مؤسسوها شيعة وسنة ومسيحيون..الكـاظميــة تروي حكاية تشكيل أول جمعية ليبرالية في المدينة
المدى/بغداد:نبراس الكاظمي/-القسم الأول- و ـ الثاني ـ
قبل سنوات عديدة، عندما كان حسني مبارك لا يزال رئيساً، وفي خضم جولة من الانتخابات الشكلية التي كانت تجري وقتها، قمت بزيارة مصر باحثاًَ ومنقباًَ عن قبر الشاعر العراقي عبد المحسن الكاظمي، ابن عم جدي، الذي انتهى به المطاف بعيداً عن مسقط رأسه بغداد، ليدفن في أطراف القاهرة.
لدي ولع بالمدافن، وهذا أمر قد يراه الكثيرون بأنه غريب وسوداوي. فأنا استهل أي زيارة أقوم بها لإحدى مدن العالم بالبقع التي تحتضن عظام أبنائها وبناتها. المقابر تختصر التاريخ، فولعي الحقيقي هو بالتاريخ، وشاهد القبر، وموقع القبر، يختصران لدي الكثير من حيث التواريخ (الولادة والممات) وصلات القربى والهوية المذهبية والمرتبة الاجتماعية، وما إليه. بل حتى درجة الاعتناء بهذا القبر أو ذاك تخبرني الكثير عن ساكنه، وعمّن يسكن حاليا في هذه المدن. وقد يقاس رُقي المدن بدار أوبرا، أو متحف، أو تناسق تنظيمها ورِفعة نُصبها ونضارة حدائقها، ولكن بالنسبة لي فإن تعاملها مع أسى الفراق والذكرى، ومخافة الموت، وغاية التخليد، هو دليل آخر على رقيها. فعلى مدى التاريخ، كانت المدافن متاحف مفتوحة للتعبير الفني عن هذه المشاعر العميقة، من التاج محال، إلى البير لا شيز بباريس، إلى قبتي الكاظمية، والى الأهرام أيضا (1).
رحلة البحث عن القبر
وفّر لي احد الأصدقاء الدبلوماسيين العراقيين هناك واحدة من سيارات السفارة، وسائقها، ليعينني في بحثي عن قبر الشاعر.
السائق، والذي أصبح صديقا هو الآخر، اسمه طارق، وهو من مدينة أسيوط التي تقع جنوبي مصر، ومن أصل نوبي، ويعشق أغاني محمد منير، وكان من ساكني العشوائيات المترامية حول العاصمة المصرية. ويبدو أن الابتعاد عن روتين السفارة الممل ومشاركتي في هذا البحث قد استهواه، فوجدته متحمساً ومتشوقاً في مسعاي. لم يكن لدي الكثير من المعلومات عن موقع القبر لتتبعها، سوى أن الكاظمي دفن في بادئ الأمر في إحدى مقابر الفقراء بمصر الجديدة عام 1935، وثم نقل جثمانه الى قبر أفخم، على نفقة الخارجية العراقية عام 1947، وبأن ضريحه موجود في مكان ما في مقبرة الإمام الشافعي الشاسعة، التي تسمى عامياً بالقرافة (أو الئرافة، في اللهجة المصرية)، والتي تحوي الملايين من الأموات والأحياء.
بدأنا مشوارنا مع معشر الدفانين العاملين هناك، ولكنهم لم يستطيعوا تعيين مكان القبر لا بذاكرتهم ولا بسجلاتهم، ولكنهم أعطونا استدلالات مكانية حيث يمكن أن نجد القبر حسب المؤشرات القليلة المتوفرة لدي. وعند متابعة هذه الاستدلالات، والتي أخذتنا الى بقع متعددة على طول القرافة، أتيح لي أن أرى مدافن العديد من باشوات مصر وعوائلهم، مما أعاد في ذهني ومخيلتي قصص عنهم وعن سيرهم، والتي شاركتها مع طارق ونحن في مشوارنا. فعرجت على فلان، وعلى استقالة علان من الحكومة، وعلى مذكرات احدهم، وعلى اللغات التي كان يتقنها آخر، وهكذا، لأسرد لطارق بعض الجوانب المضيئة من ذاك العصر الذهبي الذي رصّعه هؤلاء الرجال برفعتهم وأعمالهم، والكثير منهم كان قد خرج من بيئة فقيرة وريفية كما حاله. وكان طارق يستمع لي وأنا استرسل، ويوحي لي بإيماءاته بأنه يستمع ويستوعب، ويبتسم ويهز رأسه موافقا، الى حين وقوع لحظة من الصمت يبدو انه وجدها مناسبة ليقول، مختصرا في قوله الكثير، “ده زمن كميل وعدا”.
محمد عبده والاعتدال الديني
صعقتني هذه العبارة. وفي تلك اللحظة استفقت من سكرة الماضي “الجميل” لأرى واقع مصر أمامي. وتولّد لدي سؤال جديد وملّح: “ما الذي حصل هنا؟” فمصر كانت سبّاقة، منذ أن فتحها نابليون في آخر القرن الثامن عشر، في الانفتاح على الغرب ومحاولة اللحاق به. ولم تكن نتائجها قشرية، أي أنها محصورة في طبقة صغيرة ومنغلقة على نفسها، بل استطاعت أن تستقطب أموالاً هائلة من الاستثمارات، وهجرة أتت بأقليات من كافة بقاع البحر المتوسط، من لبنان وايطاليا واليونان، وحتى من أماكن مثل اسكتلندا، وشاعر عراقي، ليشتركوا جميعا في هذه التجربة. وقد سعى الفرنسيون، ومن ثم أسرة محمد علي باشا، ومن ثم الانكليز، على استيعاب دماء جديدة من أرياف مصر، من مصر “الغلابة”، وأدخلوهم مدارس ولقنوهم لغات وعلوم الرياضيات والهندسة، وأرسلوهم ببعثات دراسية إلى الغرب، وتوالدت أجيال على هذا المنوال. فهذه التجربة استمرت لأكثر من قرن ونيّف، وتركت عمراناً بهياً، وإصلاحاً اقتصاديا، وحفرت قناة السويس، وصنعت ثوارا ضد الوصاية الأجنبية مثل احمد عرابي وسعد زغلول، وأفرزت اعتدالاً دينيا مثل الشيخ محمد عبده، ونشرت كتابات جريئة كتلك للشيخ علي عبد الرازق عن الخلافة، ولمصطفى أمين عن تحرر المرأة. فكيف انتهى الحال بكون كتاب طه حسين “في الشعر الجاهلي” من الكتب الممنوعة حسبما أفادني به احد باعة الكتب في حدائق الأزبكية عند بحثي عنه؟ هل يعقل بأن كتابا نشر عام 1926 في القاهرة بات محظوراً في سنة 2006 في نفس المدينة التي شهد بها النور، وباتت نسخه قليلة، وتلك الموجودة منها والمعاد طبعها في تونس يتم تداولها وبيعها خلسةً؟
لم أجد قبر الكاظمي في نهاية المطاف، ولكن هذه التساؤلات الجديدة دفعتني للبحث مطولا عن تلك الفترة وما تبقى منها في مصر اليوم. وقد تعددت زيارتي من ذاك الحين إلى هناك، لأستوعب المزيد وأرى الكثير. ولكني لست هنا بمعرض البحث عن أسباب انهيار المدنية في مصر، وانزوائها في زوايا متوارية عن الأنظار ليقضي فيها بقايا ذاك “الزمن الكميل” وذراريهم أوقاتهم بالشجن واجترار الماضي، ولعل رواية وفيلم “عمارة يعقوبيان” كانا خير اختصار لهذه التساؤلات.
ومنذ ذاك الحين وأنا أتعمق في ارث العراق المدني أيضا، لأطرح على نفسي السؤال نفسه وأنا أعاين حاضره، “ما الذي حصل هنا؟”.
صور من الكاظمية
وجدت هذه الصورة بين صور والدي الراحل، وقد وضع شرحاً لها على خلفيتها، قائلاً:
“صورة تذكارية تجمع بين الممثلين والممثلات والملقن والمذيع قرب المسرح. إن اشتراك الفتيات معنا في هذه الرواية كان للمرة الثانية في أعمال اللجنة الفنية لفرع جمعية بيوت الأمة في الكاظمية، وكانت المرة الأولى في اشتراكهن في رواية (تحت الرماد) في نفس الموسم. مثلت هذه الرواية (القبلة القاتلة) أيام 17 و18-9-1947. الممثلات هن: أمينة محمد وسميرة محمد. ديبيان (حسن عبد الباقي) لافيري (هادي مهدي) فالوا (رشيد الدبيسي) جاك (راضي السعيد) الدكتور مونروا (جعفر عمران) ريمون (علي جليل) الملقن (حكمت عبد الرؤوف) المذيع (جواد امين).” (2)
وهذه الصورة كذلك، وقد كتب على ظهرها:
“جوقة اللجنة الفنية لفرع جمعية بيوت الأمة في الكاظمية وهي تتألف من: السيد رضا علي، ملحن ومطرب اللجنة الفنية، والعازف على العود السيد محمد عباس، عازف العود السيد فيصل موسى، عازف كمان السيد سليم رستم، عازف كمان السيد خليل الورد، الضارب على الطبل السيد هاشم الورد، عازف الصنج. 23-9-1947".
عجيب أمر هاتين الصورتين! تخيلوا، مسرحية كهذه، وبمشاركة النساء، في بيئة الكاظمية قبل 65 سنة! هذه الكاظمية التي كانت مغلقة على نفسها لقرون عديدة! ومن المفارقات أن اغلب المشتركين الظاهرين فيها كانوا من عوائل تقليدية ومحافظة، وبعضها دينية أخرجت العديد من رجال الدين الشيعة.
ومن المفارقات أيضا أن هؤلاء جلّهم من المتطوعين من دون مقابل، وهم من الهواة، فمنهم من انتهى به المطاف أستاذا جامعيا، وآخر مديرا عاما في أمانة العاصمة، ومنهم من أصبح ناقدا وشاعرا، وآخر تاجراً. وكانت الغاية من هذه العروض المسرحية أو الموسيقية هي تمويل نشاطات الجمعية الخيرية عن طريق مبيعات التذاكر. كما إن فعاليات كهذه أزهرت طاقات فنية أغنت العراق كله، فالشخص المشار إليه كـ “جعفر عمران” هو الفنان الراحل المسرحي الكبير جعفر السعدي، الذي بدأ مشواره من خلال اللجنة الفنية لجمعية بيوت الأمة فرع الكاظمية، وربطته صداقة مدى العمر مع والدي. وملحن ومطرب فرع الجمعية في الكاظمية كان الفنان الراحل رضا علي، الذي يعتبر من رواد الأغنية العراقية، ولكن كونه كرديا فيليا، فقد عانا ما عاناه جراء التمييز الطائفي والعنصري في الحقبة البعثية التي أبعدته عن جمهوره وعن النجومية التي كان يستحقها، وأذكر أن والدي كان دوماً يدندن إحدى أغانيه الشهيرة “يابه يابه شلون عيون…اهل البلد ما يدرون”. (3)
بيوت الأمة خارج الدين والسياسة
ما هذه الجمعية؟ وما المغزى من اسمها؟ وما كانت غايتها، ومن يقف وراءها؟ كل هذه الأسئلة تزاحمت في رأسي وأنا أعاين هاتين الصورتين.
وبعد بحث وجيز، توصلت إلى هذه الأوليات عنها: تأسست جمعية بيوت الأمة سنة 1935. وينص نظامها الأساسي (4)، المعدل سنة 1940، في مادته الثالثة على أن “لا علاقة لهذه الجمعية بالسياسة والدين”، في حين المادة الرابعة تنص على أن:
“غاية الجمعية تهذيب أبناء الشعب تهذيباً اجتماعياً وصحياً وأخلاقياً في بيوت الأمة التي تقيمها الجمعية خصيصا لهذه الغاية وذلك بالوسائل العلمية الحديثة” .
يتضح إلينا بأنها كانت جمعية ليبرالية مدنية منتشرة في اغلب المدن العراقية، وكانت تُعنى بالرقي الاجتماعي والتنوير، وبالأعمال الخيرية. وكانت هيئتها التأسيسية تتألف من حنا الخياط، وفاضل الجمالي، وجميل دلالي، ويحيى قاسم، ورؤوف الكبيسي، واحمد كمال، وعلي الشرقي. ولأن الأجيال الحالية قد لا تستدل على أهمية هذه الأسماء لأنها محيت من ذاكرتها، ولأن واقعها اليوم يبحث عن أجندة طائفية أو عنصرية أو سياسية مخفية في أي عمل خيري، فلا بد للتوضيح بأن السيد مولود مخلص، ذاك السني من تكريت، والضابط السابق واحد رجالات الدولة العراقية، قد اشترك في تأسيس هذه الجمعية مع الطبيب المسيحي الارمني حنا خياط، ابن الموصل، وأول وزير صحة عراقي. وذلك بمعيّة المربي الكبير فاضل الجمالي، الشيعي الكظماوي، الذي سيشغل منصب رئيس الوزراء لاحقا. أما يحيى قاسم، فكان صحفي، وهو مالك جريدة الشعب الصادرة في تلك الحقبة. ورؤوف الكبيسي من كبار الإداريين الذي خدموا السلك الحكومي، في حين عرفنا علي الشرقي شاعرا، وكان كذلك عضوا في مجلس الأعيان واستوزر عدة مرات في الحقبة الملكية، ولنا عودة عليه لاحقا.
وتأسست فروع للجمعية في أماكن متعددة، منها الكاظمية، حيث كان يرأسها التاجر هاشم البياع، والنجف، حيث تألفت اللجنة التأسيسية من السادة: حسن السيد هادي زوين وعبد الوهاب كمونة ومحمد رؤوف عباس الجواهري وجواد حسام وجواد كاظم وجعفر همدر وعبد المجيد جاسم وكاظم موسى الرفيعي (5). وفي البصرة، حيث تكونت هيئتها الإدارية (سنة 1941) من السادة: عبد القادر السياب وعبد القادر السواد وعبد الرحمن المنصور ويوسف السيد حسن وعبد السلام الحاج ناصر وبدر الطه العبد الجليل وغيرهم (6).
تأسيس الفرع النسوي
وفي سنة 1938، تأسس الفرع النسوي لجمعية بيوت الأمة بهدف إنشاء مدارس مسائية في الكاظمية والكرخ لتدريس الفتيات وتعليمهن مبادئ القراءة والكتابة، وفي عام 1947 افتتحت ميتما للبنات الفقيرات المشردات، وفي السنة اللاحقة وجهت نشاطها نحو العناية باللاجئين الفلسطينيين القادمين إلى العراق. وساهمت، مع بقية أفرع الجمعية، في إنشاء عدد من الدور السكنية الصغيرة للأسر الفقيرة في منطقة بالقرب من شارع الشيخ عمر، وباتت هذه المحلة تعرف بـ “محلة بيوت الأمة” في خرائط أمانة بغداد آنذاك. وكانت الهيئة الإدارية للفرع النسوي في عام 1951 تتألف من: عليّة يحيى قاسم، وضفيرة جعفر، وأنعام الدليمي (شقيقة الوزيرة نزيهة الدليمي التي استوزرت في العهد الجمهوري لاحقا)، وبدرية علي (مديرة مدرسة)، وزكية العبايجي وجورجيت موتكة وبليغة رسول.
قد لا تعني هذه الأسماء الكثير لمن يقرأها اليوم، فالكثير منهم قد وافته المنية، وقد اضمحلت معالم هذه الجمعية وسيرتها واندرست انجازاتها وعمرانها. فأنا لم أجد أي دراسة موسّعة، أو مقالة جادة، عن هذه الجمعية في أي مكان إلا هذه “النتوفات” التي شاركتكم إياها أعلاه. ولولا الصورتان تلك من أرشيف والدي لما كنت قد سمعت بها أبداً.
ولكن لهذه الأسماء دلالة، لمن يتتبع ما توفر من سيرتها، على تنوع القائمين على هذا الجهد دينيا ومذهبيا وطبقيا ومهنيا. والاهم من ذلك كله إنهم جاؤوا سوية، من منابت وأصول متعددة، للنهوض بمجتمعهم ولتعميم الرفعة عن الجهل والستر من الفقر، بما تيسر. فما الذي دفعهم إلى ذلك؟ ولماذا تناسينا كعراقيين تلك الجهود الرائعة والجميلة.
الكاظميةالكاظمية ..بالأمس مسرح وحفلات لرضا علي يدندن بها أهالي المدينة / القسم الثاني
نبراس الكاظمي
خرج والدي من أحد البيوت في محلة التّل الظاهرة في الجانب الأيسر والسفلي من هذه الصورة. الكاظمية، كما أسلفت، كانت منغلقة على نفسها لعقود وقرون، ولكن جمعية بيوت الأمة جمعته مع ثلة من الشباب والشابات من محلات أخرى في المدينة، وأطلعتهم على الموسيقى وعلى مسرحيات ألفها رجل أمريكي، ووجهت طاقاتهم تجاه تنظيم السهرات الفنية التي كان يعود ريعها على فقراء القوم. أي أنها غرست مبادئ المدنية في نفوسهم، ومنها ان الفنون غذاء الروح، ولا توجد رفعة حقيقية اذا لم يسع القوم الى النهوض بكل من حولهم. لم تعزلهم في قوقعة أرستقراطية، لم تقل لهم بأن الفنون محصورة على فئة دون أخرى، لم تجندهم للحفاظ على مكاسبهم الطبقية، ولم تقل لهم انه لا يوجد شيء مجد في العالم الأوسع إلا ما توارثتموه من الأجداد.
ومن هذه المحلة أيضا، خرج أجداد وآباء السيد حازم الأعرجي، ممثل التيار الصدري في الكاظمية، ولكن، وبالرغم من طول إقامته في كندا “المدنية” جدا، جاءنا الأعرجي مؤخرا بحملة الـ “لاءات” الأربعة، التي أطلقها عقب الحملة الداعية الى منع النساء اللواتي لا يرتدن العباية من دخول أرجاء مدينة الكاظمية. وقد دخل المرجع آية الله العظمى اسحق الفياض على الخط، ونشر بيانا يدعو فيه إلى “وجوب تطبيق المؤمنين لحملة اللاءات الأربعة في مدينة الكاظمية”، مضيفاً “أن هذه الحملة تدخل في تطبيق الشريعة المقدسة”.(7)
منذ متى ونحن في مسعى لتطبيق الشريعة؟
بحجم احترامي لهذا المرجع، ولكن في واقع الأمر كان الفياض شابا مراهقا عمره 18 عندما شارك والدي، الذي يكبره بسنتين، في الفعالية المسرحية أعلاه. بل لم يكن الفياض في العراق أصلا، وإنما في محافظة غزني بأفغانستان، مسقط رأسه. فلا عتب عليه إن كان يجهل الانفتاح الذي شهدته الكاظمية حينها. ولكن ليس باستطاعتي أن ارفع العتب عن السيد الأعرجي بنفس الحجة، لأنه ابن الكاظمية، بل أجداده كانوا يسكنون في رأس نفس الدربونة المؤدية إلى بيت جدي. فهل يعتقد الأعرجي بأن الأشخاص الظاهرين في الصور أعلاه “فاجرين” او “فاسقين”؟ هل سيقول بأنهم دنسوا قدسية مدينتهم لأنهم شاركوا على مسرح مع سيدتين “سافرتين”؟ هل خانوا الأمانة عندما دندنوا برفقة المغني رضا علي؟
من أين جاءونا بهذا التطرف من بعد أن استطاعت الكاظمية أن تكسر قيود العزلة قبل 65 سنة؟
لا بد من أن في وقتها كان هنالك من يمتعض من عرض هذه المسرحية سنة 1947 وبنفس عقلية الأعرجي اليوم، ولكن لم تكن لديه الجرأة على التطرف علنا لهذه الدرجة وإطلاق سيل من الاتهامات بالفسوق ضد القائمين عليها، لأن المشاركين هم من عوائل ذات جذور قديمة في المدينة، وتجمعهم أواصر القربى والجيرة والعمل مع عدد كبير من العوائل الأخرى، فإذا أراد احدهم أن يفتعل أزمة، كان سيواجه بتوبيخ من “حكماء” المدينة، وان كانت أجواؤها العامة تقليدية أو حتى رجعية، لأن هؤلاء الوجهاء مكلفون بالمحافظة على السلم الأهلي. إذن، الأواصر المدنية تعمل على تهذيب التطرف أيضا، وتحجيمه، وهذا غير موجود اليوم لأن الكاظمية التي شهدت تمزقا حادا في وشائجها التقليدية والأسرية، فحالها من حال الكثير من المدن التي تعرضت إلى تغيرات اجتماعية وديموغرافية واقتصادية مهولة، ناهيك عن دورات الزمن التي مرت عليها والتي جاءتها بانقلابات وتسفيرات وحروب وحصار وقمع واحتقان.
ما الفائدة من استرجاع ذكريات الماضي “الجميل"؟
قد يقول البعض بأن هذه الظاهرة المدنية التي أزهرت في الثلاثينات والأربعينات كانت قشرية، نخبوية، ولم تمتد جذورها إلى أعماق ووجدان المجتمع العراقي، في حين أن الدين متجذر في بيئتنا، ولهذا استطاع الصمود، ومعاودة الانتشار من بعد الظروف القاسية التي مرت على البلد. ولكن الدين الذي ظهر علينا اليوم هو امتداد لعواصف التشدد التي تعاقبت على العراق، من القومية الشوفينية التي حاصرت وهجرت الأقليات والهويات الفرعية، إلى مطحنة البعث المسخ التي أتت بلوثته على كل حصادنا المدني. ودعونا لا ننسى بأن البعث وظّف الدين لغاياته التسلطية إبان ما كان يعرف بـ”الحملة الإيمانية” في التسعينات، وخّط شعار “الله اكبر” على علمنا. فالدين في العراق اليوم، في شقيه الشيعي أو السني، لا يعكس الإرث المتسامح الذي كان ضاربا فيه، من التصوف قديما إلى الحوزة النجفية في مطلع القرن الماضي والتي أنجبت محمد رضا الشبيبي ومحمد جواد الجواهري، فحتى الدين لم يكن بمعزل عن الانفتاح الذي ساد في تلك الحقبة المتسامحة. بالطبع، بقيت هناك جزر من التطرف هنا وهناك، ولكنها لم تستطع أن تمنع أو تكبت الاندفاع نحو الجديد، في حين اليوم نرى أن هذا التطرف الديني يتمدد كي يفرض إرادته على كل ما يراه مغايرا.
الحنين إلى الماضي
نحن هنا لا نجتر الماضي كي نمارس الـ”نوستالجيا”، أي الحنين إلى الماضي. فغايتنا ليست التباكي على الأطلال، ونعي “زمن جميل وعدا”، وإعلان استسلامنا أمام التطرف. استرجاع الذاكرة المدنية يتيح لنا تقديم أمثلة على ما هو ممكن في مجتمعنا لو سمحت بذلك الظروف وتضافرت الجهود. فالمسافة بين كشيدة جدي وبين هاتين الآنستين اللتين شاركتا في المسرحية قصيرة جدا، بل تقاس بجيل واحد.
عندما ابتدأ المشوار نحو بلد ومجتمع جديد عام 1921، سنة تأسيس الدولة العراقية وإطلاق هوية لها، كان العراق عبارة عن تراكم لمفاهيم متناقضة وحالات ثابتة لم تتغير منذ أزل بعيد، ففي الأرض التي ظهرت فيها أولى مدن العالم كانت الحالة المدنية قد أمست في اضعف حالاتها، من بعد سطوة الحروب والآفات والانفلات. فكان اغلب سكان العراق يسكنون قصبات ريفية منعزلة، أو تتسم حياتهم بمراحل متفاوتة من البداوة. بل أن الكثير من سكانه كانوا حديثي القدوم إلى العراق في هجرات لم يمض عليها إلا قرن أو قرنان. وحتى مدنه، كبغداد، كانت أشبه بتجمع لقرى متجاورة منغلقة هي الأخرى على نفسها، إن كانت “قصبتي” الكاظمية او الأعظمية، أو حارات اليهود والنصارى، أو المحلات التي نشأت جراء هجرات حصلت في القرن التاسع عشر وباتت تعرف بهوية المهاجرين إليها مثل الططران، الهيتاويين، المهدية، التكارتة، السوامرة، الدوريين، الكريمات، . . إلخ.
ولكن، في مطلع القرن العشرين، حدث أمر جديد، فالظرف السياسي والعالمي اخرج العراق من عزلته، ووضعه أمام أمر جديد وصارخ في حداثته، وهو قدوم الانكليز والعهد الفيصلي وإنشاء بلد حديث على أنقاض وركام تاريخه وتناقضاته. وفي فترة وجيزة، جرت متغيرات لربما كانت تبدو وكأن العالم قد انقلب على عقباه في أعين جدّي.
الاستسلام للتحولات الجديدة
لم تصل إليّ آراء جدي وخواطره، هو المتوفى سنة 1951، ولا ادري ما كان يجول في خاطره وهو يرى ابنه يشارك في عرض مسرحيات غربية، وبأزياء غريبة. هل توصل الى قناعة بأن العالم قد تغير، وبأن عليه مراعاة هذا الواقع وعدم الوقوف أمامه؟ لا ادري، ولكن ما استطيع استنتاجه هو انه شهد تحولات جوهرية ومهولة، بالنسبة لما توارثه عن آبائه، في جيل أبنائه وبناته، وحسبما سمعته من والدي وعماتي، فقد استسلم لهذا التحول، بل يبدو بأنه في نهاية المطاف تقبله.
أتصور أن هذه المتغيرات قد مرت على الكثير من العوائل والأسر في العراق، والكل لديه قصة في ذلك. فحتى الطبقات المدقعة مرت عليها تغيرات شديدة عصفت بكل قناعات الأجداد، فوجدوا أنفسهم أمام الحداثة وصخبها واستفزازاتها، خصوصا أولئك الذين هاجروا، لظروف متعددة، من الريف إلى الحواضر المدنية التي باتت تتسع بتسابق مع زمن يمر سريعا وهائجا.
ماذا كان يجول في ذهنهم؟ هل تستطيع يا أيها القارئ أن ترى مطلع القرن الماضي من وجهة نظر أجدادك الذين واكبوه؟
نسترجع الماضي كي نطرح هذه الأسئلة على أنفسنا، ولربما نستعيض ببعض إجاباتها ونحن نواجه متغيرات هائلة في مطلع القرن الواحد والعشرين. فما يعني فيسبوك للمجتمع العراقي؟ ما هي آثار الستلايت والمسلسلات التركية على التركيبة الأسرية وأعرافها؟ كيف سنمارس الديمقراطية ونحن محّملون بأعباء الهويات المتوارثة التي علينا التنازل عن قسم منها كي نُنجح التجربة؟
كيف انحرفنا الى الهاوية؟!
بين الفينة والأخرى أقوم بتصفّح الدليل الرسمي الصادر باللغتين العربية والانكليزية سنة 1936 لأنني أرى فيه عالما لا يشبه عراق اليوم إلا باسمه وجغرافيته وبعض المؤشرات الشحيحة. ففي هذا الدليل نرى بلداً متحضراً، منفتحاً، متجهاً بثقة نحو المستقبل ونحو العالم. بالطبع، لم يكن هذا الحال معكوسا على كافة أرجاء وطبقات البلد، ولكن الفقر والعوز كان موجودا، بل متفشيا، في الكثير من أرجاء العالم، ولكن بالرغم من ذلك استطاعت نُخبها أن تحافظ على منجزاتها، حتى من بعد حروب طاحنة وسعير اديولوجيات متطرفة. فأعود واسأل نفسي هذا السؤال وأنا اقلب هذا الدليل بين يديّ: أين ضللنا الطريق نحن وبلدان أخرى كمصر؟
أسئلة معقدة، وستذكرنا بآلام مريرة، وقد لا نحصد منها إلا التنهدات. فدعونا نجتر، في هذه المقالة، ما يعود بفائدة وإرشاد علينا في حاضرنا. نعم، علينا أن نستدل كيف انحرفنا إلى الهاوية كي لا نقع فيها مرة أخرى، ولكن قبل الإمعان في ذلك، علينا أن ندب الحياة مجددا في مدنيّتنا. المدنية هي بداية العافية. دعونا نعود إلى ما كان جميلا، وممكنا، في الماضي كي نمضي قدما.
ودعونا نلقن، ونطعّم، أجيال القرن الحادي والعشرين العراقي بأن تاريخنا في القرن الماضي لا يمكن اختزاله بانقلابات وسحل ومشانق وكيمياوي وبوابة شرقية وزرقاوي و”دريل” أبو درع. دعونا نذكرهم بأن تاريخنا يحوي أيضا جمعية بيوت الأمة، ودليل عام 1936.
لأن اكبر تحدٍ يواجهنا اليوم هو التطرف الذي يجتر هو أيضا ما يناسبه من الماضي كي يباعدنا. ويتهيأ لي بأن الظاهرة المدنية أفضل مضاد حيوي يكاسر هذه الحمى.
لِم المدنية تحديداً؟
لأن المدنية مبنية على فكرة بسيطة وعميقة، وهي أن المسافة التي تضعك بمقربة من نقيضك تحتم عليك تقبله، وإلا ستبقى محكوماً بزمن لا ينتهي من المواجع. لك أن تضع مسافة بينك وبين ما يستفزك في الأرياف والبادية، وان تنظم هذه المسافة عن طريق أعراف عشائرية تحفظ لك تفردك ضمن الهوية المتوارثة. ولكن المدينة، في ابسط تجلياتها، تجمع عدد كبير ومتنوع من البشر، وتحتسب لهم أمكنة عامة وخاصة، وتنظمها بقانون يخطط الحد الفاصل بين جدار المنزل والشارع، بين المستوصف وغرفة النوم، بين المسجد وبين الحانة. لك أن تمارس ما توده، ضمن المعقول، في إطارك الخاص والمساحة التي تخصك، ولكن عليك القناعة بأن المساحات خارج هذه الأطر هي لك ولغيرك، وعليك الوصول إلى حل وسطي “يچفيك” و”يچفيه” ما لا يستطيع الطرفان تحمله.
إذاً، المدنية تجبرك على التكيّف والتعايش، مع جار مزعج، مع ضوضاء السوق، مع أجراس الكنيسة، وصوت المؤذن أيضاً. ملكية الشارع متكافئة بين من يقود المرسيدس، ومن يقود السايبا، ومن يمضي على قدميه، او على كرسيه المتحرك. وستقع عيناك على امرأة بعبايتها، وعلى شعر متطاير، وعلى بدلة أنيقة، وعلى دشداشة بهيّة.
809 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع