أنطونيو غرامشي: تحليل الروايات البوليسية من أعماق السجن الفاشي (غيتي)
ملخص
الأندبيندت/ إبراهيم العريس:نعرف أن عدداً كبيراً من كتابات غرامشي في هذا المجال الأخير إنما كتب داخل السجن الذي رماه فيه موسوليني لينهي فيه حياته. ولقد جمع عدد لا بأس به من كتابات غرامشي في هذا السياق في أكثر من كتاب لعل أكثرها شعبية الكتاب المعنون "الأدب والحياة الوطنية" الذي أعلن أمبرتو إيكو دائماً أنه اعتمد عليه أساساً بالنسبة إلى بحوثه حول الأدب الجماهيري.
عندما أصدر الكاتب والناقد والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو واحداً من كتبه الذي سرعان ما بات الأكثر شعبية في مساره، حول "الإنسان والسوبرمان" حلل فيه أنواعاً من الأدب الشعبي والجماهيري تراوح ما بين روايات إيان فليمنغ من بطولة جيمس بوند وروايات شرلوك هولمز وما شابه ذلك، جرى الحديث كثيراً عن تأثر إيكو في تحليلاته تلك بالمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي كان واحداً من كبار مؤسسي الحزب الشيوعي في بلاده، وذلك من دون أن يكون إيكو من محبذي شيوعيته أو حتى تحليلاته الطبقية.
وفي الوقت نفسه من المعروف على أية حال أن إيكو، صاحب العدد الكبير من الكتب العلمية، كان يكن احتراما كبيراً لغرامشي ولا سيما بالنسبة إلى فكره الذي كان ينم عن رغبة مبكرة في تخليص الفكر الماركسي مما علق به من أدران الأيديولوجيا الديماغوجية والجمود المذهبي. وهو فكر عبر عنه غرامشي نفسه في تلك الألوف من الصفحات التي دبجها وهو نزيل زنزانته يصارع الاضطهاد والمرض لتنتج في نهاية الأمر تلك المجلدات المعنونة "دفاتر السجن" التي عالج فيها المفكر شتى أنواع الشؤون السياسية والاجتماعية لكن بخاصة أيضاً الشؤون الأدبية والفكرية.
من الأدب إلى الوطن
ونعرف أن عدداً كبيراً من كتابات غرامشي في هذا المجال الأخير إنما كتب داخل السجن الذي رماه فيه موسوليني لينهي فيه حياته. ولقد جمع عدد لا بأس به من كتابات غرامشي في هذا السياق في أكثر من كتاب لعل أكثرها شعبية الكتاب المعنون "الأدب والحياة الوطنية" الذي أعلن أمبرتو إيكو دائماً أنه اعتمد عليه أساساً بالنسبة إلى بحوثه حول الأدب الجماهيري، تلك البحوث التي سبق في هذه الزاوية أن استخلصنا ما كتبه إيكو في شأنها، ونتناول اليوم الجذور التي مكنت هذا الكاتب الفذ من أن يعثر على خلفيات فكرية لما كتبه من دون أن يبتعد عن نظرته النقدية المعمقة حتى إلى أستاذه الذي ألهمه تلك الخلفيات.
ولعل أبرز ما يمكننا أن نعود إليه في هذا السياق هو أن غرامشي وبصورة محددة يرى أن "الرواية البوليسية إنما ولدت على هامش الأدب المبني على ما يسمى (القضايا الشهيرة) فاستعان بها وقد أعطاها طابعاً تحليلياً له ألوان الأيديولوجيا الشعبية التي تحيط عادة بالنظرة إلى العدالة والإدارة بصورة عامة". صحيح هنا أن إيكو لا يبدو متفقاً تماماً مع غرامشي في ما يعده "الربط الميكانيكي" الذي يقيمه هذا الأخير بين ذلك النوع من الأدب الترفيهي وبين النظرة الشعبية إلى أمور أكثر جدية مثل العدالة والإدارة، لكنه لا ينفي أن ثمة في نهاية الأمر ربطاً من هذا النوع ولو خفياً بل عفوياً "يمكن إقامته لكن من دون السعي إلى منهجته بل أخذه في نظر الاعتبار ولو انطلاقاً فقط من العداء الأبدي المستحكم الذي يقوم عادة بين الحاكم والمحكوم، وهو شبيه بالربط التلقائي والعفوي لدى الجمهور البائس العريض بين "العمدة" (الشريف السينمائي) وراعي البقر في أفلام الغرب الأميركي. كما بين عامة الشعب والعسس في "ألف ليلة وليلة" على سبيل المثال.
عبور ما...
أما بالنسبة إلى غرامشي فإنه ومن دون أن يكون بالطبع على علم مسبق بما سيأتي في تعليقات مواطنه مفكر نهايات القرن الـ20 في وطنهما المشترك بعد موته - أي موت غرامشي - بنصف قرن. يتابع في السياق نفسه قائلاً "إن العبور من مثل هذا النوع من الروايات إلى ذلك النوع الآخر الذي قوامه روايات المغامرات إنما ينطبع بسيرورة ممنهجة للحبكة تخلو من أي بعد له علاقة بأية أيديولوجية ديمقراطية أو بورجوازية صغيرة. فالأمر لا يعود هنا نوعاً من الصراع بين الشعب البسيط الطيب والأريحي من ناحية والقوى الميالة للطغيان (كاليسوعيين والبوليس السري المرتبط بمنطق الدولة ومصالحها كما بتطلعات الحكام ومصالحهم الشخصية...) من ناحية ثانية، بل فقط بالصراعات التي قد تقوم هنا بين الأشرار الفاسدين واللصوص المحترفين من ذوي الاختصاص من ناحية وقوى فرض النظام من ناحية ثانية أخرى، بشرط أن تكون هذه الأخيرة متبعة لبنود وأحكام القوانين المدونة سواء كانت قوى عامة أو خاصة".
الفاسد أقوى من العدالة
وفي هذا السياق التحليلي يتابع غرامشي قائلاً "والحال في هذا السياق أن الفاسد الكبير يقدم هو نفسه قوته بوصفها تزيد في مقدراتها على قوة الجهاز القضائي، وذلك بدءاً من شخصية جافيرت رجل الشرطة في (البؤساء) لفيكتور هوغو تلك الشخصية التي ربما تكون المهد الذي منه ولدت على الأرجح تلك التقاليد التي تجعل رجل الأمن على الأرجح قابلاً للاحترام. علماً أن في وسعنا أن نرى في شخصية روكامبول لبنسون دي تيراي مهداً مماثلاً في ما نعرف كيف أن غابوريو لا يتوقف عن إعادة الاعتبار لشخصية الشرطي المحترم عبر شخصية لي كوك التي لا شك في أنها هي التي مهدت الطريق لولادة شخصية شرلوك هولمز كما ابتدعها آرثر كونان دويل". والحقيقة أن ما يميز شخصية شرلوك هولمز التي ولدت من رحم ذلك التطور التدريجي، جاءت عبر مغامرات بدت في ذلك الحين مثيرة لكنها لا تبدو أنها تثير أحداً اليوم، بحسب ما يستطرد غرامشي في ثلاثينيات القرن الـ20.
شرلوك هولمز: يوم كانت النزعة العقلية تفتن القراء (غيتي)
ويعزو الباحث الفكري ذلك إلى أسباب بالغة التعدد والتعقيد تنطلق في معظمها من واقع أن "عالم الصراعات البوليسية في أيامنا هذه بات مكشوفاً بأكثر مما كانت حاله في زمن كونان دويل"، بينما يذكرنا الباحث بكيف أن هذا الكاتب الإنجليزي قد كشف لعبته أمام العدد الأكبر من قرائه الإنجليز الذين لا يستسيغون الصراعات مفضلين أعمال الفكر وحده، مما يذكرنا بأن "في مغامرات شرلوك هولمز وفي مطلق الأحوال نوعاً من التوازن الدقيق - وربما الزائد على حده - في المجال العقلاني على وجه التحديد بين الاعتماد على الذكاء واللجوء إلى البراهين العلمية".
المهم في سلوك البطل
ولعل هذا ما يقود غرامشي إلى تذكيرنا من ناحية أخرى بأن في الرواية البوليسية اليوم، ودائماً في زمنه طبعاً، اهتماماً أكبر بالنواحي التقنية النفسية في سلوك البطل (التحري) منه بالبعد المعتمد على الحركة. وهو أمر يؤكد الباحث أنه يعيد إلى الواجهة كتاباً من طينة إدغار آلن بو وجيلبرت كيث تشسترتون ولا سيما روايات هذا الأخير حيث يتألق بطله الأب براون من خلال نزعته التبريرية التي تكاد تكون "بروباغندا كاثوليكية" خالصة من خلال استفادتها من ممارسات الاعتراف الكنسي للغوص المسبق في ما يقترفه مرتكبو الأفعال الشريرة. "وذلك بالتعارض التام مع تلك النزعة العلموية والسيكولوجيا الوضعية التي تقف في خلفية استنتاجات بطل البروتستانتي آرثر كونان دويل ولا سيما منهم بطله المفضل شرلوك هولمز".
ويقيناً أن أمبرتو إيكو الذي قد ينبهر في بعض الأحيان بمثل هذه الاستنتاجات المغرقة في بعدها التحليلي الأيديولوجي الذي "يحمله مؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي لذلك النوع الترفيهي في نوع من مغالاة لا يمكنه أن يجاريه فيها" يرى أن "هذا النوع من التحليل إنما يذهب بعيداً إلى درجة أنه ينتهي به الأمر إلى استعادة ما كان الكاتب الفرنسي أندريه مالرو يقوله من أن المغالاة في التحليل التشريحي للإبداع إنما يشبه في نهاية الأمر ما قد يقرب من تشريح الحبيب للحبيبة بمشرطه بغية الوصول إلى فهم روحها وعواطفها على حقيقتها". غير أن هذا الاعتراض الودي من إيكو على غرامشي لا يمنعه من أن ينظر بقدر كبير من التقدير إلى تلك القدرات التحليلية التي إذ تتطلب عادة من ممارسيها راحة بال وجسد تمكنت من أن تبرز لدى ذلك المفكر المريض وهو قابع في غياهب سجنه محروماً حتى من الوصول إلى تلك المراجع التي قد يحتاج إليها الباحث في مثل تلك الشؤون!
1475 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع