثم الى منطقة تسمى ( الابيض) وهي منطقة بِكر تقع خلف القصب ولم يصلها أحد.
خمسة مشاحيف صغيرة ركبها إثنا عشر رجلاً بينهم الملازم ظافر الاسم الحركي لخالد احمد زكي وسارت ساعتين لتعبر ممراً إجبارياً وتصل الى هدفها وتستولي على المخفر الاول في معركة سهلة جرح فيها عسكري واحد من جنود الحكومة . وبسبب بُعد ظافر عن قواعد العمل العسكري المحترف وقع المهاجمون بخطأين فادحين :. الاول: بدلاً من الانسحاب فور إنتهاء العملية ، جلس ظافر ليلقي على الجنود موعظة أو محاضرة في الوطنية، وعن صراع الطبقات واوضاع البلاد السيئة وعن فلسطين. ابلغهم فيها ان الثورة في العراق قد بدأت . وقال للجنود " انتم لستم اعداؤنا ولا نريد إيقاع الاذى بكم ، سنستولي على السلاح والذخيرة وننسحب ، وستكونون أحراراً ، ولكن تذكروا جيداً إن الاف الشيوعيين المسلحين الان يغطون الاهوار .
بعدها انتقل الثوار الى المركز أو المخفر الملاصق ، فسيطروا عليه وإعتقلوا رجاله . فكانت حصيلة العمليتين 28 بندقية مع ذخيرتها . وتكررت مرة اخرى الخطب والاحاديث والمشاعر الوطنية الجياشة قبل الانسحاب من المركز الاول مما اتاح فرصة لمن يريد تبرئة ذمته امام السلطة إيصال الخبر اليها بوسائل الاتصال الحديثة المتوفرة في مناطق ليست بعيدة . وبالفعل وصلت اخبار الهجوم.
وفي سباق ضد الزمن تمكنت القوات الحكومية من الوصول قبل الثوار الى الممر الاجباري فاغلقت الخانق ووضعت عليه كميناً منع الثوار من العبور الى هور الحمّار مما تركهم عالقين في أحد جيوب المنطقة محاصرين لمدة اربعة أيام.
وبإقتراح من ظافر ( خالد زكي) ذهب اربعة ثوار لعلهم عبود خلاطي وسيد درعان وعقيل حبش يقودهم ابو صبري ( موسى عطية) الى قرية واقعة على هضبة قريبة ، وكانت مهمتهم شراء مواد غذائية وإستئجار زوارق ودليل يمكنه العبور بهم الى هور الحمّار ، لكن أحداً من الاربعة لم يعد . ويذكر أن السلطة كانت منذ اليوم الاول لبدء العملية قد إعتبرت الاهوار منطقة حربية.
وبينما كانوا يتنقلون من مكان لاخر ومن هور لاخر كان الحصار يضيق عليهم ورغم حاجتهم للطعام اضطروا لترك المزيد من المؤن ومن الاسلحة الزائدة إفلاتاً من الحصار، ولم يمر وقت طويل حتى وجدوا أنفسهم محاصرين في إحدى الجزر من كل الجهات لا يستطيعون الوصول للمياه وهم وسطها ، وليس معهم غذاء وسلاحهم غير كافٍ ، ولم يكن امامهم سوى إنتظار الفجر التالي ما سيكون من أمرهم.
عميل مزدوج
وتحت جنح الظلام قام حسين ياسين – عضو قيادة الحزب الشيوعي المركزية – والذي جاء مع الثوار لمساعدتهم والبقاء معهم لانه جنوبي ويعرف المنطقة جيداً، ولا احد يعرف هل كان يعمل كخط مائل ( مزدوج) مع الامن الحكومي قبل مجيئه للاهوار؟ أم أن المخابرات تمكنت من اصطياده في إحدى جولاته الاستطلاعية في المدينة وإتفقت معه تحت التهديد أن يعمل لحسابها وهو الارجح.حسين ياسين قام بطرد اربعة أشخاص كانوا قد التحقوا بالثوار وعندما اصروا على البقاء اساء اليهم فغادروا ، وبذلك نجح في التخلص منهم.
ظلوا ثمانية رجال ، قلبوا كل الاحتمالات ودرسوا وحاولوا بكل السبل للنفاذ ، لكن الحصار والكمين كانا محكمين ، فبدأ اليأس يتسرب.ووسط تلك الازمة وتحت وهج الشمس المحرقة ،إحتضن جبار ( وهو سياسي هارب من سجن الحلة) بندقيته وترنم ( السجن ليس للاباة السجن للطغاة ، لنا الغد) وكان قد تعلم هذا النشيد في سجن الحلة.
وأيضا وتحت جنح الظلام تسلل اثنان من الفلاحين ومعهم مواد غذائية فرحنا بها كثيرا وقدم لهم خالد زكي مسدسه الشخصي ( سميث) هدية وعرضا نقلنا الى مكان أمين، فاتفقنا وذهبا على أمل العودة صباحا ومعهما ما يلزم للمساعدة ، لكن حسين ياسين ( خط مائل) رفض الامر ، واقنع خالد احمد زكي باهمية المشاحيف ( الزوارق الصغيرة) للخلاص من الحصار قائلا" سأذهب صباحاً لجلب المشاحيف . وفي اليوم التالي فجراً تسلل مغادرا ولم يعد ربما يكون قد استعجل الرحيل ليسد طريق النجدة المحتملة التي ستصل مع الرجلين الطيبين من جهة ولينهي مهمته ويسلم نفسه للقوات الحكومية من جهة اخرى.
وبدلاً من وصول مشاحيف حسين ياسين وصلت اعداد اخرى من الشرطة والجيش بكثافة لم يعهدها ابناء تلك المنطقة النائية المنسية.( علي كريم سعيد، المصدر نفسه، ص 216- 222 ).
سقوط خالد ورفاقه
لم يبق في الجزيرة المحاصرة غير خالد احمد زكي ، محمد حسين السويعدي--ابو سلام- وهو( من قادة حركة حسن سريع الناجين) عبد الجبار جبر الشمري( كان واحداً من الهاربين من نفق سجن الحلة فيما بعد) علي حسين بويجي الساعدي ، ومحسن حواس ومنعثر سوادي الذي عانى طوال فترة الحصار من جرح متعفن. عبد الامير الركابي وابو سعيد ( زنكنة الذي انتمى فيما بعد لحركة ذات تكوين مسلح هي( الجيش الشعبي) التي استشهد احد مؤسسيها معين حسن النهر عندما هوجمت داره من قبل مخابرات حكومة البكر واستشهد قائدها التالي ظاهر حسن النهر وخمسة من رفاقه على يد السلطة ذاتها. وكان معهم ايضاً ولم يحضر المعركة الاخيرة لوجودهم في أمكنة أخرى كل من عبود خلاطي وحسين ياسين وعقيل عبد الكريم حبش الجنابي وموسى عطية (ابو صبري) لكن هذا الاخير سرعان ما إستشهد مع مجموعة عبد الزهرة مزبان في الهور ، وقُتِلَ إبنه تعذيباً في معتقل قصر النهاية وماتت زوجته كمداً فإنتهت العائلة.
وبينما كانت ترتيبات المعركة تتخذ ، تسلل الى جانب الثواركما حدثني زنكنة صبي في حوالي الثالثة عشر من العمر وهو ابن لاحد الفلاحين القريبين ، ودعانا باسم والده للذهاب الى دارهم لانقاذ أنفسنا ؟، وكانت معه زوادة تمر ارسلتها معه امه قائلة "هم الآن جائعين".
لكن الاوان كان قد فات فلم ينته الصبي من حديثه حتى بدأنا نسمع اصوات الرمي قادمة من بعيد ، تلك الرماية التي إستمرت لساعات تتحرك عقاربها ببطء وترمى بكثافة تعبر عن همجية وعشوائية لا تصدر الا عن خائفين ، لكنها نجحت في منع حتى المغامرين من الوصول الينا.
ومنذ الساعة الحادية عشرة صباح يوم 3 حزيران 1968 حتى السابعة من مساء اليوم نفسه دارت معركة غير متكافئة استبسل فيها الثوار الثمانية واسقطوا طائرة هليكوبتر ، وشرب بعضهم خلالها ( البول) وعانى خالد احمد زكي كثيراً كما يقول زنكنة رغم انه مثقفاً ويملك ارادة قوية ويمتلك صفات شخصية كاملة للقيادة فقد كان كثير التسامح وذو قابلية جسمية ضعيفة ، وكنا نضطر الى دوس الاشواك في حين كان هو يعاني ويتأخر في المسير خصوصاً في الجزر الممتلئة بالاشواك حتى اضطر مرة الى نزع ملابسه الداخلية ليلف بها رجليه وهو يمر بإحدى الجزر الصغيرة.
وسقط في تلك المواجهة كل من منعثر سوادي ومحسن حواس وخالد احمد زكي وإعتقل الباقون وكانوا جميعهم جرحى أو مغمى عليهم ما عدا علي حسين الساعدي.
وسقط قبل الاوان رجال كانوا قد درسوا معركتهم بدقة متناهية . كما كانت كل الظروف مواتية كي يتطور فعلهم الى حد لا يعرف احد مداه. لكن بلاغة الايديولوجية وتضييع الوقت وضعف الخبرة العسكرية وعزل الثوار عن الجماهير والتسامح والطيبة الزائدة التي اظهرها (ظافر) مع اسراه اسهم في قطع الطريق على الثوار في خانق مرور إجباري من قبل جنود تزايد عددهم ليبلغ بعد خمسة ايام أكثر من الفي عسكري نظامي فلم يتركوا للثوار الثمانية أي مجال للمناورة. وبعد المعركة تم تقديم المعتقلين الى محكمة خاصة حكمت عليهم بالاعدام لكن تدخلات سياسية محلية واحزاب شيوعية عالمية ادت الى خفض الاحكام الى مدد تتراوح بين سنة واحدة وخمس سنوات.( علي كريم سعيد، المصدر نفسه، ص222- 242).
إنهيار عزيز الحاج واعترافاته
عن انهيار سكرتير القيادة المركزية للحزب الشيوعي اليساري المنشق عن اللجنة المركزية اليمينية عزيز الحاج يتحدث فياض موزان احد قيادة عزيز الحاج واحد قيادة الجهاز الصدامي المركزي والمسؤول عن جهاز الاستخبارات فيه ، والذي اعتقل في قصر النهاية فيقول: بإنهيار عزيز الحاج وظهوره على شاشة التلفزيونيوم الاول من نيسان 1969 واعترافاته التي كشفت التنظيمات الحزبية ، كان عدد من اعضاء القيادة ومرشحيها الذين قيض لهم أن يفلتوا من قبضة السلطات الامنية وبقوا بعيدين عن أعين أجهزة الامن ومخابرات وتنظيمات حزب البعث ، قام هذا الفريق المتبقي من القادة والكادر المتقدم في القيادة المركزية وعلى رأسهم ابراهيم علاوي بلم شمل التنظيم والانتقال الى كردستان، وعقد كونفرنس حضره ثمانية عشر رفيقاً تمّ فيه إنتخاب قيادة جديدة تألفت من الرفاق
ابراهيم علاوي ، فاروق مصطفى، فؤاد الامير ، مصلح مصطفى ، ماجد علاوي . وانتخب الرفيق ابراهيم علاوي سكرتيرا للقيادة المركزية بإجماع الحاضرين.
كنتُ قبل شهرين من إعتقالي- والكلام لا يزال لفواز موزان- قد اوقفت نشاطي عن العمل في التنظيم مع القيادة المركزية بسبب خلاف في الرأي ومسألة الصيانة مع سكرتيرها عزيز الحاج وكاظم الصفار عضو القيادة ومكتبها السياسي ، وكان يتعلق بالاندفاع الكبير والمفتعل في طرح صورة اكبر مما هي عليه في الواقع من خلال البيانات التي كان يصيغها وينفرد بكتابتها عزيز الحاج وتضخيم الامكانيات وإعطائها صورة أكبر حتى كان يفهم منها أننا على ابواب استلام السلطة.
مما اثارت مخاوف لدى حزب البعث جناح( البكر – صدام) وحدا بهم للتعاون مع عبد الرزاق النايف معاون مدير الاستخبارات العسكرية والمحسوب على الانكليز والذي اغتاله حزب البعث بعد سنوات في لندن. وابراهيم الداوود وزير الدفاع والمحسوب على الامريكان والمقيم في السعودية بعد طرده وابعاده من العراق وقاموا بإنقلابهم في 17 تموز 1968.
داهم بيتي لاعتقالي كل من ناظم كزار، سالم الشكرة ، صباح مرزا ، ناصر فنجان، وآخرين.
اركبوني السيارة وكانت نوع بيجو 404 وكان يقودها ناظم كزار بنفسه تبعتها السيارة الاخرى التي كانت تقل الاخرين.اعصبوا عيني ونحن لم نزل في الطريق قادوني الى قصر النهاية لم اكن اعرف المكان الا فترة وجيزة .
كانت الهيأة التحقيقية بكامل طاقمها متواجدة ،إضافة الى محمد فاضل عضو القيادة القطرية وعلي رضا باوا المشرفان على هيئات التحقيق اي الهيأتين يضاف لهما ناظم كزار . وكان ارتباط الثلاثة بصدام حسين مباشرة والذي كان هو الرئيس الفعلي لهاتين الهيأتين. شعرتُ وأنا وسط هذا الحشد من الافراد قد تضاءلتُ لاصبح بحجم الطاولة التي اجلس عليها. أجاب سالم الشكرة : ها ، يابه خلية عمالية .. ها .. مو جهاز صدامي ، لقد جئنا بقائدكم عزيز الحاج وها هو يغرد كالبلبل .. يعني انه اعترف على التنظيمات وادلى بالمعلومات لنا من دون ضرب أو حتى ضربة كف ، وأنتم تتحملون الضرب والتعذيب .. لَمِ؟ ولمن؟ لقد اعترف واعطانا كل المعلومات وكشف لنا كل التنظيم واذا بهم يأتون به ليقول لهم أنا وما هو مركزي الحزبي والمجال الذي اعمل به.
الهيأة كانت تأتي بنا كل على إنفراد لكشف مراكزنا الحزبية أمام هذا الحشد المجتمع من المحققين والحزبيين البعثيين الاخرين الذين لا نعرف هويتهم ومراكزهم الحزبية . لقد كانت فرحتهم على ما يبدو عارمة حيث تمّ إعتقال وكشف أكبر تنظيم معادي لهم.ولم يكونوا مصدقين ان عزيز الحاج ينهار بهذه السرعة ويعطيهم كل المعلومات . كانوا متأكدين قبلها أنه سيموت تحت التعذيب ولن يحصلوا منه على أي شيء للهالة التي كانوا يسمعونها عنه كونه ثوري النزعة وله سنين طويلة قضاها في السجون والنضال وثائر ينتهج خطاً ثورياً جريئاً قد وضع الموت أمام عينيه. إن انهياره السريع وظهوره على شاشة التلفاز يدلي باعترافاته كانت مخيبة لامال الكثيرين من رفاقه وانصاره.
بعد اعترافات عزيز الحاج بدأوا تحقيقاً جديداً حيث تكشفت أشياء جديدة عادوا اليها.. فقد ذكر لهم مالك منصور عضو القيادة المركزية "أني سلمتُ اسلحة الى ( خالد زكي) الذي كان قد ارسلته القيادة المركزية الى منطقة الاهوار ليقود خلية ثورية قد شكلها على غرار( بؤرة) جيفارا الثورية في بوليفيا بامريكا اللاتينية. وفعلا كنتُ أنا قد سلمته بعض البنادق الرشاشة بموعد في حديقة الامة وقام هو ومجموعته بمهاجمة أحد المخافر في احد الاقضية على اطراف الاهوار وخاض معركة قتل هو فيها وبترت يد احد رفاقه واعتقل الباقون واودعوا السجن بعد تلك المعركة. كان هذا إبّان حكم عبد الرحمن عارف وقد جييء بالمعتقلين الى قصر النهاية بعد سقوط حكم عبد الرحمن عارف والذين كانوا في سجونه كان منهم مطشر حواس وعبد الامير سعيد وشعبان كريم وآخرين
كما اعتقل امين سالم الخيون وجيء به ورفاقه الى قصر النهاية ، كان أمين يقود مجموعة يطلق عليها ( حركة الكفاح المسلح) وكان مركزها الناصرية . وأمين هو ابن سالم الخيون شيخ قبيلة بني أسد. إحدى القبائل العربية الكبيرة التي تستوطن في جنوب العراق.
ويواصل فياض موزان حديثه فيقول. كنا اول المعتقلين بعد إنقلاب تموز 1968 حيث اعتقلنا اواخر شهر كانون الاول/ ديسمبر من العام نفسه.
ادخل الينا الرفيق حميد الصافي عضو المكتب السياسي وهو مدمى القدمين. والارجح ان اعترافات عزيز الحاج هي التي جلبته حيث انه اعتقل بعد اعتقال عزيز بأيام بالوقت الذي اعتقل فيه بيتر يوسف ومالك منصور واحمد الحلاق وهمام عبد الخالق وخضير عباس اعضاء القيادة مما يدل ان الاعترافات هي السبب في اعتقالهم.
ويستطرد فياض موزان ، قائلا: في الوقت الذي كنتُ أنا وبعض الرفاق الاخرين نقبع في الزنزانات كان عزيز الحاج قد خصصت له غرفة منفصلة يجد فيها الرعاية الكافية ويطلع على الصحف والمجلات وتلبى كل احتياجاته وبعد خروجه كافأوه بتعيينه ممثلاً للعراق بمنظمة اليونسكو في باريس.
أما بيتر يوسف – ابو صرفد – عضو القيادة المركزية الذي ترجم احد كتب الهرطقة للفكر البعثي الى اللغة الانكليزية فقد كان حاقدا على عزيز الحاج وعندما يلتقيه وجها لوجه في باحة السجن عندما نخرج للتمشي فيها كان يبصق على الارض دليل الاحتقار والكره له والسبب هو ان عزيز كان الوحيد الذي يعرف مكان اختفاء بيتر ، حيث لبيتر مخبأ سرياً في لبيته. ومن الصعب على احد اكتشافه فقد عمله خلف الحائط يدخل له من خلال فتحة في الحائط ويناولوه الطعام من خلالها. وقد عطيت هذه الفتحة بلوحة ( أيقونة المسيح) لايقد احد على كشفه حتى وان دوهم المنزل بإستثناء زوجته وعزيز الحاج. وعين بيتر يوسف سفيرا في احدى دول امريكا للاتينية( فنزويلا) حيث توفي هناك منتصف التسعينات من القرن الماضي.( صحيفة صوت اليسار،الصادرة في 20/10/2016)
545 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع