الدنكجية وشارع الصحافة

       

                                     الدنكجية وشارع الصحافة

    
                       اعداد: ميمون البراك

كانت منطقة  "الدنكجية" و"جديد حسن باشا" بمثابة شارع الصحافة ـ الذي يسمى) Fleet Street   بالنسبة للندن)، فقد تمركزت فيها المطابع ومايصدر عنها من صحف ومطبوعات مختلفة.

إن نواة المطابع كانت مطبعة الحكومة التي شيّدت بعد الاحتلال البريطاني الى جوار المتحف العراقي القديم (وهي حاليا ً تضم المتحف البغدادي في شارع المأمون) بعد اقتطاع جناح من الدار التي كان يسكنها مؤلف الكتاب في الدنكجية .
هذا ماجاء في الكتاب القيم والمحفوظ في دار الكتب والوثائق ، والمعنون: بغداد كما عرفتها .. شذرات من ذكريات،  لمؤلفه أمين المميز وهو كتاب ثري ويعد خزيناً كبيراً لذكريات نادرة وقيمة عن شوارع ومحلات وشخصيات بغدادية مهمة وقد وقع اختيارنا على موضوع الصحافة وهذه المنطقة القديمة.

                                       


جاء في هذا الكتاب أيضاً أنه لم يكن في بغداد في العهد العثماني سوى مطبعة الولاية الواقعة قرب السراي والتي أسسها الوالي مدحت باشا لطبع السجلات والأوراق الرسمية وجريدة الزوراء التي كانت تصدر يومئذ باللغة العربية واللغة التركية وبعد سقوط بغداد أغلقت المطبعة وتوقف إصدار الجريدة، فقامت السلطات بتأسيس مطبعة الحكومة التي تولت طبع السجلات والاستمارات والمحاضر والانظمة والقوانين وإصدار جريدة الوقائع العراقية
وقد عينت السلطة المحتلة موظفاً بريطانياً اسمه المستر البرت ميسن مديراً لهذه المطبعة وتزوج من فتاة مسيحية اسمها كاميليا ايوب ثم ألغيت خدماته وعين السيد قاسم محمد مديراً لهذه المطبعة .

  

وبعد غلق مطبعة الولاية وتوقف صدور جريدة الزوراء وغلق مطبعة الشابندر التي أسسها محمود الجلبي الشابندر في أواخر العهد العثماني وكان موقعها قهوة الشابندر الحالية، أصدر السيد رشيد الصفار والذي كان يعمل مع فهمي المدرس محرراً في جريدة الزوراء جريدة ( الزهور ) ثم أسس مطبعة لطبع الكتب والصحف العربية سماها ( مطبعة الاداب ) وكانت واقعة في الدار التي سكنها عائلة اكرم احمد في دربونة الدنكجية. وكان رشيد الصفار طويل القامة مهيباً، وكان يرتدي الصدرية  (اليلك) حتى مع البدلات الصيفية كسائر الشخصيات الرسمية في العهد العثماني وهو والد المحامي سعيد الصفار ومدير الشرطة السابق عبد الحميد الصفار. وكانت هذه المطبعة والمطابع الأخرى تدار يومئذ باليد من قبل عمال عرفو بسواعدهم المفتولة كان أشهرهم العامل (مصطفى).
ثم تأسست مطبعة أخرى بجوار بيت عاصم الجلبي ( مقابل سوق الصياغ) حالياً وأذكر من الذين كانوا يترددون عليها جبران ملكون الذي أصدر بعدئذ جريدة الأخبار وأصبح من كبار الصحافيين العراقيين وأصحاب دور النشر في بغداد وناجي صالح الذي أصبح صحافيا ً وأصدر جريدة ( مرآة العراق ) الأسبوعية .
وفي الزقاق المتفرع من شارع الأكمكخانه (المتنبي حالياً) مقابل كتاب (لاله هراتي) تقع مطبعة جريدة العراق اليومية والتي كان يصدرها رزوق الغنام ، وكانت أكثر الصحف اليومية انتشاراً في بغداد ثم صدرت "جريدة المفيد" لصاحبها ابراهيم حلمي العمر وكانت تطبع في مطبعة دار السلام المقابلة للمدرسة الثانوية والتي كانت تطبع فيها جريدة الرافدين لصاحبها سامي خوندة، ثم كثرت المطابع وتاسست في مختلف بغداد غير الدنكجية وجديد حسن باشا فكانت جريدة الاستقلال التي كان يصدرها عبد الغفور البدري ومديرها المسؤول قاسم العلوي،تطبع في الزقاق الضيق المقابل للمدرسة الثانونية المركزية ومطبعة الفلاح التي أسسها عبد اللطيف الفلاحي لطبع جريدة الفلاح والتي كانت تقع في دربونة خلف المتحف العراقي، ومطبعة جريدة العالم العربي التي يصدرها سليم حسون تقع في شارع النهر في رأس القرية، ومطبعة جريدة الأهالي التي تصدرها جماعة الأهالي تقع في الشارع الواقع خلف المدرسة الثانوية.

                                


وقد أسس الملا عبود الكرخي مطبعة تقع في الصالحية (رأس جسر مود القديم / جسر الأحرار الآن) لطباعة جريدته (الكرخ)، وفي شارع الرشيد "السنك" تقع مطبعة جريدة "الأوقات العراقية" IRAQ TIMES التي تصدر باللغة الإنكليزية ويحررها جاك شاؤل وبالقرب منها مطبعة جريدة الشعب التي يصدرها يحيى قاسم.  
وفي الثلاثينيات تأسست مطبعة الزمان الواقعة في محلة الميدان (مقابل دائرة اسالة الماء القديمة التي كانت تطبع فيها “جريدة الزمان” والطريق وقد أسسها السمعاني توفيق وفي المنطقة نفسها تقع المطبعة التي يطبع فيها “جريدة البلاد” لصاحبها عميد الصحفيين العراقيين روفائيل بطي .

                 

وفي الزقاق الواقع خلف جامع السراي تقع مطبعة دار السلام التي كانت تطبع “جريدة المنار” والتي كان يصدرها عبد العزيز بركات، وبالقرب منها تقع مطبعة "دار التضامن" التي تطبع فيها جريدة البلد لصاحبها عبد القادر البراك، وفي الزقاق الضيق الواقع خلف جامع السراي تقع مطبعة السجل التي تطبع فيها "جريدة السجل" ثم جريدة الفجر الجديد التي كان يصدرها الحاج طه الفياض.
ومما جاء في الكتاب أيضاً  أن هناك مطابع أخرى على جانبي الأكمكخانة (المتنبي) وفي الأزقة المتفرعة كان الصحافيون العراقيون او المحسوبون على الصحافة يرُوشون في الدنكجية وجديد حسن باشا وسوق السراي وشارع الاكمكخانة وهمَّ منهم في إصدار صحفهم ليتلقوا في اليوم التالي بلاغا ً من دائرة المطبوعات بالإنذار او التعطيل او إلغاء الامتياز او السجن او النفي لنشرهم مقالاً ضد السلطة الحاكمة.
لقد كان سيف السلطة الحاكمة مسلطاً على رقاب الصحف العراقية في العهود كافة بدءاً من العهد العثماني ثم عهود الاحتلال والانتداب وانتهاءً بعهود الحكم الوطني فما تكاد الصحيفة تصدر بضعة أعداد حتى يهوي عليها سيف السلطة ويعطلها مؤقتاً او بصورة دائمة او يلغي امتيازها نهائياً . وبعض الصحف كانت تتحايل على السلطة فتصدر باسم آخر او أن يصدر صدى او صوتاً او لواء ً لها كما حصل مع صدى بابل و صدى الاستقلال  ولواء الاستقلال وصدى البلاد وصوت الأهالي وصدى الكرخ ...  الخ . او أن يصدر صاحبها باسم جديد كما حصل مع صحف توفيق السمعاني الطريق والزمان..
أما عن الصحف، وكما جاء في الكتاب ، فقد بلغ عدد الصحف التي صدرت في العهد العثماني في مختلف الأوقات أكثر من خمسين صحيفة والتي صدرت بعد ذلك العهد وحتى الآن جاوزت عدة مئات ولم يبق اسم يليق أن يتصدر الصحيفة إلا واستعمل وقد عزت الأسماء لدرجة إن حسين الرحال لم يجد اسماً  لصحيفته غير اسم (الصحيفة)، كما تدنت الأسماء الى أدنى درك فلم يجد ميخائيل تيسي اسماً  لصحيفته الهزلية غير اسم  (كناس الشوارع)!! .
وأشار المؤلف الى  إن عدد الصحف الصادرة في العهد العثماني باللغة التركية واللغة العربية لم تتجاوز الخمسين ، فلما احتجبت جريدة الروضة التي كان يصدرها الشاعر الحاج عبد الحسين الأزري حلت محلها جريدة المصباح الأغر ولما تجاوزت هذه الصحيفة الحدود المرسومة من قبل حزب الإتحاد والترقي الحاكم لنشرها قصائد حماسية تلهب مشاعر العراقيين ضد الاضطهاد والاستبداد والتمييز العنصري فقد عطلت ونفي صاحبها الى مجاهل الأناضول . كذلك عندما نشرت جريدة الرافدين مقالاً شديداً لمناسبة ذكرى موقعة ميسلون الشهيرة والتي كان يصدرها سامي خوندة ، وكان في هذه المقالة فيها هجوم لاذع اعتبرته السلطات الحاكمة مسيئاً للعلاقات بين الفرنسيين والعراقيين ،

             

وحينما صارت الصحيفة تحرّض على ثورة العشرين وتنشر المقالات المثيرة  عطلت نهائيا ً ونفي صاحبها الى معتقل هنجام كغيره مثل ابراهيم صالح شكر وداود العجيل وروفائيل بطي وعبد الرحمن البنا والمحامي محمد عبد الحسين ونوري ثابت وغيرهم من أصحاب الصحف ومديري المطابع في ذاك الوقت وقد تكرر التعطيل الإداري في مناسبات كثيرة أخرى مع جرائد المفيد والاستقلال والأهالي والكرخ وبابل والعراق وغيرها من صحف كانت تصدر في الثلاثينيات.
تلك هي قصة الصحافة في العراق وارتباطها بمحلة الدنكجية، وقصة المعاناة التي كانت تعيشها وتواجهها في سبيل الاستمرار، ومن قلب هذه المعاناة تخرّج صحافيون عراقيون يشار لهم بالبنان لما قدموه من عطاء وتفان وانجازات مشهودة حتى صار كل واحد منهم علماً من أعلام الصحافة في الوطن العربي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

895 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع