مذكرات مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين / د.صادق عبدالمطلب الموسوي/ ح٩

    

مذكرات د. صادق عبدالمطلب الموسوي مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين .. شــاهـد ورأى كــل شــيء الحلقة التاسعة.

  

فيْ ظل تلك الظروف الصعبة.. ماذا يتوقع مني القارئ العزيز سوى ترك الدراسة الصباحية وبعد أن رسبت سنتين متتاليتين في المدرسة اضطررت في الثالثة إلى الانتقال إلى الدراسية المسائية وأنا لم أزل في الصف السادس الابتدائي! كنت مع زملاء يفوقون عمري بعدة السنين في مدرسة المنصور الابتدائية للبنين مقابل دار الإذاعة العراقية والتي ألحقت فيما بعد بها لتتخصص في التدريب الإذاعي,
شاركت في الامتحان الوزاري البكالوريا للصف السادس الابتدائي في أواخر مايس عام 1958 وكانت نتيجتي طبعا الرسوب وكانت تلك السنة آخر فرصة لاستمراري في الدراسة ولكن الظروف كانت أقوى مني. وعندما يئست من الدراسة في حزيران عام 958 لم يكن أمامي سوى التطوع في الجيش واخترت صنف الهندسة الكهربائية على ضوء نصائح الأهل والأقرباء والأصدقاء وعند التقدم لدائرة التجنيد في الكاظمية الثانية والتعرف على شروط التطوع والوثائق المطلوبة واجهت العقبة الأولى في حياتي المدنية وهي عدم وجود شهادة جنسية لوالدي وهذا يعني أن أبدأ من الصفر من حيث الأصل والمنشأ والولادة والعشيرة واللقب ...إلخ ولم أكن أعلم بما ينتظرني!! ووجدت نفسي فجأة كأني غريب في كربلاء وأنها مسقط رأسي فقط وقد اكتشفت هذه الحقيقة عندما طالبني المختار بالمضبطة والشهود فلم أجد أحدا يشهد لي بأني من الأسرة الفلانية أوالفلانية في المحلة مما أدخل الشك في نفس المختار رافضا الاعتراف بأصالتي في المحلة أو المنطقة وكان محقا في ذلك فإن أصلي وعشيرتي من النجف كما مر سابقا ومع ذلك وتحت تأثير أحد الأقرباء من سدنة الروضة العباسية وافق المختار على تزويدي المضبطة التي يؤيد فيها كوني من سكنة محلة باب الطاق في كربلاء والتي حملتها مباشرة إلى مديرية الجنسية في البتاوين في بغداد ولكن لم أنلها إلاّ بعد ثلاث سنوات! أي أن القدر لم يشأ لي التطوع في الجيش!

   

في صبيحة الرابع عشر من تموز في يوم الإثنين وبينما كنا نهم بالخروج إلى معمل الألبان حيث كنا نقيم في مدينة الحرية, سمعنا من الإذاعة نشيدا وطنيا غريبا عنا لم نسمعه من قبل ألا وهو نشيد "الله أكبر" الحماسي الذي يثير ويحرض على مواجهة وقتال الأعداء! الأمر الذي أثار فضولنا لمعرفة ما يتبع هذا النشيد وإذا به البيان رقم "1" بصوت العقيد عبد السلام عارف الذي يعلن الثورة على الملكية وإقامة الجمهورية مهنئا الشعب العراقي وطالبا منه النزول إلى الشارع لدعم الثورة ومساعدة الجيش في القبض على أزلام النظام البائد ثم أخذت البيانات تتوالى.. نزلنا إلى الشارع وإذا بالدبابات والمصفحات والجنود منتشرون في كل مكان وخاصة في المواقع الحساسة كالإذاعة والتلفزيون والدوائر المهمة. كان اللقاء حارا جدا بين الجيش والشعب وكان الجنود قد لصقوا على دباباتهم ومدافعهم صور الرئيس جمال عبد الناصر إذ لم يكن يعرف بعد أسماء وصور قادة الثورة.. وأخذت الجماهير المجروحة نتيجة الفقر والقمع تتسلق هذه الدبابات لتعانق الجنود والناس يهنئ بعضهم البعض ويتصافحون ويضحكون يعمهم الفرح ونشوة الانتصار على عملاء بريطانيا وعلى رأسهم رئيس الوزراء المزمن نوري سعيد. لم أنس قط ذلك اليوم الحار والساخن في مناخه وانفجاره الثوري ونتيجة لهذا الهيجان الشعبي فرض منع التجوال في العاصمة بغداد ابتداء من بعد الظهر وحتى صباح اليوم التالي!!
في المساء كان كل الناس في بيوتهم مشدودين إلى الإذاعة يتابعون البيانات وتوجيهات مجلس قيادة الثورة وسقوط أزلام العهد الملكي واحدا تلو الآخر بأيدي الثوار.. فقد كان الملك الشاب فيصل الثاني قد قتل مع خاله عبد الإله صبيحة الرابع عشر من تموز وهو يحمل منديلا أبيض مع كتاب الله ولكن فوجئ الناس في اليوم الثاني بجثة الوصي عبد الإله وقد مثل بها وهي معلقة عارية ومتدلية من شرفة فندق السلام سابقا بالقرب من جسر الشهداء حاليا من جانب الكرخ, كان المنظر رهيبا ومقززا فقد قطعت أعضاؤه التناسلية بالسكين وهو يقطر دما وشحما وقد انتشرت في المكان رائحة كريهة والناس يهللون ويرقصون فرحا بنشوة الانتقام! كانت الشوارع مكتظة بالجماهير وهي تنادي الثأر الثأر من نوري سعيد وقد صدر بيان من مجلس القيادة العامة للقوات المسلحة بمنح مكافأة قيمتها عشرة آلاف دينار لمن يلقي القبض على نوري سعيد! في هذا المناخ الساخن عسكريا وسياسيا واجتماعيا لم نكن نعلم بعد بأسماء القادة العسكريين الذين قاموا وقادوا الثورة المهم عند الناس زوال الملكية وإقامة الجمهورية والتخلص من قمع وإرهاب أزلام العهد البائد وخاصة نوري سعيد "أبو صباح".
القبض على نوري سعيد!!
كانت دار نوري سعيد الجديدة تقع في كرادة مريم وتطل على نهر دجلة وكانت المنطقة تحت الحراسة المشددة بحيث لا يستطيع أحد الوصول إليها. وبسبب هذه الإجراءات الأمنية المشددة كان النظام البائد يردد دائما شعار "دار السيد مأمونة" حتى بلغ الأمر بنوري سعيد نفسه للادعاء بأن "قاتلي لم يولد بعد". كان له الحق في هذا الاطمئنان ففي كل الأحوال فإنه قد أعد وسائل كثيرة للهروب عند الخطر من خلال تجاربه السابقة! فقد كانت هناك ساحة لاستقبال طائرة هليكوبتر صغيرة ورصيف ممتد من بيته إلى مسافة منتصف نهر دجلة لاستخدامه عند الحاجة في الملاحة النهرية حيث كان يمتلك زوارق حديثة وسريعة والحراس منتشرون في كل مكان من القصر ولكن كل هذه الاستحكامات والاحتياطات لم تنفعه عندما حاق به الخطر. في اليوم التالي تنكر نوري سعيد بزي امرأة وهرب إلى الكاظمية لاجئا عند أحد كبار أطباء الكاظمية وهو الدكتور تحسين الاسترابادي! لم يمض "الباشا" سوى ليلة واحدة عند الدكتور تحسين لينتقل بعدها إلى دار أحد معارفه في البتاويين وهناك ألقي قبض عليه إذ فضحته "البيجامة" التي كان يرتديها تحت العباءة النسائية مما أثار حوله فضول الأطفال والصبيان وكان هدفا سهلا لهجوم الناس والانقضاض عليه خلال فترة قصيرة حتى وصل الخبر إلى العقيد وصفي طاهر الذي أطلق النار عليه وأرداه قتيلا في الحال تاركا جثته للناس للتمثيل بها!!
أخذ الناس يسحلون ويمثلون بجثة نوري سعيد على مدى عدة أيام وقد رأيت بأم عيني سيدة تتقدم مظاهرة وهي تحمل الكف المقطوعة لنوري سعيد أمام دار توفيق السويدي, حتى بلغ بهم الأمر في النهاية إلى حرقه بالقرب من شجرة اليوكاليبتوس عند مدخل معمل طحين عبد الهادي الجلبي بالقرب من الكاظمية. وبقيت رائحة الشواء تعم المنطقة على مدى عدة أيام!!
الفصل الثالث
العهد الجديد في الجمهورية العراقية
ثورة 14/ تموز لم تكن ثورة أو انقلابا وحسب بل كانت انفجار بركان يغلي قذف بحممه البركانية ودخانه إلى السماء بحيث أحرق على مدى أربع أو خمس سنوات اليابس والأخضر!في الأسبوع الأول من الثورة برزت أسماء قادة الثورة فالزعيم عبد الكريم قاسم رئيسا للوزراء ووزيرا للدفاع والعقيد عبد السلام عارف نائبا لرئيس الوزراء ومحمد حديد وزيرا للمالية وأحمد صالح العبدي حاكما عسكريا عاما وعبد الجبار الجومرد وزيرا للخارجية ومحمد صديق شنشل وزيرا للإرشاد.... إلخ كانت تشكيلة وزارية من شخصيات وطنية معروفة ومرموقة.. ومنذ الأيام الاولى للثورة وانطلاق الحريات وظهور الأحزاب لشعب مكبوت على مدى خمسين عاما من تأريخه الحديث, بدأ الصراع على السلطة بين اليسار واليمين, بين السنة والشيعة, بين القوميين والوطنيين, بين العلمانيين ورجال الدين، بين العرب والأكراد، بين المسيحيين والمسلمين، بين الأكراد والتركمان... إلخ. كل يريد قطعة كبيرة من "الكعكة". لم يكن من السهل قيادة مثل هذا البلد وبشكل فجائي تغيير سياسته الخارجية والداخلية 180 درجة! من القمع والمنع إلى الديمقراطية والحرية وكان نتيجة هذا التغيير المفاجئ عواقب وخيمة على البلاد وهو أمر طبيعي يشبه إلى حد كبير الغوّاص عندما يصعد بسرعة من الأعماق السحيقة إلى سطح البحر فإنه والحالة هذه يتعرض للعمى أو الجلطة بسبب التغيير المفاجئ للضغط!!

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://algardenia.com/ayamwathekreat/24179-2016-06-10-09-51-37.html

  

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

618 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع