أخبار تتناقلها وكالات الانباء والاذاعات العالمية، تؤكد استمرار انتفاضة الجنوب، قادمةً من البصرة، يوم امتلأت شوارعها بالجنود المهزومين من معركة قرروا أن لا يقاتلوا فيها عدواً شخصياً للرئيس، وامتلأت بوحل أسود غطى (بساطيلهم) المتهرئة مشياً، وهم ينسحبون من الكويت، الدولة التي قرر الرئيس عدّها محافظة من عنده، وأشعل فتيل الحرب. تشير الى سخام دخان يتسارع مقدمهُ من آبار النفط المحترقة في تلك الدولة، المحافظة بأمر منه شخصياً. وتؤكد أيضا امتدادها الى العمارة والناصرية، ورسو قدماتها في اليوم الخامس، عند مدينة الحلة القريبة من بغداد.
تركتُ البيت وسط الحيرة النافرة مستعجلاً، لا تفارقني صورة التعلق في الانبوب الحديدي، وأضافر أصابع قدميَّ التي اقتلعت جميعها، ووقوعي من بعدها على الأرض الاسمنتية غير قادر على النهوض حتى حلول وقت النوم، ومنع چاسب تقديم المساعدة لنقلي من المكان الذي أراده إشارة بؤس لمن يمر عليه، وتمنيته أنا مكاناً لأنهي وسطه حياة أشبعت بهموم التعذيب.
غبتُ نصف ساعة، قاصداً الدائرة التي غادرها معظم المنتسبين.
لملمت جل أوراقي المهمة، ختمتُ هوية أعددتها بنفسي لنفسي، خبيراً في الكهرباء، لتسهيل المرور وسط أرتال المنكسرين. وعدت من بعدها متجهاً الى البيت مسرعاً أتسابق مع الزمن كأني مجذوب.
نظرتُ في عينيّها السوداويتين، فوجدت فيهما تصميماً على المضي الى آخر المشوار، وتردداً أو خوفاً من السير الى المجهول، لكني لم أتوقف فالأمر قد حسم، وكل التفسيرات تأتي الى صالح الخوض بالتجربة الى آخر المشوار.
فَهمَتْ الإشارة التي أعطيتها تلميحاً لبداية الشروع، فاندفعت مستعجلةً بوضع كل الاحتياجات، من ملابس ولوازم ضرورية في شنطة واحدة، واقتسمت معي المبلغ المكنوز خمسة وثلاثون الف دينار. وضعت حصتها في حزام خاص بالحجاج الذين يقصدون بيت الله الحرام، كانت تحتفظ به ليوم تريد فيه اتمام فريضة الحج. أخفته تحت ملابسها الاعتيادية، وأومأت لشيماء بالتوجه سريعاً الى المطبخ لتهيئة طعام، أحسَتهُ وجبتنا الأخيرة في هذا البيت الحكومي القريب من الدائرة. أما أحلام الثانية في التسلسل، فتقدمت للمساعدة في نقل البنزين من السيارة الحكومية الى سيارتنا الخاصة، وعندما وجدَتْ صعوبة في مد الانبوب المطاطي "الصوندة"، الى حوض السيارة الحكومية طلبت من شقيقتها الأصغر معاونتها في نقله، بواسطة قدر تفرغان فيه الوقود أولاً، ثم تعيدان إفراغه في حوض السيارة (الماليبو) لاحقاً، حتى أمتلأ تماماً، وامتلأت البطون بالطعام، وأرتدى الجميع الملابس الملائمة للسفر، وكأننا عائلة تتجه الى الأقارب خارج بغداد، مثل غيرنا من العائلات التي غادرتها خشية معاودة القصف الدولي على العاصمة من جديد، والتجأت الى أقاربها في المحافظات.
تبعتني شيماء وبقية العائلة بالسيارة (الماليبو)، وأنا بالسيارة الحكومية أحث الخطى متجهاً الى المؤسسة.
وقف حارس المرآب أبو علي بمواجهتي متعجباً الرغبة في إعادة هذه السيارة الى مكانها في هذا اليوم العصيب، وسأل:
- لماذا تعيدها سيدي في يوم هو يوم خدمتها سيارة حكومية، وقودها بالمجان؟.
- إنها شرهة في صرف الوقود، الذي يفترض الاحتفاظ به لحاجة وطنية أهم.
هناك في هذا الخزان الذي أمامك آلاف اللترات، لك الحق في أن تأخذ منه ما تشاء ومتى تشاء.
- عليّ تسليمها، من الضروري الاقتصاد بالوقود دعماً للمجهود الحربي، أقل ما علينا فعله في هذا اليوم هو الاقتصاد بصرف الوقود، ثم أن العسكر في الحرب والمهام الحكومية هم الأحوج، وأنا سأستعمل سيارتي الخاصة اقتصاداً بالوقود. وداعاً أبا علي، أيها الحارس الأمين.
أشرتُ اليه بحركة سدت عليه مساعي الاستمرار في توجيه الأسئلة لمجرد الكلام، تعويضاً عن وحشة المكان الذي يعيشه وحيداً وسط السيارات والوقود، آخذا في الاعتبار صيرورته وكيل أمن، مثله مثل غيره بعد أن أصبح جل الحراس وكلاء أمن رضوا أو لم يرضوا.
أخذت مكاني خلف مقود السيارة الماليبو. أدرت رأسي صوب البيت والمؤسسة، لأبدأ خطوتي الاولى من المشوار، وما زالت صورتي معلقاً بعارضة عمود حديد، وعجزي عن الخروج من زنزانتي لليوم الثاني، ومصاعب الذهاب الى الحمام صباحاً، وألم الجروح من أصابع تورمت لم تفارقني، وكأنها أصبحت هي الدافع الذي يحثني على الاستمرار في السير نحو غياهب المجهول.
............................
وصلنا العامرية بعد الظهر، كانت هي محطتنا الثانية، لتبدأ الثالثة مع سامي، الخال الأكبر للبنات الذي أخذ مكانه خلف المقود، متجهاً بهم الى محافظة بابل، وحال وصولهم اليها عصراً، استبدل الماليبو بسيارة الفولفو العائدة الى عواد شقيقي الأصغر لتفادي المتابعة الأمنية لسيارة الماليبو، واستمر في طريقه الى مدينة الديوانية التي وصلها مساءً، وقد ضيّفَ عند صديقي وكاتم أسراري المهندس جابر، حيث وضعته في الحسبان عند أول مرة ترسخت فيها فكرة الهروب، كمحطة محتملة على الطريق.
لم يتفاجأ جابر بالموضوع، بل كان متوقعاً حصوله بين ساعة وأخرى، فهو يتفق معي أن الوقت مناسب، وقد بين رأيه هذا في الاتصال الهاتفي الذي تم بيني وبينه مشفراً أول أمس.
قضيت ليلتي هذه التي بدأت بها الزحف صوب المجهول مع المحامي مزهر في العامرية. مرت ساعاتها نقاش وتخطيط وتمنيات، وصباح لاحق اتجهنا فيه معاً الى الدبوني بعد المرور في العزيزية لاصطحاب الحاج عاشور، والحلول ضيفاً على الشيخ شعلان، الصديق القديم، ذو التأثير الواسع على الباقين من السكان الذين ينتمون أغلبهم الى عشيرته، معنا السيد مزعل المعروف بحنقه على الرئيس. وبعد أن حل علينا المساء، توافد كبار القوم عند مضيف الشيخ لتناول العشاء. وعندما خرجوا بعد انقضائه بساعتين، أفصحت عن حلم انتظرته طويلاً، وعن إيران خياراً أولاً لتحقيقه في هذه الأيام الأكثر مناسبة للتنفيذ الآمن بنسب عالية.
سأل الحاج عاشور:
- لِمَ أخترت إيران جهةً للهروب؟.
- حدودها الأقرب إلينا، وحكومتها مازالت في عداء مع الرئيس، وعلى هذا فان الهاربين إليها سيكونون في مأمن من الأسئلة، والتحقيق الذي تثيره الشكوك في مثل هكذا حالات، ثم أني قررت أن لا أبقى فيها طويلاً، سأتخذها طريقاً للمرور فقط، ومنها أتجه وعائلتي الى سوريا التي تعد علاقتها مع إيران جيدة على كافة المستويات. سوريا التي احتفظ لها بصور واضحة في ذاكرتي البعيدة أيام هروبي اليها زمن الشباب، سيستقبلونني فيها حتماً، خاصة وإنهم يعرفون تهمتي المشاركة في مؤامرة هم أيضا متهمون طرفاً فيها على حد سواء. أكاد أكون واثقاً من استقبالهم لي كادراً حزبياً يعرفونه جيداً.
أتفقَ مزعل مع هذا الرأي، وأشار الى البصرة التي سيطر عليها المنتفضون احتمالاً مقبولاً للنفاذ الى إيران، وإن كان الطريق اليها من الكوت - العمارة تتبادل السيطرة على غالبية أجزائهِ القوات العسكرية والمنتفضون، وكذلك الحال بالنسبة الى الطريق المار بالناصرية، وأشار أيضاً الى حساسية الموضوع، وخطورته، وحاجته الى التأني قدر المستطاع. واقترح حميدي العودة الى بغداد، ومنها التوجه الى خانقين، وقال ثالث، من المناسب التوجه الى الشمال، وهكذا كثرت الآراء والمقترحات على عدد المتبقين في المضيف، واستمر النقاش المتعدد الأوجه الى ما بعد منتصف الليل على موقد نار مادته أغصان شجر من الطرفة التي تكثر في المنطقة، كان فيه شعلان مستمعاً جيداً، وكأنه غاص في هموم لا يريد الافاقة من وقعها، الى أن نادى على ولده مساري بصوت فيه صيغة أمر واضحة... مساري كبير الأبناء جالس مع أبناء عمومته وأخوته حول موقد آخر يتصاعد منه الدخان، يتسامرون بعيداً عن الآباء وضيفهم العزيز، منشغلون بهموم الشباب.
- أحضرْ سيارة الحمل الصغيرة "البيك آب" على الفور، واصطحبْ اثنين من أخوتك بينهم سلمان، تعرف أنه شجاع ومعروف بقوته بين الشباب، ومن ثم اذهب الى المزرعة، لملأها بنصف طن من محصول الخس.
- في هذا الليل؟. لماذا لا نؤجل التنفيذ الى الصباح حيث القدرة على انتقاء الناضج من الخس في وضح النهار؟.
أعاد الشيخ شعلان تأكيد طلب يريد تنفيذه الآن.
- خذ فانوس إضاءة، واملأ السيارة بالمحصول عن آخرها، ومن بعد توجه وحدك الى بدرة، لتكون فيها قبل شروق الشمس، ولا تنس أخذ وعاء فيه عشرون لتر "بنزين" احتياطي، تحسباً لاحتمالات غلق محطات الوقود في هذه الظروف غير الطبيعية.
- نعم، ثم سأل:
- هل هناك طلبات أخرى؟. ماذا سأفعل بالمحصول في قضاء بدرة الذي لم يسبق أن سوقنا له أي من محاصيل مزرعتنا؟.
سحبهُ جانباً. كلمه بصوت إعتقده غير مسموع من بقية الشباب، كلام نابع من سلطة قوية، وكأنه عاد إلى أيام الخدمة العسكرية التي وصل خلالها الى رتبة عريف في صنف المشاة، قائلاً:
- عليك بيع المحصول بأي ثمن، وإن لم تفلح فوزعه على الناس الاعتياديين في سبيل الله. لا تبقَ في المدينة أكثر من نصف ساعة. توجه الى الحدود، صوب مزرعة عمك الفريق حماد التي خصصها له الرئيس مكرمة حرب يوم خسر كل منتسبي فرقته في معركة شرق البصرة ابان الحرب العراقية الايرانية.
- هل تتذكرها؟. سبق ان زرناها معاً قبل شهرين. دقق في تفاصيل إمكانية عبور الحدود عن طريقها الى إيران بسلام. أنا أعتمد عليك أنت ابني الكبير، أستودعك الله.
- أبشر، أنا أخو ريما.
كان مساري واثقاً من تنفيذ الأمر الذي عده مهمة يهوى تنفيذها في ظروف يكتنفها الغموض، وتعلو فيها حدود المجازفة. من طبيعته الميل الى ركوب موج المجازفة، كأنه يشتهي المثير.
وصل وحمولة الخس مع عشرين لتر بنزين في وعاء بلاستيكي الى بدرة بالساعة السادسة صباحاً. باع المحصول بنصف السعر السائد للبيع في سوق تبدو راكدة، ومن بعده اتجه صوب المزرعة التي تمر الحدود من جانبها الشرقي، انعطف الى اليسار، سأل شدهان، فلاحها الوحيد بعد إلقاء السلام عن عمه السيد الفريق، فلم يحصل على إجابة واضحة عن مكانه الصحيح. وبدل من الحصول على الاجابة الملائمة عن مكان الفريق، رد شدهان بسؤال عن الغاية والمطلوب من السيد الفريق في هذا الصباح الباكر؟.
عرّفَ مساري عن نفسه ابن الشيخ شعلان. حاول تذكير الفلاح بالوالد ومنزلته، وعندما شعر بالفشل، قال أن الوالد بعثه ليسأل عن قريبه السيد الفريق، فيما إذا كان محتاجاً لشيء ما في هذه الأيام، خاتماً تعريفه هذا بالتأكيد على أن الفريق هو من أخوال الوالد وعزيز عليه. عند هذا استجاب شدهان لهذا التعريف، رحب به وبالوالد لطيبة أصله. طلب ايصال السلام له شيخاً كبيراً. تعهد اخبار الفريق بهذه الزيارة، والسؤال حال مجيئه من تكريت.
توقف مساري جانباً، سأل عن المياه التي تغطي أرضهم إذ لم يشاهدها في المرة السابقة التي حضر بها مع الوالد، وتجولا مع السيد الفريق في ربوعها. أجابه شدهان المخلص الى الفريق قائلاً:
- إنها مياه سيول من أمطار هطلت غزيرةً في الأيام الماضية، فتجمعت هنا في هذا الجزء المنخفض عدة كيلومترات الى اليمين، ومثلها الى الشمال، لكنها والحمد لله لم تغمر من أرضنا سوى أمتاراً، وبقية المياه الممتدة الى التل المقابل، هي في مجموعها تغطي الجانب الإيراني من الحدود.
لم تكن المعلومات التي أرادها مساري قد اكتملت، فخطرت في باله مسألة الألغام، لقد سمعها في النقاش الذي دار بين الوالد، والسيد الفريق في الزيارة السابقة، سأل فيما إذا تسببت السيول في جرفها أو أظهرت ما كان متروكاً منها من أيام الحرب، مما يعني تسببها في بعض المخاطر عليهم، وعلى زرعهم بعد اليباس. طمأنه شدهان بالقول:
- لا توجد الغام، وان السيد الفريق يوم استلامه الأرض من المحافظة هدية من السيد الرئيس، جلب جماعة من الهندسة العسكرية، عملوا مسحاً لأرجائها جميعاً، تأكدوا من عدم وجود ألغام. كما إن الإيراني صاحب الأرض المقابلة، يزرع أرضه سنوياً بمحصول الحنطة، تتجول فيها ماكنة الحراثة والحاصدة، لم نسمع انفجار لغم قد حصل خلال هذه السنوات الثلاث التي قضيناها هنا.
وبقصد تلطيف الأجواء سأل مساري:
- عمي شدهان، هل الايراني صاحب الأرض المقابلة هو كذلك برتبة فريق؟.
ضحكا معاً، ومن بعد قهقهة كاد صداها يصل الفلاح الايراني. قال:
- ما قصة هذه المياه التي تبدو عميقة؟، وهل ستبقى في أماكنها طويلاً؟. رد شدهان:
- بالنسبة الى المياه فان بقاءها مرهون بمدى تساقط أخرى في الأيام المقبلة، أما عمقها فهي ليست عميقة بحسب تجربة خوضي لها بالأمس لجلب طير اصطدته، أظن وصولها في أدنى مستوى لا يزيد العمق فيه عن مستوى الحزام، باستثناء بعض الحفر التي أجزم وجودها في عدة أماكن غير معروفة.
اكتفى مساري بما حصل عليه من معلومات اعتقدها وافية بالغرض الذي جاء من أجله. سلمَ على عمه الفلاح، وطلب ايصال السلام نيابة عنه وعن أبيه الى السيد الفريق، واعداً بزيارة لهما في القريب.
في المقابل طلب شدهان من مساري ابلاغ سلامه الى والده الشيخ شعلان.
.............................
وصل مساري بيته عائداً من الحدود مع أولى ساعات المساء. أشركه الكبار في حوارهم بعد أن ثبتت أهليته لتنفيذ المهمة التي كُلفَ بها. استمروا وهو معهم في محاولة اتخاذ قرار بصدد استخدام هذا المسلك من عدمه. بدا الوالد شعلان مفتخراً بولده الذي أنجز ما طلب منه باقتدار، وبدأ هو شرحاً مفصلاً لجولته بالمزرعة، كأنه واحد من جنود الاستطلاع، أردفه بالإشارة الى نهج حواره مع الفلاح، وطبيعة الأرض، وتجمع السيول على خط الحدود، الذي يقتضي العبور من خلاله، تَركْ السيارة والخوض مشياً لمسافة تصل الى ما يقارب نصف كيلو متر في أضيق نقطة تؤدي الى اليابسة في الجانب الإيراني، أو استخدام زورق. أكد لهم واثقاً أن العبور مشياً أو باستخدام زورق لابد ان يتم في الليل، وبمعرفة شدهان، الذي يبدو حذراً بعض الشيء.
مسألة الفلاح ليست مشكلة، المشكلة يا جماعة الخير بالزورق، من أين لنا بزورق في هذا الوقت الحرج، قال الشيخ شعلان.
هنا وفي هذه العقدة من الموضوع تدخلتُ قاطعاً الطريق على مزيد من التفكير في هذا المسلك، فقلت:
- لابد من التغاضي عن الزورق، لأن اصطحابه من هنا الى بدرة والتوجه به الى الحدود، سيثير علامات استفهام في عقول رجال الأمن والاستخبارات، الغارقين في الشك بكل شيء. كذلك فالخوض بمياه غير معروفة في ليل شتاء مظلم لعائلتي من البنات، مجازفة لا يمكن اتخاذها باي حال من الأحوال.
سأل المحامي مزهر:
- وما الحل إذن؟. ، فأجبته بصوت لا يخلو من مسحة اكتئاب:
- لابد من دراسة الخيارات الأخرى.
صحيح قال الشيخ شعلان وأضاف مخاطباً:
- الخيار الآخر هو البصرة، لكن مشكلة تبرز بالمواجهة، تتعلق بكيفية النفاذ اليها ... مدينة يتوزع من حولها العسكر ... سيطرات متعددة على الطريق؟.
لقد أخذت المناقشة وإبداء الآراء ردحاً من الليل، قَلبتُ خلالها أوراق ذاكرتي، قصصت تفاصيل الاتهام بالمؤامرة جزافاً، وسير التحقيق والمحاكمة التي كانت صورية. بدأت بالأيام الأخيرة، ومن تبقى معي على قيد الحياة حتى آخر لحظة في ذاك السجن الرهيب، وشعورنا طواله أننا فئران تجارب، يتلذذ على بعض نتائجها خلسة الرئيس بإطلالته عبر الغرفة المخصصة للموتى قريباً من ساحة التعذيب عدة مرات، عرفته من وقفته والسيجار الذي ينفث دخانه بمتعة كبيرة، على الرغم من تخفيه بلباس عربي تقليدي. إنها ذكريات كان وقع مجملها كئيباً وذا وزن ثقيل على السامعين، حاولت أن أغيّر من سيرها فأخبرتهم أن فكرة الهروب تكونت عندي في أول ضربة تلقيتها في السجن، تَضخمت في عقلي المهووس بالهروب، نسجتُ خيوطها في اللحظة التي دخلت بها البيت مطلق السراح وبقية الرفاق بعفو من الرئيس. فكرة أضحت تمسي معي، وتصبح كذلك معي منذ الكابوس الذي أقض مضجعي. تخيلتها مشياً بين جبال الاكراد، ووديانهم توصلني الى ايران. تصورتها ركوباً لسيارات المهربين عبر الصحراء تضعني عند الحدود السورية، وثالثة صوب الاتراك عبر الجبال. فكرة طالما أعطتني أملاً في البقاء حياً، وأبعدتني عن الجنون، كما أعانتني على تحمل البقاء في وضع القرفصاء بالزاوية اليمنى من الزنزانة منذ الصباح حتى حلول وقت النوم كجزء من العقاب يُطبَق بين الحين والحين... فكرة لم تقلل من شدة الميل الى تنفيذها إجراءات النصف الثاني من السنة الثالثة في السجن، عندما استبدلت فجأة شتائم الجلادين وخدش الاعراض وهراوات منتصف الليل، بأوراق جلبها العميد لامع ضابط أمن الجهاز، المشرف على مشروع التدجين، قدمها لمن بقيَّ منا على قيد الحياة لنكتب فيها شجباً موجعاً للمؤامرة، واسترحاماً لعفو عن ذنوبها المخجلة حسب قوله. آه كم رسخت في عقلي هذه الفكرة، حتى لم يخفف من غلواء رغبتها غياب چاسب المؤقت لشهر قضاه في دورة خاصة داخل الجهاز لتعلم فنون الاذلال على يدر خبراء يوغوسلاف، استقدموا خصيصا لهذه الغاية، كما لم تقلل من وقعها، الأشهر الثلاثة التي قضيتها ضيفاً في المخابرات. قال شعلان:
- ما هذا الكلام؟، كيف تكون ضيفاً، وأنت سجين مطلوب أماتتك أو تدجينك من قبل الرئيس؟. فأجبت:
- ان رئيس الخفر طلبني الى غرفته مساء أحد أيام الشتاء، كان هو الشتاء الثالث لنا في أبو غريب، تصورت أنهم سيذهبون بي الى غرفة الاعدام، وعندما خرجت بسيارة محكمة الغلق غيرت تصوري، معتقداً هذه المرة أنهم سيدفنونني حياً في مكان ما من أرض العراق، سبقني الى الدفن فيها آلاف المغدورين. لكن الأمر بدا مختلفاً تماماً حال الوصول الى المخابرات، إذ استقبلني ضابط بمنتهى الاحترام، ناداني باسمي الصريح، شعرت بالغرابة عندما ناداني باسمي الصريح، فقد تعودت على كنيتي الدارجة "أبو صماخ". بعدها بقليل أرسل طبيب لغرض إجراء الفحص السريري لكل أعضاء جسمي. وبعد أن عرف اصابتي بالذبحة، كتب لي دواءً وأمر في أن يكون غذائي مقتصراً على المشويات.
- أتذكر أول يوم جاء فيه صحن المشويات، كباب وتكة دجاج وصمونتين، التهمتها بشراهة كمن لم يذق الأكل دهراً بحاله، كذلك طلب الطبيب إخراجي الى الشمس ساعة في اليوم. سألت نفسي لمَ هذا الدلال، لم يخطر في بالي احتمال الخروج بعفو خاص من الرئيس، لقد تحيرت حقاً في الأمر، وتبين بعد استعادة جزء مهم من عافيتي أن العميد قوات خاصة حمدي العزاوي قد نجح في الموت انتحاراً في المرة الثانية، وعُرضت أوراقه على الرئيس، فتذكره من بين الذين كلفهم شخصياً باغتيال الفريق حردان التكريتي نائب رئيس الجمهورية داخل الكويت عام 1971، وتذكر محاولته الأولى للانتحار، وتكليفي عندما كنت مسؤولاً لتنظيم الحزب العسكري في كركوك بالتحقيق في الموضوع، ورعاية العزاوي بكونه أحد أهم المنفذين، وأراد أي الرئيس بعد موت العزاوي انتحاراً هذه المرة توثيق هذه القضية بصيغة أن يكون فيها بطلاً، هو من خطط للموضوع واشرف على تنفيذه. وبما أني أصبحتُ عارفاً ببعض تفاصيلها من العزاوي عند محاولته الأولى الفاشلة، فقد اشار الى استدعائي من أبو غريب، وتسجيل شهادتي بالصوت والصورة، ومن بعدها إعادتي الى ذاك السجن المشؤوم. وهكذا سجلت شهادتي، فيها اكبار لشخصه، وتضخيم لدوره، أضفت من عندي مزيداً من الاشادة والمديح. أعترف أني زيدّتُ في الاشادة خائفاً من أن يعتقد عند مشاهدتها أني قصرت في بعض منها، يريده هو بارزاً، فيصب جام غضبه عليّ، وبالوقت نفسه استثمرت هذه الفسحة التي تعد جنة بالمقارنة مع ما يجري في أبو غريب لإطالتها جهد الامكان فكانت ثلاثة شهور، لا يمكن عدها من أيام السجن بأي حال من الأحوال.
أحسست فجأة بالتعب الشديد، فأشرت للموجودين وأنا ألملم شتات أفكاري، أني أشعر بالتعب والحاجة الى النوم. التعب الذي أحسسته لا علاقة له بالإجهاد الحاصل من الطريق، ولا حتى من كثر الكلام، كان وبالتحديد من تداعي الانفعالات المصاحبة للكلام. حتى لم أجب مزهر عندما طلب مني المزيد من الايضاح عن مكوثي ضيفاً في المخابرات، وكيفية اغتيال حردان التكريتي في الكويت، وقلت ها قد بلغت الساعة الرابعة صباحاً، علينا النوم والاستعداد لغد قد يكون طويلاً.
1437 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع