عندما كانـت الثانوية المركزية رائدة المسرح العراقي
تميز طلبة المدرسة الثانوية(المركزية)، بمواهب عدة في مساهماتهم الفاعلة في الانشطة الثقافية والفنية والرياضية، ولعل مرد ذلك يعود إلى تشجيع اساتذتها في مختلف الاختصاصات، الذين اسهموا بشكل كبير في اظهار انشطة طلبتها، وعلى مختلف الصعد.
كانت ابرز تلك النشاطات، التي شارك بها الطلبة، القاء الخطب والقصائد في (تحية العلم العراقي) التي كانت تقام يوم (الخميس) من كل اسبوع، إذ يقف الطلاب بترتيب ونظام حسب صفوفهم وينفخ في البوق، فترفع راية العلم، ثم يتقدم اثنان أو ثلاثة من الطلاب والاساتذة لالقاء القصائد والخطب والاناشيد، وكان الاحتفال بتحية العلم، احتفالا رياضيا ثقافياً، تحول في العقد الثالث من القرن العشرين إلى احتفال ثقافي عسكري.
وكان لاساتذة اللغة العربية في الثانوية، دور كبير في صقل مواهب الطلبة، من خلال تشجيع قدراتهم الادبية والفنية، عن طريق اللجان والجمعيات التي تأسست في المدرسة الثانوية ومن ابرز تلك اللجان لجنة الخطابة والتمثيل.
يعود تأسيس لجنة الخطابة والتمثيل إلى بدايات تأسيس المدرسة الثانوية، اذ برز نشاطها خلال احتفالات تحية العلم ومن خلال بعض الاحتفالات الدينية وأبرزها الاحتفال بمولد النبي محمد (ص) وغيرها من المناسبات الدينية والوطنية.وبعد قيام الحكم الوطني في العراق، وتولي ساطع الحصري مسؤولية المعارف تم استقدام عدداً آخر من المدرسين العرب المشبعين بالافكار القومية، والحاصلين على شهادات عالية في الاختصاصات كافة وقد ساهموا في زيادة وعي الطلاب وثقافتهم وعملوا على صقل مواهبهم الادبية والثقافية، واشرفوا على تأسيس عدد من اللجان الثقافية والرياضية، للنهوض بالطلبة بحيث استطاع عدد من اولئك الطلبة ان يتبوأ فيما بعد مواقع متقدمة على الصعيد السياسي والثقافي والعسكري.
وقد ترأس واشرف على لجنة الخطابة والتمثيل، هيئة تدريس اللغة العربية والاجتماعيات، امثال طه الراوي، ومنير القاضي، وعبد اللطيف الفلاحي، ومحمد بهجت الاثري، وعز الدين علم الدين، ودرويش المقدادي وغيرهم.
نشرت اللجنة منهاجها الجديد، ودعت من خلاله الطلبة من اصحاب المواهب الادبية والثقافية، وممن لديهم القدرات الفنية على الاشتراك بتلك اللجنة، وبدأت اللجنة اعمالها باقامة الندوات والمناظرات الشعرية، ليمارس الطلاب من خلالها هواياتهم، وبرز في اثناء نشاطاتها عدد من الشعراء الطلبة من بينهم، عبد الستار فوزي، واكرم احمد، وكمال زهير، وكمال عثمان.
وحين تولى ادارة المدرسة الثانوية المركزية،طالب مشتاق(1927-1929) ، ازاداد نشاط اللجنة ولعل من اهم انجازاتها في عهده تأسيس قاعة للمحاضرات العامة، في داخلها مسرح للتمثيل، علقت على واجهته لوحة كتب عليها (الوطن قبل كل شيء، وفوق كل شيء) وقد أصبح ذلك شعارا للثانوية المركزية.
شجع طالب مشتاق لجنة الخطابة والتمثيل على تشكيل فرقة تمثيلية قامت بتمثيل بعض الروايات المسرحية ومن بين اشهر تلك المسرحيات التي تم عرضها على مسرح تلك القاعة مسرحية عطيل لوليم شكسبير، اذ قام بدور عطيل الطالب محمد حسن سلمان الذياصبح فيما بعد وزيرا للمعارف في حكومة الدفاع الوطني، ودور دزدمونا قام به الطالب اليهودي نعيم اصلان وشاركهم في بقية الادوار، ابراهيم شوكت، وناجي طالب (اصبح رئيس وزراء عام 1966-1967) الذي قام بدور الحاجب وقد حضر الملك فيصل الاول العرض رافقه ساطع الحصري مدير المعارف العام وعدد من المسؤولين، وقد اثنى الملك عليهم وبارك لهم جهودهم وجهود اساتذتهم.
وكان الاساتذة يشاركون الطلاب احيانا في تلك العروض المسرحية، وخاصة الكوميدية منها ومن ابرزهم الاستاذ نوري ثابت صاحب (جريدة حبزبوز) والاستاذ ناصر عوني استاذ الرسم، ومن المسرحيات التي عرضت بصورة مشتركة بين الاساتذة وطلبتهم مسرحية (يوليوس قيصر) ومسرحية (النعمان بن المنذر).
ويبدو ان سبب اختيار الطلبة والاساتذة لعرض تلك المسرحيات، هو غياب النصوص المسرحية العراقية في تلك الفترة، كما ان النصوص المسرحية المستوحاة من الادب الغربي كانت تدرس ضمن منهج اللغة الانكليزية، ومن اجل توضيحها للطلبة، وكذلك بالنسبة للعروض التاريخية، كمسرحية النعمان بن المنذر، فالنص كان من ضمن المادة التاريخية التي تدرس لطلاب الثانوية.
وفي العام الدراسي 1928-1929، وبتشجيع من ادارة المدرسة تألفت (لجنة المحاضرات والخطابة) بعد فصلها عن فرقة التمثيل، بهدف تشجيع الطلاب على القاء المحاضرات والخطب في المناسبات المختلفة، من اجل غرس الثقة والجرأة في نفوسهم، وتعوديهم على الخطابة وابداء الرأي بكل شجاعة، ولكن تلك اللجنة لم يكتب لها الاستمرار بعد نقل مديرها طالب مشتاق إلى وزارة المعارف.
ولم تقتصر قاعة المدرسة على النشاطات الادبية والمسرحية فقط، بل كانت تستخدم لعرض نتاجات الطلبة الفنية ورسوماتهم وبرز عدد من الرسامين الطلبة في الثانوية المركزية الذين تتلمذوا وتدربوا على يد اساتذة الرسم في تلك الثانوية ومنهم الاستاذ ناصر عوني، مدرس الرسم في الثانوية، وكان من بين الطلبة الرسامين والمبدعين في الثانوية الطالب (اكرم شكري) الذي اقام عدة معارض في قاعة المدرسة بعد تلقيه العناية والتشجيع.
لم يستمر عمل تلك اللجان في تلك الفترة أي في أواخر عشرينات القرن الماضي ولا نكاد نجد نشاطات أو مشاركات تذكر للطلبة، ولعل السبب في ذلك يعود إلى انشغالهم في المظاهرات، فضلا عن تدني الوضع السياسي العام، والرقابة الصارمة والمشددة التي فرضتها الحكومة على الطلبة ونشاطاتهم، لهذا انتمى عدد كبير من الطلبة إلى النوادي والجمعيات غير المدرسية، وبرزت الدعوة قبيل الثلاثينيات من القرن الماضي، إلى تأسيس جمعية أو اتحاد طلابي لتنسيق النشاط الطلابي، بعد ان تضاءل عمل اللجان المدرسية، ومن أبرز الداعين لتأسيس تلك الجمعية أو الاتحاد الطلابي الطالب حسين جميل، فقد نشر مقالاً في العدد (1180) من جريدة الاستقلال الصادر في 4 تشرين الاول 1927 دعا فيه الطلبة والمثقفين إلى تأييده في ذلك الرأي الا ان تلك الرغبة لم تتحقق الا في عام 1932.
الا ان النشاطات الثقافية والفنية في الثانوية عادت من جديد وبقوة في بدايات العقد الرابع من القرن العشرين، بسبب حدوث تطورات سياسية جديدة، وظهور تيارات فكرية وعقائدية دعت إلى الاصلاح والتغيير الاجتماعي، مثل نادي المثنى، وجمعية الجوال، وجماعة الاهالي، وجمعية الرابطة الثقافية، وجمعية المعلمين، وجمعية رابطة التربية الحديثة.
تاثر الطلبة بتلك التيارات الفكرية، واخذوا يطالبون بتأسيس جمعية خاصة للطلبة، سبق ان دعا اليها حسين جميل عام 1927، الا انها لم تتحقق الا في الثاني من نيسان 1932، حيث اجتمعت الهيئة العليا لجمعية الطلبة في الثانوية المركزية، برئاسة احد المدرسين وهو علي حيدر سليمان وانتخب الطالب عبد الجبار محمود، من الثانوية المركزية رئيسا للجمعية والطالب محمد حسن عبد علي من دار المعلمين، نائبا للرئيس وكامل ياسين من الثانوية المركزية امينا للصندوق، اما اعضاء الهيئة فهم صالح مهدي حيدر وخليل اسماعيل،
وعبد الرحمن البزاز من الثانوية المركزية، واسماعيل ناجي، وياسين عبد الجليل من التفيض الاهلية وهاشم صادق، ومدحت حسن من الغربية المتوسطة.
وفي العام الدراسي 1932-1933 تشكلت جمعية الرائد في الثانوية المركزية، التي انبثق منها عدد من اللجان الادبية والفنية، وقد اشرف عليها الاستاذ محمد بهجت الاثري، ومن بين اعضائها تشكلت لجنة التمثيل في الثانوية، حيث فاز بعد اجراء الانتخابات: عبد الجبار محمود رئيسا لها، واكرم رزوقي امينا للصندوق، وسالم الكيلاني وعارف رشيد عضوين.
واول عمل قامت به هو عرض رواية اميرة الاندلس بعد ان هيأوا مقصورة خاصة للملك فيصل الاول، الذي حضره في كانون الثاني 1932، وشاهد العرض المسرحي، وقد اثنى عليهم، وعلى جهودهم المتميزة وتمنى لهم التقدم والاستمرار، وكرم عدداً من الطلبة المشاركين تشجيعا لهم
ومن النشاطات التي كانت تقوم بها جمعية الرائد عقد الندوات الفكرية التي كان يشارك فيها ويحضرها بعض رجال الدولة، حيث يتمتع الطلاب بمشاهدتهم، والاستماع إلى احاديثهم، وكان المشرف على تنظيم تلك الندوات الفكرية، الاستاذ بهجت الاثري،
ومن تلك الندوات، ندوة اقامتها جمعية الرائد على قاعة الثانوية المركزية، في 2 حزيران 1932، حضرها نوري السعيد رئيس الوزراء انذاك وكبار المسؤولين، ونخبة من الادباء والشعراء من بينهم جميل صدقي الزهاوي، وعدد من الشعراء وخطباء الثانوية، وكان موضوع الندوة التعليم والاخلاق.
وقد القى رئيس الوزراء نوري السعيد كلمة تضمنت اراءه في السياسة ومجمل التطورات السياسية في البلد، وبعد الانتهاء من كلمته عقب محمد بهجت الاثري على ما قاله رئيس الوزراء، ثم قام الاثري فيما بعد بنشر تفاصيل الندوة وكلمة رئيس الوزراء، وتعقيبه على ما جاء فيها في مقالة نشرتها جريدة العراق في 6 حزيران 1932.
توسع نشاط لجنة الخطابة والتمثيل في جمعية الرائد الا انه لم يقتصر على الثانوية المركزية فحسب، بل شمل نشاطات ومشاركات اخرى بالاشتراك مع باقي المدارس الثانوية في بغداد ومع دار المعلمين الابتدائية، ومن ابرز الانشطة المشتركة الحفل الخطابي المشترك الذي اقامته، لجنة الخطابة والتمثيل في كل من الثانوية المركزية ودار المعلمين، بمناسبة ذكرى 9 شعبان عيد النهضة ذكرى الثورة العربية الكبرى عام 1916، حيث تضمن الحفل القاء الخطب والقصائد، التي شارك فيها من الثانوية المركزية الطالب محمد رضا سلمان بقصيدة طويلة تقرب من الخمسين بيتا، وشارك الطالب سلمان بيات من الثانوية المركزية، بموضوع خطابي، اما الطالب شاكر محمود من دار المعلمين، فقد القى قصيدة في المناسبة وشاركهم حفلهم هذا الاستاذ عبد المجيد عباس المدرس في دار المعلمين بقصيدة في المناسبة، اما مدير الثانوية المركزية درويش المقدادي فالقى كلمة في المناسبة، وحضر الحفل وزير المعارف عباس مهدي ومدير المعارف العام سامي شوكت، والقى وزير المعارف كلمة في المناسبة، قال فيها:
((ان الامم تقيم ذكرى ايامها لأمرين، اولهما انها تذكر الابطال وتبجلهم وتخلد مآثرهم واعمالهم، والثاني: لمحاسبة النفس عما اسلفت، وتحديد همم الشباب خاصة، واعطائهم درسا في التضحية في سبيل الوطن..)).
وفي العام الدراسي 1933-1934، انتخبت هيئة جديدة لرئاسة (لجنة الخطابة والتمثيل في الثانوية المركزية، واختير يوسف متي رئيسا لها، واحمد الجنابي سكرتيرا وزكي طه امينا للصندوق، وغياث بحر الدين وعزيز منصور وهاشم جواد اعضاء.
تطورت النشاطات الثقافية والفنية وحققت قفزة نوعية عندما اشرف الاستاذ حقي الشبلي على تلك اللجان واصبح رئيسا للجنة الخطابة والتمثيل في الاعدادية المركزية عام 1939، ومرشدا عاما للخطابة والتمثيل في وزارة المعارف وقد أسس في العام نفسه المسرح المدرسي في الاعدادية المركزية ولكونه المرشد العام للجنة الخطابة والتمثيل في وزارة المعارف، قام بتأليف عدد من اللجان الفنية في المدرسة الثانوية المركزية ودار المعلمين في العاصمة بغداد، وقامت الوزارة بوضع المنهج اللازم لاعمال اللجان، وبدأوا بالقاء محاضرات عامة تخص قواعد فن الالقاء والتمثيل والخطابة ومحاضرات عامة عن المسرح والفنون الجميلة.
ويبدو ان الغاية من تنشيط تلك الحركة الفنية في المدارس، تدريب الطلاب من اصحاب المواهب التمثيلية على الالقاء الصحيح والتعبير الواضح، وانتشرت تلك الحركة بصورة واسعة حتى شملت مختلف مدارس العراق عام 1940، وقد ترجمت تلك الانشطة باقامة الحفلات التمثيلية، ومباريات خطابية رسمية وزعت خلالها الجوائز على الفائزين.
يتضح مما تقدم ان لجنة الخطابة والتمثيل، اعترضتها بعض السلبيات اعاقت عملها، وعمل اللجان الاخرى، بسبب المخاطر المتوقعة من اندلاع الحرب العالمية الثانية والتطورات السياسية الداخلية في العراق، وما لحق بالناس من ضنك ومصاعب ومشاكل لها علاقة بالاستقرار والمعيشة وامن الناس وراحتهم، كل هذه عوامل مباشرة، حجمت من فعاليات ونشاطات تلك اللجان.
خنساء زكي شمس الدين
عن رسالة (الإعدادية المركزية للبنين
1919-1939–دراسة تأريخية-)
1067 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع