نفحة من كتاب: الجيش العراقي في حرب فلسطين عام ١٩٤٨لمؤلّفه اللواء الركن علاء الدين حسين مكّي خمَّاس
بقلم: صفوة فاهم كامل
سعدْتُ جداً عندما أهداني أستاذي وزميلي وصديقي اللواء الركن علاء الدين حسين مكّي خمَّاس مؤلّفهُ الحادي والعشرين وآخر إنجازاته البحثية المتميّزة، فور صدورہ من المطبعة وقبل توزيعه في المكتبات، الموسوم (الجيش العراقي في حرب فلسطين عام 1948... سِفْر خالد وتاريخ مجيد)، أحدث منشورات دار الأكاديميون للنشر والتوزيع في عمّان لعام 2024. فكنتُ أول من اطَّلع على محتواہ وقلَّب صفحاته وقدَّر الجهد والوقت المبذولين في تأليفه.
يُعَدُّ اللواء الركن علاء الدين حسين مكّي خمَّاس في الوقت الحالي عميد الجيش العراقي إن لم نقل شيخهم النجيب، فهو من مواليد بغداد عام 1937، خريج الكلية العسكرية/ دورة ٣٣ عام ١٩٥٧، والأكاديمية العسكرية الملكية البريطانية (Sandhurst) عام ١٩٥٧، وكلية الأركان العراقية عام ١٩٦٦، وكلية الحرب الفرنسية العليا عام ١٩٧٧. وذو شخصية عسكرية رياضية علمية رصينة وصاحب مؤلفات ودراسات وبحوث مفيدة أغنت المكتبتين العسكرية والمدنية، وما زال يملك في جعبته الكثير من الأفكار والطروحات قيد البحث والتأليف.
وأَكاد أجزم -وهذه قناعتي- أنَّ كتاب اللواء خمَّاس هذا والذي استغرقَ إعداده ثلاث سنوات متواصلة هو قمَّةُ هرم كتبهِ وأنجحها، فقد وضعَ فيه عصارة جهدہِ الفكري والبحثي ناهلاً من خبرته الطويلة وثقافته العالية واطلاعه على الكثير من الكتب العسكرية العربية والأجنبية التي ترجم عدداً منها، ليبرز للعالم العربي والجيل الحالي -بكلِّ وضوح- الدور الحقيقي للجيش العراقي في حرب فلسطين عام 1948 التي سمِّيت (يوم النكبة) أو (عام النكبة) بينما أَسماها العدو (حرب الاستقلال). وإن كان كتابه قبل الأخير الصادر عام 2021 تحت عنوان (دور العراق في حرب عام 1967 ... تاريخ وذكريات) لا يقل أهميةً عنه.
وتزامن صدور الكتاب ونحن على أعتاب الذكرى السادسة والسبعين لتلك النكبة المشؤومة وما زال الشعب الفلسطيني المرزوء يمرُّ بظروف قاسية وحزينة، حيث أوجاع الحياة تُثقِل عليه بكل مآسيها في قِطاع غزَّة وبقية الأراضي المحتلة في زمن بات الجيش العراقي -للأسف- بعيداً عن دوره الحقيقي في مجابهة الكيان الصهيوني الغاصب متخلِّياً (مؤقَّتاً) عن قضيته الأساسية وهدفه الأسمى في تحرير كامل تراب فلسطين من النهر إلى البحر، وهو المعوَّل عليه بين الجيوش العربيبة وأهلٌ لها باقتدار...
جيشُ العراق ولم أزل بك مؤمناً
وبأنَّك الأمل المرجَّى والمنـى
الجواهري
• • •
الكتاب يقع في 684 صفحة من القطع الكبير وبأحرف متوسطة، وأول ما يَلفت نظر القارئ تصميمُ غلافه الذي وضِعتْ عليه خريطة صمَّاء للعراق وبلاد الشام بخلفية خضراء ليخرج من بغداد العروبة سهمٌ ذهبي باتجاه فلسطين الحبيبة وتحديداً القدس فأعطى للكتاب معنىً لامعاً آخر مكمِّلاً لعنوانه الفخم والواضح.
اللواء علاء الدين حسين مكّي خمَّاس أهدى مؤلَّفه وجُهده إلى كل من ناضل ودافع وقاتل واستشهد من أجل الحفاظ على عروبة فلسطين وكذلك إلى الشباب الناهض وإلى الجيش العراقي. ونظراً لكثرة وقائع تلك الحرب وما قبلها ومشاركة جيوش عربية عدَّة فيه فقد ارتأى تبويب الكتاب وتقسيمه إلى 26 فصلاً، بدأها بقرار تقسيم فلسطين عام 1947 والأسباب المؤدِّية له ومشروع التقسيم والكتاب الأبيض الذي أصدرته بريطانيا مع حيثيات القرار وتداعياته العربية مروراً بمعارك الجيش العراقي الذي كان في حينها من أكبر الجيوش العربية المشاركة عدداً، لتنتهي الحرب باتفاقية هدنة وُقِّعت بين (إسرائيل) ودول المواجهة العربية ولم يوقِّعها العراق، إلى نهاية فصول الكتاب بانتهاء الحرب وتسليم الجيش العراقي مواقعه وعودته تباعاً إلى ثكناته في العراق واستقبالهِ عند مدخل مدينة بغداد، وكان على رأس مستقبليه في حينها والدہ أمير اللواء حسين مكّي خمَّاس -رحمه الله- مدير الحركات العسكرية.
في بداية الكتاب تطرَّق الكاتب إلى قوات الجيش الإسرائيلي وأسماء التنظيمات المسلَّحة التي فاجأت العرب إذ كانت تربو على ستين ألف محارب من ذوي خبرات قتالية عالية، لا كما اعتقدوا أنَّها مجرد عصابات مسلّحة، لتتحوّل بين ليلة وضحاها إلى ما بات يعرف بـ (جيش الدفاع الإسرائيلي) تحديداً يوم 15 مايس 1948، يوم انتهاء الانتداب البريطاني وإعلان قيام (دولة إسرائيل) وما تلاہ من تمدّد هذا الكيان تدريجياً واجتياحه مدناً وقرى فلسطينية أخرى، علماً أن الجيش الإسرائيلي لم يكن يملك أي قوة جوية أو طائرات حربية مقاتلة لحظة بدء الحرب.
كان العدو قد بدأ تطبيق خططته المبيَّتة سلفاً للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية التي تؤمِّن دولته المزعومة قبل تاريخ انتهاء الانتداب البريطاني وتسارعت وتيرة الأحداث والاستعدادات فبدأت باغتيال القائد الفلسطيني حسن سلامة ورفاقه ثمَّ الاستيلاء على قرية القسطل واحتلالها وفيها استشهد القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني وتوالى بعدها احتلاله مدن وبلدات دير ياسين وطبرية وحيفا وصفد ويافا وبيسان على التوالي. وفي الساعة الواحدة من صباح يوم 15 مايس 1948، اجتازت الجيوش العربية النظامية الحدود الدولية لفلسطين تنفيذاً لقرار الجامعة العربية وكان في مقدمتها الجيش العراقي الذي كان قد تحشَّد على الضفة الشرقية لنهر الأردن.
أما أهم المعارك التي اشتبك فيها الجيش العراقي مع العدو خلال فترة الحرب وذكر المؤلف مُجرياتها في صفحات الكتاب فهي على التوالي: معركة كيشر، ومعركة جنين الأولى والثانية، ومعارك جبهة كفر قاسم، ومعارك النقب الأولى، ومعارك تل حنيفش وبورين طول كرم، وكان آخرها معركة رامات هاكوفتش، حيث أُعلن بعدها وقف إطلاق النار.
وعلى الرغم من حداثة تشكيل الجيش العراقي وخبرته المتواضعة في القتال آنذاك، إذ كان قد مرَّ على تأسيسه سبعة وعشرون عاماً فقط، زجَّ العراق في هذه الحرب ثلثي جيشه ممَّا يدلُّ على جدِّيته في الالتزام بواجبه القومي تجاه فلسطين، فشارك بقوة آلية وجحفل لواء مشاة وسرب طائرات، وتجمَّعت هذه القوات في مدينة المفَرق الأردنية ومطارها، ثمَّ أُرسلت قوات أخرى لتعزيز الموقف مؤلَّفة من أربعة جحافل ألوية مشاة وفوج آخر وفوجين من قوات الشرطة السيارة. وقد أبرز المؤلَّف تشكيلات هذه القوات والقوات المتجحفلة معها بشكل مفصَّل وكذلك باقي قطعات الجيوش المشاركة الأردنية والسورية واللبنانية والسعودية.
وإذا كان اللواء الركن علاء الدين حسين مكّي خمَّاس قد استذكر بشكل مُسهب دور الجيش العراقي في هذه الحرب، وهو الإنجاز التاريخي الذي يتشرّف أبناؤه به إلى اليوم ويشار له بالبَنان عراقياً وعربياً، فإنَّه افرد صفحات كثيرة عن دور القائد الميداني المقدَّم عمر علي بطل معركة جَنين في هذه الحرب الذي ما زال اسمه محطَّ فخر واعتزاز لكل فلسطيني بينما يتوجَّس منه الصهاينة، مستعيناً بمعلومات تاريخه قيّمة ومهمّة من مصدر حي وقريب، من ابنه المقدَّم الطيار بارز عمر علي، ليعزَّز من عديد مصادر كتابه الثريّة ويُتحفه بمعلومات غير مطروقة سابقاً فضلاً عن مصادر إسرائيلية كَتبتْ عنه ومذكِّرات قادة ضبَّاط شاركوا فعلياً في هذه الحرب.
لقد أمست معركة جَنين الأولى والثانية صفحة فخر واعتزاز وملحمة خالدة سطَّرها الجيش العراقي وعلامة بارزة في سفر تاريخه، دون الانتقاص من المعارك الأخرى، وما المقابر الثلاث الماثلة للعيان إلى اليوم والتي تضمُّ تحت ثراها رفات شهداء الجيش العراقي في مدن جَنين ونابلس الفلسطينيتين والمفرق الأردنية إلَّا شواهد حيَّة على تضحيات أبنائه، وهو الجيش العربي الوحيد الذي يملك مقابر لشهدائه خارج أرضه كانت دماء أجسادهم الطاهرة قد روت أرض فلسطين.
عزَّز المؤلِّف كتابه بكثير من الصور الجوية والخرائط العسكرية التي استعان بها لإيضاح الأماكن والمواقع والنقاط وسير المعارك للقارئ وخرائط أخرى خطَّطها بنفسه وأشَّرَ عليه بيدہ نتيجة خبرته الطويلة التي اكتسبها من اشتراكه في معارك الجيش العراقي واقتدارہ كمدرِّس في الكلية العسكرية وكلية الأركان ومن ثمَّ رئاسته جامعةَ البكر للدراسات العسكرية العليا، وطرَّز صفحات الكتاب أيضاً بصور تاريخية لرجال كانت لهم أدوار بطولية في الحرب وصور أخرى لمواقع وثكنات عسكرية مع أسمائها وتفاصيلها وأسلحة وطائرات ومعدَّات استخدمت في الحرب، وبعض هذه الصور تنشر لأول مرة ممَّا زاد من جمال الكتاب ومن قيمته التوثيقية والتاريخية.
أما أبرز القادة الميدانيين وآمري الألوية الذين شاركوا بشكل مباشر في هذه الحرب هم: اللواء الركن إسماعيل صفوت، أمير اللواء الركن نور الدين محمود، والزعيم طاهر الزبيدي، والعقيد الركن نجيب الربيعي والعقيد الركن صالح زكي توفيق، والعقيد الركن مزهر الشاوي، والزعيم ياسين حسن، والعقيد الركن محمد رفيق عارف، وعشرات الضباط وبضعة آلاف من الجنود الأشاوس ممن كانوا تحت إمرتهم -رحمهم الله جميعاً.
أنهى الكاتب صفحات كتابه بخاتمة طويلة عبَّر فيها عن رؤيته لتلك الحرب بعد خمس وسبعين سنة على انتهائها وعن أسباب فشلها، بدءاً من بداية الحركة الصهيونية والموقف العربي وأدائه السياسي والاستراتيجي والأداء العسكري لكل من القوات العربية والصهيونية علاوة على أهم الدروس البليغة المستنبطة من هذه الحرب. ودوَّن في السطور الأخيرة من هذه الخاتمة آخر رسالة تسلَّمها من زميله وصديقه الفريق الركن محمد عبد القادر الداغستاني -رحمه الله- قبل وفاته بيوم واحد، بيَّنَ فيها رأيه في الكتاب ووجهة نظره في الوضع العربي وفي (إسرائيل).
وبعد أن تنوَّرنا بصفحات هذا الكتاب التاريخي المهم وخرجنا بهذه السطور المتواضعة وقدَّمناها للقارئ الكريم، التمس منه قراءة صفحات الكتاب كاملةً للاطلاع على تفاصيل صفحات الحرب في ساحة العمليات ودقائقها الشائكة وخباياها الصعبة، كي يكون أكثر تعمّقاً في استيعاب الأحداث التي رافقت الحرب، بخاصة العسكريون المتقاعدون من الجيل السابق وضباط الجيش الحالي وعُشّاق التاريخ. وأجد من الضروري جداً أن يوضع هذا الكتاب على رفوف مكتبات مؤسساتنا وأكاديمياتنا العسكرية والمدنية والمكتبات العامة ليكون مصدراً جديداً للباحثين والمؤرخين ونبراساً للأجيال القادمة.
دعاؤنا إلى الباري عزَّ وجل أن يحفظ اللواء الركن علاء الدين حسين مكّي خمَّاس (أبا حسين) وعائلته الكريمة وأن يمدَّ في صحتهِ وعمرہِ ويستمر بإتحافنا بالمزيد من المؤلفات التاريخية المتميّزة التي يتشوَّق القارئ لقراءتها والاستمتاع بمعلوماتها.
ونختم هذه السطور بأبيات من قصيدة عصماء كتبها أحد الضباط الذين اشتركوا في معركة جَنين وهو اللواء الركن محمود شيت خطاب الموصلي -رحمه الله- بتاريخ 26/4/1949، وألقاها بعد مراسم دفن شهداء الجيش العراقي وصدور أوامر بالانسحاب، حينما ألقى نظرة الوداع الأخيرة وبكى... فقال مخاطبًا الجماهير الفلسطينية المحتشدة لوداعهم:
هـذي قبـور الخـالـديـن فقد قَضَوا
شُهداءَ حتـى أنقذوا الأوطانا
قـد جـالـدوا الأعداءَ حتـى استُشهدوا
ماتـوا بساحـاتِ الوغى شُجعانـا
مـاتـوا دفـاعًا عـن حياضٍ دُنِّسَتْ
بأحطِّ خلقِ الله فـي دنيانا
أجنـيـنُ إنَّكِ قـد شهدتِ جهادنا
وعـلـمتِ كـيف تسـاقطتْ قتلانا
إنَّ الخلـودَ لـمـن يـمـوت مجاهدًا
لـيس الخلـود لمن يعيش جبانا
• • •
433 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع