أيام زمان الجزء ٥٦ المسبحة (السبحة)
المسبحة المعروفة محليا في العراق بـ "السبحة"، كما يسميها البعض، تستخدم للتباهي والزينة بأيدي الشيوخ والشباب، إذ تتعدد ألوان وأشكال حباتها لتجذب الأنظار، كما تتعدد استخداماتها من شخص لآخر، فمنهم من يستخدمها للتسبيح، والبعض الآخر لمواكبة الموضة، حيث تتناسب ولون الملابس التي يرتديها.
تاريخ السبحة بدأت عند السومريين قبل (5000) سنة ومن ثم انتقلت إلى الحضارات الأخرى، ومنذ القدم ارتبطت السبحة بالفكر الديني، حيث أفادت إحدى الروايات إن راهباً يونانياً يدعى "الابوس دي روبي" كان أول من استعمل السبحة، وفي عام 1880 أطلق بابا روما "ليو الثالث عشر" على شهر تشرين الأول اسم "المسبحة المقدسة". كما تقول بعض كتب التاريخ إن كهنة الصين والهند كانوا أول من ابتدع السبحة، وقد اتخذت السبحة في عصور ما قبل التاريخ، كزينة وتعويذة وتميمة، وفي الآثار الفينيقية ما يشير إلى استعمالها في المقايضة والمعاملات التجارية.
وكما تشير الدلائل التاريخية إلى أن ظهور السبحة الدينية لأول مرة كان في الهند، في بداية القرن الخامس قبل الميلاد، واستقى المسلمون الفكرة باحتكاكهم مع الشعوب الهندية من خلال التجارة والفتوحات.
وتشير الدلائل التاريخية إلى أن الإله شيفا والمعروف إله القسوة والتدمير، عند الهندوس كان يحمل المسبحة بيده اليسرى كما ظهر جلياً في التماثيل.
وكما هو معروف، فإن القوافل البرية والبحرية التي استخدمها التجار المسلمون ساهمت إلى حد كبير في التبادل التجاري والحضاري، حيث انتقلت السبحات والمواد والأحجار التي تُصنع منها على مدى مئات السنين إلى الجزيرة العربية، حيث كان المسلمون ينقلون "العقيق" من غرب آسيا إلى مكة المكرمة ومصر، وحملوا الياقوت والعقيق والزمرد واللؤلؤ والمرجان إلى الصين.
المسبحة إرث فني بديع متغلغل في التراث كما أن للمسبحة وظائف ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأرقام والعد والحساب. وهي زينة شخصية، ووجاهة اجتماعية، وأبهة وثروة مادية، وتحفة فنية، ومفخرة منزلية، وهدية رمزية للأهل والأصدقاء، وعامل مساعد على تهدئة الانفعالات النفسية، وتسلي الأصابع (التي تريد أن تبقي ساكنة) بحباتها، ولها سوقها الرائجة، العامرة، الرابحة، وخاماتها متفاوتة الخصائص. ندرة ونفاسة، وقيمة، وجمالاً، وإبهاراً. صنعتها بديعة، وحرفتها تستلزم مهارة ودربة وذائقة في آن معاً، كأنها حلي ذهبية، بل هي كذلك، فبعضها جاوز سعره ثمن القلادة الذهبية، بل حل محلها في الخزائن والمقتنيات النفيسة.
السبحة تتكون من خرزات أو قطع من الزجاج أو العاج أو الأحجار الكريمة المنظومة في سلك، وتخصصت
في هذه الصناعة بلدان محددة، مثل البندقية التي اشتهرت بالسبح الزجاجية الملونة، والصين بسبح العاج المنقوش، وبعد أن شاع استخدامها ودخلت إليها خامات أخرى كثيرة.
كانت تصنع من نوى البلح وبذور نبات الخروب، وخشب شجر الزيتون والقواقع والأبانوس والصندل. وكان البعض يؤمن بقدسيتها وعلاقتها بأداء المناسك الدينية، حتى أن بعض الشعوب القديمة كانوا يغسلون السبحة التي يحملونها بالماء، ويشربون من نفس الماء كدواء. وفي الآثار الفينيقية ما يشير إلى أنها استعملت في المقايضة، إلا أن الإيمان بمكانة السبحة اختلف مداه حسب المعتقدات التي كانت تسود الشعوب. وقد ازدهرت صناعة المسابح في أوروبا على اعتبار أنها وسيلة رابحة في التبادل مع الشعوب البدائية. ومع بدء معرفة الإنسان بالأديان السماوية، استمر وجود السبحة واستخدامها في أغراض العبادة، فقد استخدمها اليهود والمسيحيون وبخاصة الرهبان منهم، الذين كانوا يستخدمونها في صلواتهم كمظهر من مظاهر التقرب إلى الله في الصوامع والمغارات والكهوف. ليس هذا فقط، بل أن عادة استخدام السبحة انتشرت بين الهندوس والبوذيين أيضاً كأحد وسائل العبادة
أن المسبحة تعتبر جزءاً مكملاً لمظهر الرجل فهو يحملها معه أينما ذهب (وبخاصة في بعض المجتمعات الشرقية عموماً) فمنهم من يخصص لكل مناسبة مسبحة بعينها، حسب قيمتها، ومن يحاول أن ينسق لون مسبحته مع لون زيه، أو يتفاءل بمادة مسبحة معينة أو لونها وشكلها المعين، كذلك هناك من يتفاخر بمسبحة أبيه أو جده ويفضلها على ما عداها. كما تستعمل لإظهار سمات (الوقار، والوجاهة، والمكانة، والزينة) أو لاقتنائها كتحفة فنية بديعة ثمينة ونادرة، وكنز يُتوارث، فثمة قرابة بين المسابح وقلائد الصدر التي تتزين بها النساء، وهناك أغراض نفسية كارتباط استعمالها مع شعور بالهدوء وإزالة التوتر، أو لغرض اللهو والتسلية إلخ، فضلاً عن أغراضها التجارية والاقتصادية على نطاق واسع.
من أقدم الأحجار والمواد التي استخدمها الإنسان في صناعة السبح، حبيبات من العاج والمحار والعظام المختلفة، وذلك استنادا إلى ما عثر عليه في قبور ترجع إلى أكثر من 20 ألف سنة، فقد قام الإنسان القديم بصقل وتشذيب هذه المواد وتكوينها على أشكال مختلفة، كالشكل الأسطواني أو الحبيبي( الخرز) أو غيرها، كما قام كذلك بثقبها، أو خرقها وتجميعها، وربط بعضها ببعض بخيط، وكانت هذه هي الخطوة الأولى لفكرة القلادة بهدف التزين أو التباهي، ولعرض هذه الأحجار أو المواد أمام الآخرين عن طريق استخدامها كعقود أو قلائد تعلق في العنق أو الزند وأحياناً في الأرجل، وحالياً فقد دخلت أكثر المعادن والأحجار في صناعة السبح، وبعضها يصنع من الذهب الخالص أو مطعما بالفضة، في ما يصنع بعضها من الألماس ويزين بأحجار كريمة غالية الثمن.
اشتهرت مدينة البندقية بصناعة المسابح من الزجاج الملون، والصين بصناعة سبح من العاج، وأوروبا بصناعة سبح من الكهرمان الأسود، ومع أن السبحة لم تكن مستخدمة في صدر الإسلام إلا أنهم في العصرالأموي أتخذ المسلمون السبحة أداة تسبيحهم، ومع توسع الفتوحات الإسلامية وازدياد الثروات، برع الصناع في صناعة السبح من الجواهر والأحجار الكريمة، حتى حوت خزائن الخلفاء والملوك بنفائس السبح وتليها مسابح اليسر السادة الطبيعية أو عين النمر، ومسابح الفيروز والعقيق والمرجان.
وتعددت أنواع السبح منها ما هو مكون من 33 حبة، والقبطية تتألف من ست وستين حبة، والنوع الثالث تتألف من تسع وتسعين حبة، ولابد أن نشير أن أهل مكة، فقد اشتهروا أيضا في القرن الماضي بصناعة السبح اليدوية حتى تلك المطعمة بالفضة، كانت تصنع يدويا تلبيه لطلبات الحجيج.
ومن أشهر السبح: سبحة زبيدة بنت جعفر المنصور، وهي من السبحة الفريدة في شكلها، إذ صنعت من يواقيت رمانية كالبنادق، واشترتها زبيدة بخمسين ألف دينار، وسبحة هارون الرشيد وهي عشرة حبات من الدر تم شراؤها بثلاثين ألف دينار، وسبحة الخليفة المقتدر قومت بحوالي مائة ألف دينار وهي من الجواهر، ولدى العديد من الأمراء في العصر الفاطمي والعصور الأخرى، سبح نادرة وثمينة، أغلى سبحة في العالم يملكها سعودي وهي مصنوعة من الزمرد.
في العراق تشتهر الأنواع التالية: الكهربة، الفيروز، الكهرمان، الحجازي، الناجين، الجمشت، اليسر، العقيق، حب الرمان، عين التمر، العاج، سندلس، العطش، البايزهر، النارجيلة.
أنواع السُّبح كثيرة منها سُبحةُ اليسر: وهي من أكثر أنواعِ السُّبح انتشاراً واستخداماً، وقديماً كان يُطلق عليها اسم السُّبحة المكية، وتتكونُ من حباتِ يسرٍ خفيفة، وتُثبتُ بمساميرَ فِضية، وتُطَّعمُ بالفضةِ أو الذّهب، ولها العديدُ من الأشكال والأحجام. وكذلك سُبحةُ الكوك: وتتمُّ صناعة حباتِها من النارجيل، أو من أشجارِ جوزِ الهند، ورائحتها زكيةٌ وطيبةٌ وتدوم لِفترة، ولا تتعرّض للتّلفِ مع طولِ المُدة، ولونها يُصبح أغمق وأجمل كلما طالت مدةُ استخدامها، ويتمُّ تطعيم حباتِ الكوك بالذَّهب أو الفضة، وتُعتبر السودان ومصر وتركيا، أكثرَ الدُّول إنتاجاً وتصديراً للكوك، وأشهرُ مسابح الكوك هي سُبحةُ الكوك الإسطنبولي.
ويوجد أيضا سُبحةُ الصندل: وتُصنع حباتها من خشب شجرِ الصندل، وهي شجرةٌ استوائية، ورائحة خشبها طيبةٌ جداً، ويتم تطعيم الحبات المصنوعة من خشب الصندل بالذَّهب، أو الفضة، أو اللؤلؤ.
وسُبحةُ العَقيق: وتُصنع حباتها من العقيق، وهو من الحجارةِ الكريمةِ غيرِ المَصقولة، وألوانه في الغالب غامقة، وموشحٌ بخطوطٍ بيضاء، أو سوداء، أو صفراء، أو رمادية، أو زرقاء، وأَجودُ أنواعِ سُبحِ العقيق هي تلك التي يكونُ مصدر العقيق فيها من اليمن، الذي تتميز حباته بخطوطها المُتوازية.
وسُبحةُ الفيروز: وتُصنع حباتُها من الفيروز، وأجودها تلك المستوردة من إيران، ومن ثمَّ تليها في الجَودة المستوردة من باكستان وأفغانستان، وتُستخرجُ من الجبال.
وسُبحةُ الكَهرمان: وهي من أجودِ أنواعِ المَسابح، وتُصنَعُ حباتها من الكَهرمان، وتُصبح أجمل مع كثرةِ الاستخدام، ولونُها يصبح أغمق وأروع، ورائحتُها عبقة، وفي العادة تَكون شفافةً ولامعة، والبعض منها يحتوي على الصَّمغ، والحشرات المُحنَّطة.
وسُبحةُ العاج: وتُصنع حباتها من نابِ الفيل، ولونُها عاجيٌ يميل للأبيض، وكلما كانت أكثرَ بياضاً كانت جودتُها أعلى، ومنها ما يميل لونه للأحمر، وتتميز بأنَّ لَونها لا يتغير، وغيرُ قابلةٍ للاشتعال. وسُبحةُ المَرجان: وتُصنع حباتُها من المَرجان، الذي يتمّ الحُصول عليه من أعماقِ البحار، ولها ملمسٌ لَزجٌ ودُهني، وتتوفر بعدةِ ألوان، مثل الأحمر، والأبيض، والوردي، ولها أنواع متعددة تختلف في جودتها.
وسُبحةُ اللؤلؤ: وتُصنع حباتُها من اللؤلؤ الطّبيعي، وهي جميلةٌ جداً، ولونها أبيضٌ ناصع، وغاليةُ الثمن.
وهناك استعمالات أخرى للمسابح، فمسبحة الكهرمان يعالج الروماتيزم والتوتر النفسي، أما الفاتوران فيعالج التوتر والغضب، وكل أنواع المسابح عموما، تعالج عادات سيئة لدى بعض الناس مثل: عض الأصابع، واللعب في الأنف، وقطع شعر الذقن، وقضم الأظافر.
وان مسبحة «الكهرب» اذا أحرقت حباته بطريقة يعرفها بعض الناس، يحضر الجن فيتحدث معهم، كما إن مسبحة الكهرمان لها بركات في مجالس الجن.
و الفاتوران خليط سري من الكهرمان ومواد أخرى، وهناك من زعم أن الخامة صنعت أيام الرومان، ومنهم من يقول أنها صنعت في تركيا وربما في مصر أو ألمانيا، ودار الكثير من الحديث حول وجود عالم كيميائي اسمه فاتوران قام باكتشاف المادة ومات بسره، له رائحة مميزة كالبنج عند تعرضه للحرارة، خامته الخارجية المؤكسدة لها حمرة جميلة كلون الدم وتدل علي القدم، ولا يمكن إزالته باستخدام مذيبات الأصباغ لا يذوب عند تعرضه للحرارة، ألوانه محدودة بدرجات الأصفر أو البرتقالي أو المحمر غالب.
معاني الكلمات
الجمشت ، لفظة فارسية معربة ، كما وردت مثل الجمز ، وتعني الأحجار الكريمة.
ومادة البازهر تسمى أحيانا بالباذهر حيث أن أصل هذه الكلمة فارسي، ومعناها (شاف من السم). كما يسميه أهل العراق أحيانا "البازهر" أو "البايزهر" بالعامية، بينما يسميه أهل الخليج العربي بحجر "شاه مقصود" تصنع السبحة من مواد الأشجار والنباتات ومنها حيواني ومنها أحجار أو من معادن ولكن في الوقت الحاضر صار الطلب عليها كبيرا وخاصة مسبحة الصلاة، فنصنعها من النايلون وتكون رخيصة الثمن.
المصدر: أنواع السبح: عاتكة البوريني
المسبحة إرث فني بديع متغلغل
صلاح عبد الستار / باحث في التراث العربي
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://www.algardenia.com/mochtaratt/64643-2024-08-30-15-40-02.html
887 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع