بغداديات/ شموع الخضر في التراث البغدادي والعراقي
إعداد: صديق الگاردينيا الدائم
توارث البغداديون العديد من العادات والتقاليد جيلاً بعد جيل، ومن بين تلك العادات الموروثة التي حافظ على بقائها السكان، في المدينة والريف، ممن يقطنون قريباً من ضفة النهر، هي إيقاد (شموع الخضر)
«هي ظاهرة اعتقادية تتم بوضع الشموع على قطعة خشب توضع في مجرى النهر بعد اشتعال هذه الشموع وتركها تطفو على سطح النهر، ولا يعرف بالضبط أين ومتى بدأت هذه العادة الشعبية؟، وكيف أخذت بالانتشار؟.
عادة إيقاد الشموع وتسييرها في النهر على قطعة كرب النخيل او قطعة خشب، لم تكن مقصورة على سكان بغداد والعراق فقط، بل شاركتهم بها شعوب عاشت على ضفاف النهرين العظيمين، كما يرون ان شعوبا في الهند تمارس نفس الطقوس على الانهر من اجل ارضاء الآلهة!
عادة عراقية متوارثة:
لقد توارث العراقيون عامة والبغداديون خاصة، عادة إيقاد (شموع الخضر)، وهي عادة تختص بها المرأة التي ترجو تحقيق أمنية كعودة غائب أو نجاح ولد أو تخليصها من ظرف قاهر وما شابه ذلك من أمنيات ليس للشر محل بينها فتنذر بإيقاد الشموع لسيدنا الخضر إذا تحقق طلبها، ومن ثم تقوم بترقب يوم الأربعاء من كل أسبوع لإيقاد شموع الخضر بعد مغيب الشمس مباشرة، وجرت العادة البغدادية أن يتم وضع الشموع على كربة سعفة نخيل كبيرة أو على لوح خشبي وتنزله إلى الماء أو تنوب عنها أحد أولادها من الصبية مع ترديد عبارة (ها يا الخضر ... إجاك النذر.. ومني اتقبله.... ) عند وضع الشموع في النهر, وتظل تراقبها حتى تغيب عن الأنظار، وإذا ما لاحظت المرأة انطفاء تلك الشموع فانها تعني لها إشارة إلى أن أمنيتها التي طوّفت الشمع من أجلها لن تتحقق، أما إذا ظلتالشموع مشتعلة حتى تغيب عن النظر فإن هذا يجعلها تتفاءل بإمكانية تحقيق تلك الأمنية!!
الديانات السماوية:
إن مسألة إيقاد الشموع في دور العبادة أو مراقد كبار الشخصيات الدينية هي ظاهرة ارتبطت بالإنسان أينما كان على سطح البسيطة سواء أكانت تلك الديانات سماوية أو وضعية، إذن فمن حيث المبدأ فأن إيقاد الشموع في الأماكن الدينية المقدسة هو ظاهرة إنسانية عامة لها ارتباط بعلاقة الإنسان بالديانة التي يؤمن بها.
المسلمون في شتى البلدان الاسلامية اعتادوا أيقاد الشموع في المناسبات الدينية في مقدمتها مولد سيدنا الرسول محمد ابن عبدالله (صلى الله عليه وسلم )، كما أنهم يوقدون الشموع عند أضرحة ومقامات الأنبياء والأولياء الصالحين، لكن بالنسبة لسيدنا الخضر عليه السلام أو(مار جرجيس كما يعرف عند المسيحيين) فلا يوجد له ضريح معين ولا حتى مقام رمزي محدد وكل ما يعرفه الناس انه يتواجد عند ضفاف الأنهار وبحسب الروايات الدينية المنقولة عنه فهو يعرّف على أنه من الملائكة وقد هبط على الأرض بهيأة إنسان كي يُرشد سيدنا موسى عليه السلام إلى ديانة التوحيد، ومنهم من يعرّفه على أنه من البشر ومن عباد الله الصالحين الذين توارثوا ديانة التوحيد من سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وارتبط وجود سيدنا الخضر عليه السلام بنهر الفرات بالدرجة الأولى كونه يمر ببلاد الشام التي شهدت ظهور العديد من الأنبياء والأولياء الصالحين من بينهم الخضر عليه السلام الذي كان يُعمّد الناس في نهر الفرات لتنقيتهم من ذنوبهم وتهيئتهم للدخول في ديانة التوحيد بالله، ومن هنا جاء ارتباط سيدنا الخضر بنهر الفرات ومن ثم بنهر دجلة.
اهل دير الزور:
اعتاد سكن المدن السورية من بينها (دير الزور) التي تتشابه معها مدن محافظة الأنبار في العراق الواقعة على نهر الفرات بإقامة هذا الطقس في كل أيام السنة، ولكنها في 15 شعبان تأخذ شكلاً جماعياً أشبه بالمناسبات الاحتفالية يشارك فيه كل من كان عليه نذر ويدعو إليها أصدقاءه وأهله وأقربائه ويتوجه بهم إلى ضفة النهر كأنهمو يتوافدون على يوم عيد أو عرس بأزياء زاهية خلابة المنظر وبكامل الزينة التي تليق بهذا اليوم,
ويتخلل هذا الاحتفال (الغناء والدبكات) وتستخدم الآلات الموسيقية (الطبل والمزمار والدف) ويقضي المشاركون سهرات يسودها الود والتصالح والتسامح، وينشد الحاضرون الأغاني الشعبية من بينها أغنية من التراث الشعبي خاصة بالمناسبة تقول كلماته:
أهل الخير وفينا وفينا الأنذور العلينا
هنونا هنونا يأهل الديرة والله والله جينا
جينا نوفي إنذور لي هي علينا علينا
يا سيدنا الخضر الدارك اليوم جينا
من خيرك وزعنا وهدينا
وزعنا خبز العباس واللحمة شوينا
ربي بجاهك من تقبل ما أهدينا
إن اندثار حضارة ما برموزها وملوكها ومعابدها لا يعني بالمطلق أنها لم تترك جزءاً منها في اللاوعي الجمعي لأبناء المنطقة، فكيف إذا كانت هذه الحضارة تعقبها حضارات وحضارات، فلا بد إذاً من أن مجموعة من العادات والمعتقدات الموروثة ستتداخل إلى درجة يصعب معها فك الاشتباك أو تحديد الأصل أو الانتماء الحقيقي لعادة أو فكرة معينة، وهذا ما ينطبق على ما يسمى في "دير الزور" "شموع الخضر" تلك الظاهرة التي تربط بين الماء والنار والأمنيات.
مدن العراق الاخرى:
أما في بغداد ومدن العراق الأخرى فان إيقاد شموع الخضر تختص به المرأة التي ترجو تحقيق أمنية كعودة غائب أو نجاح ولد أو تخليصها من ظرف قاهر وما شابه ذلك من أمنيات، فتنذر بإيقاد الشموع لسيدنا الخضر إذا تحقق طلبها , ومن ثم تقوم بترقب يوم الأربعاء من كل أسبوع لإيقاد شموع الخضر بعد مغيب الشمس مباشرة وجرت العادة البغدادية أن يتم وضع الشموع على كربة سعفة نخيل كبيرة أو على لوح خشبي وتنزله إلى الماء أو تنوب عنها أحد أولادها من الصبية مع ترديد عبارة (ها يا لخضر ... جاك النذر ومني اتقبله.... ) عند وضع الشموع في النهر, وتظل تراقبها حتى تغيب عن الأنظار، وانطفاء تلك الشموع تعده المرأة إشارة إلى أن أمنيتها التي طوفت الشمع من أجلها لن تتحقق، أما إذا ظلتالشموع مشتعلة حتى تغيب عن النظر فإن هذا يجعلها تتفاءل بإمكانية تحقيق تلك الأمنية.
كانت عائلتي تسكن في جانب الكرخ منذ عقود طويلة بالقرب من نهر دجلة في محلة سوق الجديد وقريب من منطقة خضر الياس، التي كان زقاقها يبدأ من شارع الإمام موسى الكاظم (الذي كان يربط ساحة الشهداء بالكاظمية) وكان ذلك الزقاق يفضي إلى نهر دجلة مباشرة وعلى امتداد قرابة ثلاثمائة متر إلى اليمين تمتد محلة خضر الياس التي تهدمت منها أجزاء كبيرة منها وطمرت في قاع النهر بسبب الفيضانات المدمرة التي كانت تشهدها بغداد قبل بناء السدود الكبيرة في العراق , ومن بين الأطلال التي كانت تظهر في فصل الصيف بعد انحسار مياه النهر هي بقايا مقبرة وجامع كان يحمل تسمية (خضر الياس), وكان يظهر سلم من الطابوق (الآجر) الطويل يفضي إلى باحة مربعة الشكل من الطابوق المربع الشكل يسمى(الفرشي) وكانت توجد طاقة صغيرة بمحاذاة السلم اعتادت النسوة ممن لديهن نذر لسيدنا الخضر وضع الشموع فيها. وكنا نترقب يوم الأربعاء لنتمتع برؤية أسراب الشموع الموقدة تتهادى في النهر وهي قادمة من محلة الجعيفر أو منطقة العطيفية أو الأعظمية أو الكاظمية ,وكنا نحدد بالتقريب مكان وضعها في الماء من طول الشموع التي كانت محمولة على ألواح الخشب أو الكرب ,وكنا نفرح بعبور أطواف الشمع من أمام محلة خضر الياس وهي موقدة معتقدين بأن صاحبة تلك الشموع ستتحقق أمنيتها وكنا نأسف على الشموع المنطفئة وعلى صاحبتها بسبب حظها العاثر.
وبعد بناء جسر 17تموز الذي يربط جانب الكرخ بساحة الباب المعظم في جانب الرصافة عام 1978م واندثار ذلك السلم ,عمدت سيدة كريمة من سكنة محلة خضر الياس تدعى (أم ثامر) زوجة السيد نعمة الجسّوم السامرائي رحمه الله إلى تخصيص بقايا غرفة خارجية من منزلها لاستقبال النسوة القاصدات زيارة الخضر وإيقاد الشموع له وكانت تقدم يد المساعدة لهن وأصبح مع الأيام هذا المكان أشبه بالمقام فكثرت على حائطه بقايا الشموع المحترقة والحناء التي لطخت بها جدرانه ولجأت بعض النسوة إلى عقد أشرطة من القماش الأخضر عند باب وشباك تلك الغرفة.
اقترنت شموع الخضر بالأدب الشعبي العراقي وكتب الشعراء والأدباء العديد من الأعمال الأدبية التي تتغنى بشموع الخضر أو تشير إلى حدث قصصي أو ملحمي يرتبط بها , ومن أبرزها قصيدة رائعة غناها المطرب العراقي الذي اقترن أسمه باسم سيدنا الخضر عليه السلام في مفارقة لطيفة وهو المطرب ( ياس خضر), وتقول أبيات هذه القصيدة التي ألفها الشاعر صباح سعيد الزبيدي ولحنها كمال السيد :
عاشگ وجيتْ أمشي بحرارة صيف وبظهريه
ياناس أحدي الشوگ وبريسم صفت رجليه
جيتك يشط متعتني انذرلك نذر
ليلة اربعا واعلگ اشموع الخضر
بلجت يعود الغايب الـ عيني إعلَ دربه ربيه
حدرت وي الماي وي جرف النهر
وعيني الـ هجرها النوم رك بيها النظر
خايف عله الشمعات يطفن بالهوه
خايف من الروجات تسبح بالضوه
سيسن شمعاتي ومشن
لروحيتي وياهن خذن
روج وشمع
جرح ودمع
بلچت يعود الغايب الـ عيني إعلَ دربه ربيه
جيت اطلب مراد وي اهلي وديرتي
واتكابر وي الروح واجمع قوتي
گمت أوگع إبـ نازوز واعثر بالرهط
ونگلت اجدامي اتصيح مو گلبك فحط
والشمع غط وما اجه
والولف راح وما اجه
روج وشمع
جرح ودمع
بلچت يعود الغايب الـ عيني إعلَ دربه ربيه
عاشگ وجيتْ أمشي بحرارة صيف وبظهريه
ياناس أحدي الشوگ وبريسم صبغ رجليه
جيتك يشط متعتني انذرلك نذر
ليلة اربعا واعلگ اشموع الخضر
بلچت يعود الغايب الـ عيني إعلَ دربه ربيه
بلچت يعود الغايب الـ عيني إعلَ دربه ربيه
786 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع