ذكريات تاريخية طريفة عن الشورجة
يجري الحديث مؤخرا عن اعادة مشروع احياء شارع الرشيد، قلب بغداد النابض، وذكر ان منطقة الشورجة المطلة على الشارع اختيرت ضمن المناطق التي تستحق التجديد والاحياء..
عزيز الحجية يتحدث عن الشورجة
بعد الانتهاء من ساحة الرصافي تأتي دربونة الدشتي التي يسكن فيها ال كنو البقالون منهم وغير البقالين ودربونة الدشت هي الدربونة الوحيدة في هذه المنطقة التي ينظم فيها موكب عزاء عاشوراء (السبايا) برئاسة عبود كنو وادارة علوان مدرع الشاعر الشعبي وكان مركز تجوالها نفس الدربونة مع الذهاب إلى مدخل سوق الصفافير ثم ترجع إلى محلة الامام طه ثم في الازقة التي تسمى الآن (عقد الجام) ثم تعود إلى الدشتي وتتفرق ثم يأتي حمام (بنجة علي) ويكاد يختص بأهالي وعمال سوق الصفافير والشورجة وسوق البزازين ثم خان فتح الله عبود ثم مدخل سوق الشورجة ثم جامع مرجان الذي كان جداره متصلا بالشارع مباشرة وقامت الحكومة بهدمه بحجة انه مائل للانهدام وكان مائلا فعلا وقيل أن البلدية سربت الماء إلى الأساسيات فجعلته تميل ثم هدم وارجع الجدار الجديد عدة امتار إلى الوراء فأصبح الشارع أكثرعرضا وجعلت له رصيفا واسعا اتجاه البنك المركزي العراقي ولقد كانت المناوشات مستمرة بين الحكومة وأمانة العاصمة حول جامع مرجان الذي يدخل كالقوس في الشارع وحاولت تهديمه عدة مرات لولا وقوف مديرية الآثار العامة والعلماء والمثقفين في بغداد ضد الفكرة ومن الطريف أن أحد أمناء العاصمة عقد مؤتمرا صحفيا في قاعة الأمانة وقال (إني استغرب هذا الاهتمام الشديد بجامع عتيق خرب وأنا مستعد أن ابني مكانه بعد تهديمه جامعا أكبر وافخر فلم هذا الإلحاح والتمسك به؟) وهكذا فقد طلعت الجرائد في اليوم الثاني تشيد بذكاء هذا الأمين وثقافته وتمسكه بالمحافظة على التراث أكثر من تمسك (المس بل) التي رفضت تهديم جامع مرجان لأنه اثر ثقافي تاريخي، ومع هذا فقد أنعمت عليه الحكومة بان نقلته إلى وظيفة مهمة كبيرة أخرى في الدولة. وبعد جامع مرجان تأتي بنايات ودكاكين حتى رأس القرية حيث المكتب التجاري الكبير لشركة عبد علي الهندي المستورد وصاحب معامل الثلج والصودا والنامليت والسيفون وتستمر الدكاكين والخرائب إلى طريق العبخانة وكان على ناصيته الخياط الهندي (جي اس فارما) الخياط الخاص للملك فيصل الأول ويعد طريق العبخانة وهو الشارع العرضاني الوحيد الواسع ثم السينما الوطني ثم شارع الميكانيك والمضخات الزراعية ومواقف السيارات الذاهبة إلى الصويرة وبعدها شركة عدس لبيع سيارات فورد ثم قهوة ابن ملا حمادي ثم شارع باب الشيخ ثم عدة بساتين صارت الآن محلة السنك ونصل إلى حديقة الألعاب الرياضية التي أنشأها المصارع الخطاط المرحوم صبري بالتعاون مع المصارع يعقوب وكان الاشتراك الشهري في هذه الساحة ربية واحدة، كنا انا وصديقي وابن صفي المرحوم ناظم الطبقجلي من المشتركين فيها ثم شركة دخان (لوكس ملوكي) التي كان يملكها جماعة من الأرمن ثم الزقاق المؤدي إلى شركة كتانة وشركة يوسف سعد، ثم مدرسة الصنايع فالكنيسة الإنكليزية وهي آخر بغداد من الجانب الأيسر من شارع الرشيد
أما الجانب الأيمن ونحن قادمون من باب المعظم فبعد شارع الدنكجية تأتي رويال سينما ثم النجارون في باب الاغا ودكاكينهم الواسعة جدا طولا وعرضا ويختصون بعمل الكواريك للاطفال والتوابيت وكراسي حبوب الماء وخزانات الثياب من خشب الصناديق الاعتيادي وتسمى (المرفع) ثم الصناديق الخشبية الصغيرة والكراسي الواطئة ثم شركة عزرا مير حكاك وأشهر ما تستورد هو الدراجات والكرافانات ثم كراج نقليات الحجي أحمد الشيخلي لنقل البضائع إلى الكوت والعمارة وقد اقتطع من الساحة الكبرى التي يشغلها باقر الكبابجي ثم سوق الصفافير ثم دكان الحلاق كاظم ومعاونه عبود وهو أشهر الحلاقين في هذه المنطقة وليس فيها من يزاحم الحجي كاظم بكشيدته ولحيته المقرنصة وحياصته الحريرية وهو حلاق جميع الموجودين في سوق الصفافير والبزازين وما جاورهم وهو يفتح في الصباح الباكر ولا يغلق الا بعد الظلام لان الصفارين يبقون يشتغلون حتى المساء ويبقى ينتظرها إلى أن يغلقوا دكاكينهم وبعده يأتي مكتب نقليات حييم نثانيل اليهودي الشهير والذي له فروع في سوريا ولبنان وأوروبا ويكاد يماثل شركة توماس كوك في نقليات البضائع وبعد أن ترك العراق استقر في بيروت على الميناء في آخر شارع اللنبي واشترك معه في العمل بالايام الاخيرة بعض العرب والعراقيين (تحت العباءة) والمشهور عن مكتبه في بغداد انه وقف ذري ولكنه انقلب إلى ملك صرف على طريق (كل من يدعي حق التملك) وبعدها تأتي الساحة الكبيرة الواسعة التي تقابل جامع مرجان وفيها يتجمع الباعة ليبيعوا لليهود العائدين إلى بيوتهم مساء كل ما يخطر على البال وأولها (الششة والخريط) اما الششة فهي مجموعة نقل وحامض حلو وباقلا يابسة وحمص وحب شجر اما الخريط فهو قطع صغيرة من الطين الأصفر الأخضر ويقال انه من قصب البردي وليس له طعم ولا رائحة ولكن اليهود يتزاحمون على شرائه
ولابد من سبب لذلك وفي هذه الساحة نصبت أول ماكنة سيفون والجنجر والصودا وذالنامليت وكان قبل ذلك يباع جاهزا بالقناني المغلقة بالكرات الزجاجية والتي يجب أن تكبس باليد لفتح البطل وكثيرا ما كانت القنينة تنفجر فيصاب الإنسان بالجروح البالغة ومن نهاية هذه الساحة يبدأ شارع البنك بخان (الاورطمة) أي خان مرجان على جهة اليمين وخان علي صائب الخضيري على جهة اليسار ثم صارت بعدئذ مكتب صيرفة ادوار عبودي و (بنكودي روما) في الثلاثينيات وهو الآن البنك المركزي وبنك الرافدين ثم دربونة فيها خانات تجارية تسمى دربونة (النملة) وتتصل بشارع المستنصر (شارع المهر) ثم محل بيت مسيح لبيع العرق وبعده دربونة جامع الخاصكي وبعد الدربونة مباشرة فتح أول محل في العراق لكي الملابس بالبخار وقد جلبه الارمني (توماس ميمريان) وسماه مكوى توماس ميمريان وكان عجبا عند أهل بغداد وأجرة الكي ربية واحدة وهو مبلغ محترم جدا في تلك الايام.
هدم جامع مرجان
ويبدو ان الوعي بحماية الشارع والحفاظ على تراثه، قد بدأ منذ ثلاثينيات القرن الماضي، فمما ذكره المرحوم محمود صبحي الدفتري في بعض ما املاه، انه في عهد امانته للعاصمة في الثلاثينيات اراد توسيع شارع الرشيد في بعض مناطقه، الا انه واجه معارضة شديدة، فرد على منتقديه انهم سيندمون على معارضتهم في المستقبل!، وفي عام 1946 بدأت امانة العاصمة في تطوير شارع الرشيد، الا انها اختارت وسيلة هدم بعض المؤسسات التراثية، ومنها جامع مرجان فقد كان حائط الجامع على الشارع كبيرا وجميلا، الا ان معاول الهدم لم تبقي عليه، مما اثار حملة نقد كبيرة لجرأة الامانة بهدم هذا الاثر الذي يرقى الى العهد المغولي، ولعبت جريدة (صوت الاهالي) دورا كبيرا في ذلك. وكان المقال الشهير لصاحبها الاستاذ كامل الجادرجي، تحت عنوان (هدم جامع مرجان بآثاره الفريدة جناية على الفن) حديث الرأي العام، فبعد حديثه عن تارخ بغداد الغني الحافل وفقره بالوقت نفسه بآثاره القديمة، قال :
فوجيء الناس بهدم الجامع والظاهر ان امين العاصمة الذي اعتبر هذه القضية قضية شخصية، عد نفسه مخذولا، فجدد نشاطه، واستعمل نفوذه الشخصي لدى الوزارة الحاضرة التي لم تعتبر قرار الوزارة السابقة بهذا الشأن قرارا نهائيا، فأستصدرت قرارا مستعجلا بهدم الشارع. وكم كانت دهشتي عظيمة عندما رأيت العمال يهدمون البناء من دون ان تكون هناك عناية بالمحافظة على تلك الاثار النفيسة، فكانت الكتابات والزخارف تتحطم وتنهار تحت الانقاض من غير ان يكون هناك مراقبة ما من جانب مديرية الاثار، فذهبت الى تلك الدائرة مستفسرا عن هذا العمل الشائن، فقيل لي انه لم يكن للدائرة سابق علم بهذا القرار الاخير، وانها في تلك الحالة لم تتمكن من انقاذ تلك الاثار الا بنسبة ضئيلة، وهكذا تلاشى هذا الاثر النفيس نتيجة قرار طائش.
صادق الازدي يتذكر
العملة الهندية، فهي تتالف من الروبية، وكانت من معدن الفضة، ثم نصف الروبية، فربعها، وهو”القران"، وهو اربع آنات، والآنة المصنوعة من النيكل وحافتها مقرنصة، وهي اربع بيسات، وكنا في العراق يعرفها باسم”بيزه”وهي من النحاس، وكانت البيسة قابلة للتحويل الى اثنتي عشرة”پايا”بالباء الاعجمية. ولم تكن هذه العملة متداولة في العراق، إلا انها تسربت الى الأيدي عن طريق الجنود الهنود الذين عملوا في العراق ضمن قوات الاحتلال البريطاني، وكنا نسميها”نص بيزه”وقد سألت في الاربعينيات احد معارفي من الدبلوماسيين العراقيين الذين عملوا في الهند.
- ما الذي يفعله الهندي بعملة غاية في تفاهتها كالباي؟
فقال:”الهنود تحت ظل الاستعمار البريطاني تعيش كثرتهم في فقر مدقع، وقد يعجز الهندي عن شراء علبة كبريت، فيشتري ثلاث او اربع عيدان بـ”الباي” الواحد!.
اما”القرش”فهو اسم عملة عثمانية، ويطلق حتى اليوم على بعض العملات المستعملة في بعد البلدان العربية، فـ”القرش الصاغ”في مصر العربية هو العملة المعدنية التي قيمتها”عشرة ملاليم".
وكان هو سعر المجلات المصرية التي كنا نشتريها في العشرينات حتى بداية الأربعينيات، ومنها مجلات”المصور، كل شيء، الفاكهة، العروسة، الدنيا المصورة، الكواكب، اللطائف المصورة!.
ومما ورد في مذكرات وذكريات الدكتور محفوظ قوله:”كان العطارون يحفظون العقاقير والمواد الطبية والادوية والحاجات العطارية في اكياس من القماش والخام مشدودة بخيوط تعلق على مسامير مثبتة على جدران الدكان، فاذا اراد العطار شيئا جر الكيس!".
مع انني من مواليد بغداد سنة 1918، وكثيرا ما ذهبت الى سوق الشورجة وانا في سن الطفولة، فلست اذكر الاكياس المعلقة على جدران دكاكين العطارين، وانما اذكر”القواطي”المصبوغة من الصفيح، ثم الادراج – المجرات -، واعرف جيدا ان العطارين كانوا يضعون المادة التي يشتريها منهم اي زبون في كيس من القماش، وذلك قبل ان نعرف الاكياس الورقية، ثم الاكياس المصنوعة من ”النايلون" ، ولكن من اين كان يحصل العطار على تلك الاكياس؟!.
ولو عدنا الى بداية هذا القرن – قرئنا الحالي- نجد ان محلة بغدادية كانت بيوتها من الطين تعرف باسم”محلة الخرك"، اي الخرق، وكانت اخر محلة باتجاه” مقبرة الشيخ عمر السهرودي"، وقد اطلق ذلك الاسم على تلك المحلة، لان نساءها وفتياتها كن يجمعن الملابس، والاجزاء المتروكة منها مع نفايات البيوت البغدادية، ويقمن بغسلها في مياه”النزيزة”غير بعيد عن بيوتهن، ومن ثم تقطيعها، وخياطتها، وتحويلها الى اكياس، يقمن ببيعها الى العطارين، وهم بدورهم يستعملونها كأكياس الورق والنايلون اليوم، وفي الثلاثينات، منعت مديرية الصحة العامة استعمال تلك الأكياس القذرة.
الشورجة.. الموقع والتسمية
يذكر الاستاذ معن حمدان علي: تبدأ دار الخلافة العباسية- وهي قصور الخلفاء- من جنوبي المدرسة المستنصرية، وتقريبا من بداية شارع النهر او المستنصر اليوم، جناحها الغربي يحده نهر دجله، اما الشرقي فيمتد جدارها الى رحبة جامع الخلفاء، والمرجح ان تكون رحبة هذا الجانب الذي شيده الحاكم العباسي المكتفي بالله سنة 256هـ، هي الأرض التي شيد دير الاباء اللاتين وتوابعه سنة 1750م مقابل الجامع اليوم، ثم يهبط جدار الخلافة قبالة رحبة جامع الخلاني اليوم ثم يتجه غربا الى نهر دجلة، لان الجدار على شكل نصف دائرة.
لدار الخلافة ثمانية ابواب اهمها باب العامة، الواقع امام رحبة جامع الخلفاء التي كانت اهم مركز تجاري في العصور العباسية المتأخرة، وفيها المساجد والدكاكين والاسواق
وأهم اسواقها سوق الطيوريين وهو اليوم سوق الغزل الذي لم تتغير بضاعته منذ ذلك الحين، وهي بيع الطيور، وسوق البزوريين اي الحبوب الجافة، وسوق الصفر، اي سوق الادوات المنزلية وغيرها، وهي السوق المعروفة اليوم بأسم الشورجة، التي حافظت على نفس المهنة التي ورثتها من الماضي.
بعد الغزو المغولي وما تبعه من عهود لم تبق دار الخلافة العباسية كعهدها بل زالت شيئا فشيئاً، فنشأت ابنية أخرى في موقعها، ولعل اهمها الذراع الغربي من سوق الشورجة، الذي أنشئ في العهد العثماني وهو المحصور ما بين شارع الخلفاء وشارع الرشيد، اذ ينتهي هذا القسم من الشورجة عند بوابة جامع مرجان، الذي يقابله من الجانب الآخر ما عرف بأسم سوق الجوخجية، والجوخ نوع ثمين من القماش، وهو اليوم معروف بأسم سوق القماش.
لم يبق الزمن ايا من اسماء الشورجة القديمة، وهي سوق البزوريين، ثم سوق الريحانيين ثم سوق العطاريين، وقد اختلف الباحثون في أصل كلمة الشورجة وتعددت آراؤهم، فمنهم من يردها الى كلمة الشيرج وهو دهن السمسم اذا كانت معاصره هناك وكان يستخدم في الطعام والاضاءة سابقاً، ومنهم من يرى ان بئرا مالحا كانت هناك لذلك عرفت باسم شوركاه، اي محل الشورى فحرفت الى الشورجة، واخيرا وليس آخرا ان هذا السوق شهد بيع الشورى اي سباغ الأرض التي كانت تستخدم في تسميد المزارع، والحقت”جة”وهي اداة تصغير عثمانية بالكلمة.
وهكذا بقيت هذه السوق عامرة لغاية هذا اليوم تصارع الزمن، وهي تمثل اهم مركز تجاري للعراق لا لبغداد وحدها، وهي فضلا عن ذلك منطقة غنية بالآثار والشواخص التراثية التي تؤكد اصالتها.
اعداد : ذاكرة عراقية
المصدر:المدى
820 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع