مذكرات توفيق السويدي.. الأيام الأخيرة من حياة الملك وولي العهد والباشا السعيد
توفيق السويدي احد رموز العهد الملكي، رجل رافق الدولة العراقية الحديثة منذ نشوئها أو حتى قبل ذلك التاريخ، عندما كان شابا نشطا يعمل باتجاه الاستقلال السياسي لبلده العراق، والرجل مولود في بغداد عام 1892م في جانب الكرخ محلة خضر الياس، وهو من أسرة عريقة يرجع نسبها الى العباس عم الرسول (صلى الله عليه واله وصحبه وسلم ) درس الحقوق في بغداد ثم إستنبول حتى أصبح قاضيا كبيرا حيث عُين عام 1918م قاضيا لرئاسة محكمة بداءة الشام، ثم عميدا لكلية الحقوق في بغداد، ثم مديرا عاما للعدلية.
أما في ميدان السياسة فدخلها عام 1928م حيث عين لأول مرة بمنصب كبير وهو وزير المعارف، وفي أيار عام 1929الف الوزارة السويدية الأولى، وفي السنة عينها وبعد استقالة وزارته تم انتخابه رئيسا لمجلس النواب، ولما حُل المجلس لإجراء الانتخابات الجديدة، عُين في سنة 1931 وزيرا مفوضا للعراق في طهران، وفي سنة 1933 نُقل ممثلا دائما في عصبة الأمم في جينيف وفي حزيران سنة 1934عين وزيرا للخارجية للمرة الثانية وفي السنة نفسها عين وزيرا للعدلية وفي سنة 1935عين مراقبا عاما لحسابات الدولة بدرجة وزير وفي آب 1937 م عين وزيرا للخارجية وفي سنة 1939 وفي شباط 1941عُين وزيرا للخارجية وفي 25كانون الاول 1943 عينت نائبا لرئيس الوزراء وفي 23شباط 1946 الف وزارته الثانية، وفي عام 1952م تولى منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية وفي عام 1953تولى وزارة الخارجية في وزارة جميل المدفعي الائتلافية التي مهدت لتتويج الملك فيصل الثاني وفي 3-3-1958عندما تشكلت حكومة الاتحاد العربي على أثر اتحاد العراق والأردن تولى السويدي منصب وزير خارجية الاتحاد حتى قيام ثورة 14-تموز1958 م .
توفي السويدي رحمه الله في بيروت عام 1968م بعد إن تم إطلاق سراحه بعد ثورة 14تموز بأمر من الزعيم الركن عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء( رحمه الله)، بعد إن أفنى الرجل حياته في خدمة الدولة العراقية، كتب مذكراته وهي تحمل عنوان (نصف قرن من تاريخ العراق)، حيث كان دقيقا فيها بوصف الكثير من الحلقات المهمة التي مرت في حياة الدولة العراقية الحديثة اختطفنا منها ما يتعلق بالأيام الأخيرة من حياة المملكة العراقية التي ظهرت للوجود عام 1921م وانتهت صبيحة الرابع عشر من تموز عام 1958م أثر ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة،
ممثلة تلك الايام بحياة الرموز الثلاثة الأكثر أهمية وهم الملك وولي العهد الوصي سابقا الأمير عبد الاله فضلا عن أهم وأكبر شخصية سياسية حكمت خلال العهد الملكي وهو المرحوم الباشا نوري السعيد،يقول السويدي تحت عنوان الأقدار تمهد ما يلي :-
لقد كانت استعدادات سفر الملك الى اوربا لاجتماعه بخطيبته قائما على قدم وساق وكان الملك متشوقا للسفر ومستعجلا في تحديد موعده ولا يقبل أي سبب يؤدي الى تأخيره وقد حدد يوم الثامن من تموز سنة 1958موعدا للسفر، وفي السابع من تموز جاءني وزير مالية الاتحاد العربي عبد الكريم الازري، وأخبرني بأن قانون الخدمة الخارجية للاتحاد وقانون توحيد النقد الاتحادي، والبنك المركزي في الاتحاد قد أنجز ولم يبق لنشرهما سوى يومين، ولما كان يتمنى شخصيا ان يتوجهما جلالة الملك بإمضائه قبل سفره، فقد فاتح جلالته فوجده غير مستعد، لتأخير سفره الى ما بعد يوم 7تموز لذلك رأى أن يوسطني في هذا الشأن لأقنع جلالته بتأخير سفره يومين أي من 7الى9 فوعدته خيرا وبعد ساعتين ذهبت الى البلاط وقابلت الملك وقصصت عليه رأي وزير مالية الاتحاد وقلت: ان تأخير سفر جلالته يومين لا يقدم ولا يأخر فاقتنع بعد تململ طفيف وضحك وقال: طيب سنتأخر ليوم 9تموز، يواصل السويدي كلامه عن القدر الذي ساق الرموز الثلاثة الى الموت فيقول:
أقدار قاسية
لقد كانت الاقدار قاسية على ما يظهر لأنها بهذا التأجيل عجلت في إتمام ما سيحل بالملك من أخطار ففي يوم 8تموز وردت برقية من شاه ايران الذي كان في واشنطن يقول فيها انه قابل الرئيس ايزنهاور ولديه شيء كثير من المعلومات التي يرغب في إبلاغها لمجلس ميثاق حلف بغداد وبما انه راجع الى طهران فسيمر بإستنبول لمدة قصيرة ويقترح ان يجتمع رؤساء دول الميثاق ورؤساء وزرائهم في استانبول للمداولة وقد حدد يوم مروره بإستنبول يوم 14 تموز 1985 وهكذا حلت الكارثة بالملك وملكه ومملكته أضطر الملك الى تأجيل سفره ثانية من 9تموز الى 14 تموز سنة 1958 في الساعة الثامنة صباحا وهيأ بذلك القدر نهاية حكم امتد من 21 آب 1921الى 14تموز 1958.
لقد وقع الملك على القانون وتحققت رغبة وزير مالية الاتحاد وكانه في عين الوقت وقع صك اعدامه وانتهاء حكمه رحمه الله ومن الصدف الغريبة والمواقف القاسية في مجرى عمر الانسان ان يشاهد عوامل ومؤثرات تتجمع وتتكدس في نقطة واحدة وفي وقت واحد وبذلك تتحتم النتيجة ويحصل ما نسميه (الأجل ) أو (القضاء والقدر) أو غير ذلك من عبارات التسليم بالواقع الاليم .لقد قبل الملك فيصل تأجيل سفره من 7تموز الى 9 منه ثم من 9 الى 14 منه استجابة لرغبات وأسباب مختلفة فأسلمه ذلك الى جلاديه ليقضي نحبه صريعا في جريمة من أبشع الجرائم البربرية بل مجزرة جماعية لئيمة حمراء همجية.
أما ما يتعلق بالأمير عبد الاله فيقول السويدي :
غير ان عوامل اخرى تحكمت بدورها في مصير ولي العهد عبد الاله وهذا تفصيلها :
كان الامير قد ذهب الى استانبول بقصد البقاء فيها لقضاء فترة الصيف أو التنقل خارج العراق من بلد الى اخر وبين ليلة وضحاها رجع الى العراق في موسم أشد حرارة من كل مواسم العراق، فسألته لماذا اختار حر العراق على هواء استانبول العليل؟ فأجابني بأنه فهم من بعض اتصالاته ومن المعلومات التي أتته من الداخل ان بعض المفسدين قد يقومون ببعض الحركات والتشويشات اثناء غياب الملك وغيابه هو أيضا عن العراق، فأراد أن يبقى ببغداد عندما يغادر الملك الى لندن وبذلك وقع الآخر صك اعدامه وسلك السبيل الذي اوصله الى أعدائه في الوقت المناسب الذي حدده القدر الساخر.
نوري السعيد احد أهم رموز العهد الملكي هو الأخر حدد له القدر موعدا مع الموت حين كان بعيدا فجاء بنفسه الى الموت ليذوقه ويرحل أثر ذلك مغادرا الحياة الدنيا الى الأبد، يقول السويدي (رحمه الله):
ثم ناتي بعد ذلك الى دور نوري السعيد والظروف التي ساقته الى بغداد مع انه تركها بقصد قضاء الصيف في الخارج لقد سافر نوري السعيد مع زوجته في اواخر شهر حزيران سنة 1958 الى لندن فاستقر فيها وانقطعت اخباره وعندما زرت الملك فيصل في البلاط لأكلمه بخصوص تأجيل سفره من 7تموز الى 9 منه ووافق على ذلك التأجيل التفت الىّ رئيس ديوانه عبد الله بكر وقال له : لا تنس يا عبد الله نوري باشا عندما سافر الى لندن رجاني ان ابعث اليه ببرقية اطلب فيها حضوره الى بغداد لذلك اعطه البرقية بالمآل الذي أراده وضحك! ثم قال: لم اعلم السبب الذي حدا بنوري كي يطلب مني هذا الطلب، هل كان له شغل خاص اراد الرجوع لبغداد لقضائه فأراد أن يؤمن أجور السفر بطلبي له واستدعائه ؟فضحك ايضا وكأنه أراد بذلك مجرد النكتة لأنه كان يحب النكتة كان هؤلاء هم الثلاثة المطلوب جمعهم في محل واحد وكأن القدر قد جمعهم في محل واحد! وفي وقت واحد! حتى تتم عناصر الانقلاب والانقضاض عليهم بأجمعهم وكأن القدر قد جمعهم من حيث لا يعلمون ولأسباب عجيبة تافهة قد تشكل تبريرا كافيا لوجودهم في بغداد في أشد أيامها حرارة.
وقد بين احد الشهود في المحكمة العسكرية العليا (محكمة المهداوي) ان عبد الكريم قاسم وزملاءه كانوا يترقبون اجتماع اولئك الثلاثة من زمن طويل فذكر ان عبد الكريم قاسم قد ابلغ طغمته قبل بدئها العمل ليلة الرابع عشر من تموز ان الفرصة مواتية للانقلاب بشكل لا يتيسر دائما وهي وجود الثلاثة في وقت واحد في بغداد. وتحت فقرة نوايا ومحاولات يتحدث السويدي عن محولات العسكر بأنهاء الحياة السياسية للملكة العراقية فيقول:
وقد ظهر فيما بعد ان محاولات عديدة كانت قد سبقت انقلاب 14تموز ولم تقع لأن أحد الثلاثة كان غير موجود او اثنين منهما لم يكونا موجودين في المحل المزمع بدء العمل فيه والمهم على ما اعتقد ان نوري السعيد لو كان غائبا عن بغداد في ليلة 14 تموز لما كان الانقلاب .. (والسويدي هنا يسمي الثورة انقلابا وهذا من حقه فقد كان هو احد من المتضررين من قيام الثورة) والدليل على ذلك عدم تمكن الانقلابين القبض على نوري السعيد في اول ايام الانقلاب وظهور هلعهم البالغ من هربه واختفائه حتى انهم وعدوا بدفع مكافاة قدرها عشرة الاف دينار لمن يخبر عنه او يسهل القبض عليه حيا او ميتا ولما اكتشف وجود نوري ووجد نفسه لامحالة هالكا اطلق رصاصة واحدة على رأسه فانتحر وبذلك استراح الانقلابيون واستبشروا خيرا، ثم يتحول السويدي الى استانبول حيث كان مقررا استقبال الملك فيصل الثاني (رحمه الله) هناك صباح الرابع عشر من تموز فيقول تحت فقرة النبأ في استانبول مايلي:
في الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم 14تموز 1958 كان المستقبلون ينتظرون وصول طائرة ملك العراق ووفد العراق وهاكم ما نقله إليّ سفيرنا في انقرة السيد نجيب الراوي من معلومات عن المشهد مشهد استقبال ملك العراق الذي لم يصل قال الراوي :
دقت الساعة الحادية عشرة والركب الملكي لم يظهر في الجو ولكن بعض التهامس بدأ يظهر بين المسؤولين الاتراك والقلق يتزايد من تأخر الركب وقد اقترب مني عدنان مندريس وسحبني من يدي منتحيا عن الجماعة وقال لي : يظهر ان اضطرابا قد حدث في بغداد هذا الصباح ولابد ان يكون قد اثر على سفر الملك والوفد.
وبعد برهة اتى احد الموظفين في معية مندريس وهمس في اذنه شيئا وعلى الفور جاءني عدنان وقال لي يجب ان نرجع إذ لا فائدة من الانتظار وأرجوك ان تمر بي اليوم الساعة الواحدة للمداولة وأن الملك فيصل وجماعته لم يسافروا من بغداد فانتشر المستقبلون وغادروا المطار وفي الساعة الواحدة بعد الظهر حضرت حسب الموعد في مكتب عدنان مندريس وبسط لي كل المعلومات المتعلقة بالتمرد العسكري الحادث وقال اننا اعددنا فرقتين للتقدم نحو الحدود العراقية بقصد تأديب المتمردين ولكننا نرجح ان نتصل بالإنكليز ليكون عملنا العسكري بناء على اتفاق لان قوة عسكرية بريطانية قد نزلت في عمان وقوة اميركية من الاسطول السادس في حالة نزول الى البر في بيروت لذلك اامل ان اوافيك بما يحدث اذا مررت غدا صباحا في الساعة التاسعة،
وفي الوقت المحدد ذهبت الى مندريس فوجدته فاتر العزيمة وقد فارقته تلك الحماسة التي كانت مستحوذه عليه البارحة وقد صدق حدسي اذ بادرني بقوله ان الوضع قد تبدل وان الانكليز لا يؤيدون اية حركات عسكرية ضد المتمردين العسكريين في العراق وان الامل معقود على ان تتحسن الحالة في بغداد بحيث تكون السلطة الجديدة متجهة نحو التفاهم وعازمة على تأمين الاستقرار بما لا يبرر اتخاذ اية اجراءات في الوقت الحاضر!!.
وهكذا انتهت حياة المملكة العراقية لتحل محلها الجمهورية العراقية الى اليوم.
الكاتب:علي العكيدي
المصدر: صحيفة الزمان
675 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع