الجزء الرابع عشر والأخير
اقترب المغيب، وانحسرت شمس العصر خجلة عن أشجار الغابة، فتداعت الذكريات سلسلة، تتابع لا إرادي إلى أوقات العصر في بغداد، ذاك الذي تعودت فيه الأسر أخذ أماكنها جلوساً متوالياً حول موائد الشاي، قبل تلوث أجواؤها بدخان السيارات المتهالكة، ومحارك المولدات المزروعة على أرصفة شوارعها وسط الأنساق، وقبل زحف الكراهية إلى ساحاتها الموشحة بالسواد.
كان وعاء الذكريات ملآن حتى آخره بقصص اختطاف وصور اشباح وكوابيس مرعبة، الزمه التفتيش عن مسارب بوح جديدة سبيلاً وحيداً لتفريغها، والهروب من سجن حيرته الآثم، وكانت المحتويات الخارجة من هذا الوعاء الصدئ، أو بعض منها قد تحوّلَ إلى صرخات دموع موجعة، آلمتْ قلبه المفجوع، طوال وقت اجترارها مثل شريط سينمائي حافظ على نقاوته بشكل مقبول. أعاد البوح بها أكثر من مرة، مدفوعاً بقوة في داخله لإخراج المكبوت، أو مستسلماً لمسارب النضح من ذاكرة زادت فيها الثقوب.
قال في نفسه آه كم حاولت مغادرة أصول آلامي، ونسيان بغداد التي صارت عقيمة لفرط حزنها، والعودة إلى جيل الشباب، وإلى الطمأنينة في مصاحبة شقراء من بلاد هربتُ إليها لاجئاً، عساها تعيد آدميتي المفقودة، لكني فشلت.
أقر أني فشلت.
وكم حلمت، وقررت إيقاف التداعي المر لتلك الأحلام، استبدالها بنوع من الحقيقة أتعايش معها، مشاعر حب أخرى، وأحاسيس ود أخرى، فخانني ضعفي، وأعادني قدري خاضعاً لسجن الحقد، أفتش عن مخرج.
لم يعد هناك مخرج، وقد جرني مسلسل الأحلام الى أتون كوابيس موجعة، إلى العامرية التي أمقتها.
إلى البيت نفسه، ورائحة الدم التي علقت في شعيرات أنفي الذبلة، وسارت معي كوابيسي أشباح كانت قد استوطنتني بعد الحادثة، وصور المذبوحات عرايا أمام الكاميرات، حمى تلتهم أفكاري، ونار كلما خبت قنطاراً يُصب عليها النحس زيت الغربة، فيضرم لهيبها من جديد وكوابيس جديدة.
لقد وجد في البوح لذة، فلهج بها، قلقاً لا تعرف السكينة مجالاً إلى ذاته الملوثة بالمقت، ومشاعر الانتقام، كان في اللحظات الأخيرة كمن يجلس على مقلاة.
مرت دقائق عدة لم تبتعد فيها عيناه عن الطريق المؤدي الى القرية، ربما يفتش عن النهاية، وقبل ايجادها ندت عنه آهة خوار، أشعل بعدها سيجارة راح يدخنها بلذة العائد تواً إلى التدخين بعد توبة تلقائية دامت سنين، أرسل دخانها إلى الأعلى، كأنما يرسل معه شكواه المرة من هذا المصير، قال:
لقد تعبت سيدي، ومللت الجلوس. أشعر بالحاجة إلى المشي بعد ساعات أنهكتني تماماً، لم أتعود البقاء جالساً في مكان واحد مثل هذه المدة التي جلستها منذ وصولي هذه المنطقة.... لا بل منذ فراق أهلي.
أحسُ الجلوس المستمر قد أضحى عاملاً، زيّدَ أبعاد شجوني.
ومع آخر نفس من سيجارته، هم التحرك، فاستجمع قواه المبعثرة، وضع بساطه في الحقيبة، علقها على الظهر، وقبل الشروع، التفت قليلاً، قال:
- أكره الغروب، لا أريد المشي أثناءه في هذه الغابة حتى حلول الظلام، وإن كان هنا لا يحل تماماً، إلا في أيام قليلة منتصف الشتاء، والحيوانات التي أخشى منها، غير موجودة إلا نوع من الذئاب، لا تقترب من الانسان اليقظ، ولا تؤذيه مثل ذئابنا هناك.
سأل قبل غلق شريط الذكريات عن ما آلت إليه آخر أحداث العراق، وعن مقاصد أندرو صاحب مقترح العيش في هذه المنطقة، وجهوده في الحصول على بيت للسكن المؤقت في مكان يفتخر بالأجداد الذين أنشأوه ليكون آمنا يجنبهم حقد الانسان على أخيه الانسان، وعن ضيافة قومه التي يقارنها العارف بضيافة أهل الريف في العراق قبل الإصابة بآفة الطائفية، وسؤال القادم إلى مرابعهم ضيفاً من أي قوم يكون.
وفي خطوات مضطربة أعقبت النهوض من وضع الجلوس، ووجه مغطى بسحابة انفعال، راودته فكرة السؤال عن النحس:
- ألا تؤمن بالنحس؟.
سؤال محيّر، وغريب لم يُفهم القصد من حشره مع حالة التظاهر بالإصغاء، فجاءت الإجابة رغبة بتغيير مجرى الحديث، تلميحات خفيفة عن أسر قتلت عن بكرة أبيها غدراً في بغداد، وهم لا يعلمون الأسباب. ومئات اللاجئين العراقيين رُفضت طلباتهم ظلماً، مطلوب إعادتهم إلى البلاد قسراً، وهم لا يدركون الأسباب.
وعن رواد جوامع تضاعفت أعدادهم قبل بزوغ الفجر الجديد رياءً، وجثث قتلى تركت ملقية على المزابل بقصد العفن، وأخرى أبقيت شواخص على أرصفة الطريق.
وعن برلماني بات مشرفاً على خلايا إرهاب، ووزير ملتحٍ يسهم بالقتل في السر لإشاعة الإرهاب، وحمايات مسؤولين يكلفون بأعمال اغتيال.
وعن الهموم التي ملأت النفوس........ وعندما أدرك أنها إجابات قد صيغت بطريقة أريد منها تغيير مجرى الحديث، تقدم خطوات إلى الأمام، هَمَّ بمواصلة المسير، جمع ما تبقى من أفكاره المبعثرة، مدفوع بقوة ذاتية لعرض حكايته كاملة، وكأن ما تبقى منها في خلايا ذاكرته البعيدة، يثير حمى الكبت في داخله، ويصيبه بدوار التشاؤم.
قال في خضم نوبة التشاؤم التي أصابته عابرة أن النحس من وجهة نظره قد يَسْبتُ، وقد يكون لدى البعض سبات سناجب تصحو مرة، لكن النحس الذي أصابه، لم يسبت لحظة، ظل يرافقه مذ أحس العيش بعمر مستعار، بعد خروجه من مخزن البيت في عامريته المشؤومة، وقد صاحبه على الطائرة التي أقلته الى بريطانيا، حتى تمنى سقوطها فور الإقلاع، لتكون وسيلة مجبرة على الموت الذي هرب منه.
توقف قليلاً ليسأل: كيف تفسر رفض سلطات الهجرة البريطانية طلب لجوء تقدمت به في شباط من عام ٢٠٠٦ على وفق تفاصيل حكايتي، وتلك النوبات المتكررة من فقدان الوعي التي تهاجمني، أينما أكون، وكوابيس تتكرر في المنام عن أشباه عبد الجليل، وهم يحملون السيوف، في صالة تمتلئ بهم مع ارتفاع صوت الآذان، والتعثر في طريق الهرب، ومساعي التفتيش عن منقذ بين الأموات؟
ألا يوجد تفسير غير النحس؟
هكذا أرى النحس حاكماً بأمره، امتد بحكمه القاسي إلى موضوع اللجوء في هذه الدولة المفتوحة على لاجئي العالم عمداً، وأسهم في صياغة قرار الرفض، وعدم الاقتناع بالقصة التي رويتُ تفاصيلها كلمات كانت منقوشة في أخاديد الوعي قبل التصدع، وهكذا دفعني إلى العزلة حتى عن حميد الصديق الوحيد في غربتي القاتلة، والى الشعور بالكرب، وتشوش التفكير حد الهلوسة:
أصوات تأتيني من السماء، تأمرني القفز من شباك شقة حميد في الطابق الخامس الى الشارع عارياً بعد إضرام النار. وأكثر من ذلك، شاهدت الوالدة في الأسبوع الفائت تسير على الرصيف المقابل، عبرت اليها متجاوزاً الأماكن المخصصة للعبور، ركضت ملهوفاً، وجدتها قد اختفت، وكأنها صورة شبح آت من السماء...هلوسات، أو تهيؤات أوقعتني بالحرج، كانت الأقسى على نفسي والأكثر حرجاً، تلك التي شاهدت فيها الوالدة قبل أيام، مرتدية فستانها الأزرق، واقفة بمواجهة محل لبيع الزهور، أسرعتُ ناحيتها، هممت مسك كتفها، ناديت بصوت عال، (أمي)، فصرخت في وجهيَّ الشاحب سيدة (ما بك؟) فجاء ردها صدمة جعلتني اتجمد في المكان، وأنا الخارج تواً من أتون محكمة استئناف أيدت قرار الهجرة لزوم العودة إلى العراق.
- كيف يمكن العودة إلى بغداد التي تزدهر فيها صناعة الجثث؟.
لا يمكن العودة إليها الآن وأهلها يأكلون بعضهم، ولا في مستقبل قريب أرى فيه الذباحون من أهلها سينزعون ثيابهم الملطخة بدماء الضحايا، يبدلونها بأخرى تلائم الرقص على مسرح الأوهام، ليتعايشوا، بل ليضحكوا على حكام الواقع الجديد.
رفع من وتيرة صوته منفعلاً قال:
- فكرت قتل نفسي في مركز شرطتهم إذا ما ألزموني تنفيذ حكم العودة، وفكرت جعل القتل في الشارع أمام الجمهور، لأثبت لهم ولنفسي ومن عالجني من الأطباء إني لست جباناً.
عند هذا القول المتشنج نزلت الدموع غصباً، أجرى محاولة لإنكار نزولها، كمن يتفادى خدش الرجولة والشك بالقدرة على ارتكاب فعل الموت، الذي يحتاج أعلى درجات الرجولة والتصميم، وهيئته مع ردود أفعاله أثناء الحادثة وما بعدها، لا توحي بوجود هذه الحاجة من قريب أو من بعيد. إنه محض كلام، وهذيانات فصام، أو تبريرات يقولها مع النفس ليمحو عن مشاعره الحس بالعار.
عاد يناجي ذاته:
أية رجولة هذه؟ يوم وقفت متشنجاً مثل لوح من الخشب غير قادر على مسك الفأس، والهجوم على الجناة، كما فعل أبي لمّا ألقى بجسمه متحدياً حامل السيف اللئيم.
أية رجولة، لحظة العجز حتى عن التوسل، وتقبيل الأيادي العفنة، لإنقاذ أعزاء، وتجنيبهم الموت؟
استدار قليلاً وسأل:
- هل مازلت مصراً على عدم الايمان بالنحس؟
لم ينتظر الإجابة، قال:
- إنه نحس من النوع المقرون بحزمة مشاكل وهموم، تبدأ واحدة قبل أن تنتهي ! الأخرى، سلسلة متصلة لا آخر لها ولا أول، سيأتي اليوم الذي يثبت هذا طال الزمن أم قصر.
..........
حميد عراب عملية اللجوء، وصديقاً أحسن استقباله، واستضافته عدة شهور، كان مشغول بالعمل لا يترك يوماً من دون الذهاب نادلاً الى المطعم التركي الوحيد في المدينة، يبدأ الساعة العاشرة في الصباح نشطاً، ينهيه في العاشرة مساءً تعباً قليل النشاط. دورة حياة لم يجد سواها بداً لرسم مستقبله المالي في بريطانيا بلد اللجوء، كل شيء فيها موزون بالمال، لابد من جمعه بأي حال من الاحوال. يفكر في بناء نفسه بهذه الطريقة الوحيدة، وضيفه القادم من بغداد يفكر في رسم ما تبقى من حياته بطريقة أخرى مختلفة. لا مال فيها ولا استقرار، وكذلك لا فرص للزواج وبناء عائلة بديلة لتلك العائلة التي غابت في غفلة من هذا الزمن العاق، ولا حبيبة تخفف من وجع الغربة.
حياة تيه، قرر إختيارها وحده من دون علم أحد، وقرر بدأها في اليوم الأول من الأسبوع، ساعة خروج حميد الى العمل.
كانت الحقيبة التي حملها على الظهر ممتلئة بالحوائج الضرورية فقط، لا مكان فيها لدواء لم يعد نافعاً لعلاج التيه، ولا لتشرد قرر السير على خطاه في الحال.
أخذ ورقة من على الرف القريب، مسك قلماً كان موجوداً في أعلاه، وشرع في كتابة كلمات وداع: (أخي حميد، كنت قريباً إليّ حداً جعلني أحس الأمان طوال فترة البقاء معك، أمان كان قد ضاع مني في بلاد آبائي وأجدادي، ما جعل العيش فيها مستحيلاً، وسط ضباب كثيف لا تعرف فيه القاتل من المقتول. لقد ضاقت بيَّ الدنيا هناك، وضاقت هنا بعد رفض لجوئي، لم يعد لي مجالاً للبقاء في شقتك، ومشاركتك إياي مسؤولية قرار اتخذته بعدم العودة إلى بغداد. سأبقى في بريطانيا، وسأموت فيها، وسأكتب لك إذا ما بقيت على قيد الحياة، وسأتصل حتماً يوم يرخي النحس قبضته عن رقبتني، ويسمح بترك ميدان التشرد هذا الذي إخترته علاجاً لمرض ما منه شفاء... وداعا أخي العزيز).
ترك الورقة بكلماتها المتداخلة بين الرغبة في الشكوى، والسعي إلى الوداع على طاولة يستخدمها حميد لقراءة بريده الاعتيادي، وضع من فوقها نسخة المفاتيح الثانية ملفوفة بوجع الفراق، وقصد محطة الباصات الرئيسية في مدينة مانشستر، يمكن من أرصفتها أخْذ الحافلة بالاتجاه الذي يريد. كان الوقت قريباً من الظهيرة، توجه حال الوصول الى مكتب قطع التذاكر، طلب تذكرة الى مدينة أدنبرة في الشمال الاسكتلندي، وحال الجلوس على الكرسي المخصص في آخر الحافلة، سأل نفسه:
- لماذا أدنبرة بالتحديد ؟
يبدو من سؤاله لذاته، كأن القصد من تحديد الوجهة لم يكن عنده واضحاً، ربما دفعته المكبوتات من دون وعي الى هذه المدينة التي درس في جامعتها والداه مرحلة الدكتوراه، وعاشا فيها ذكريات الشباب، أربع سنوات، طالما تحدثوا عنها، وأحلامهم فيها عند الجلوس حول موائد الشاي، فجاء القصد لا إرادياً كنوع من الجلد النفسي للذات التي توجعها الذكريات، لكنه، وحال دخولها وجدها مجرد مدينة تشبه أخرى، لم تحل مشكلة الكرب والضيق، فأخذ حافلة أخرى واتجه صوب الأقصى من الشمال.
كان الجلوس على كرسي في مقدمة الحافلة، جعله يتصور العالم من حوله سحابة سوداء من ذكريات مشتتة غير متجانسة، لا تكاد تربط بينها رابطة، لبث فيها عدة ساعات يراوح بين اليقظة المفرطة، والغيبوبة الشديدة، صحى منها عند توقف الحافلة لاستراحة المنتصف، وحال توقفها أخذ حقيبته، مدها على ظهره القائم، وسار على طريق فرعي تؤشر علاماته المرورية، اتجاه نحو آخر نقطة في أسكوتلندا على بحر الشمال، كان السير في بداية المشوار سريعاً، صار يتباطأ بالتدريج، وصار التركيز مشتتاً كلما توغل في المشي على جانب الطريق، وكأنه يعيش حالة تخيل خاصة تعطلت فيها باقي الحواس، هكذا استمر الحال خمس ساعات، توقف في دقائقها الأخيرة لا يدري ما يفعل، وقد إرتخت أطرافه السفلى، وإمتقع لون بشرته، ولاحت في كلتا عينيَّه الغائرتين نظرة حقد على ذاته، فانفجرت نفسه غضباً، أفاده حيث لا يدري في البقاء يقظاً حتى ساعة الغباش، وجد نفسه قريباً من انتصاف النهار ممدداً على بساط تحت شجرة بتولا تفترسه الحيرة، تظهر على جسمه آثار المشي من غير هدف واضح، وتلوح في روحه آثار الويلات التي وجهها له النحس عند انتزاع الأسرة مرة واحدة، وجعله إنساناً مسافراً بلا عقل، رمت به دروب الهجرة إلى بلد ناء، ودفعته الحيرة، لمواصلة السير في اتجاه واحد معتقداً في أغلب الظن أن الوصول إلى النقطة الأخيرة في أقصى الشمال ستوقفها تماماً. فكرة الوصول رسخت بين خلايا عقله الحائر بقوة كافية دفعته إلى المواصلة على الرغم من الاحساس بالتعب حد الارهاق، وكثر التقرحات التي بانت على أصابع القدمين.
يوم آخر من المشي، بلغ فيه التعب أشده، وزاد الهزال، انتهى بإستفاقة من غفوة على كرسي سيارة خلفي، تسير بسرعة تزيد قليلاً عن السرعة العليا المسموح بها (٧٠) ميلاً في الساعة، يقودها رجل ستيني، والى جانبه سيدة، توحي بقايا خصل من شعرها نجت من المشيب أنها كانت شقراء جميلة، ويوحي شكلهما معاً، أنهما مزارعان من أبناء المنطقة.
سألهما عن سبب وجوده في السيارة، رد الرجل جازماً:
- كنتَ كالميت على الطريق الخاص بمزرعتنا، أثرتَ استغرابنا، ولما تقربنا منك تبين أنك فاقد الوعي ومحموم، فحملناك معنا أنا آشلي، وهذه زوجتي كاترينا، سنوصلك إلى المستشفى التي تبعد عنا ثلاثين ميلاً.
قطع عليهما الاسترسال بالكلام، قال:
- أعاني في الأصل نوبات إغماء تتكرر، تعودت عليها، لا فائدة من الذهاب الى المستشفى، دائي معروف، لا دواء له، أزمة تنتهي في المعتاد حال الإفاقة.
قال آشلي، إلغاء فكرة الذهاب الى المستشفى ممكن، شرط عدم السير وحيداً بهذه الحالة الصحية الخطيرة، التي بتنا شهوداً على تدهورها، ونتحمل مسؤولية أخلاقية عن السماح بالسير هكذا وحيداً، والحل الأمثل مصاحبتنا إلى البيت القريب من هنا، لأخذ إستراحة بسيطة، ومن بعدها مواصلة السير بالاتجاه المطلوب، كما ان البقاء في هذه المنطقة والنوم فيها ليلاً خطر، لكثر الحيوانات المفترسة التي تتجول حرة بعد منع صيدها في العشرين سنة الأخيرة، فما بال الفقدان التام للوعي.
توقف قليلاً عن الكلام كمن يأخذ فسحة من أجل التفكير ثم أكمل:
- لقد تكفل الحظ بنجاتك هذه المرة.
سأله:
- هل حقاً من يُذبح أهله محظوظ؟.
- وهل يصحو الحظ من سباته المعهود؟.
- ما فائدة الصحوة، وقد قارب المشوار على الانتهاء.
كانت النوبة الأخيرة للاغماء قد أنهكت قواه، وأجهز التعب على القليل المتبقي منها، حالاً دفعه لقبول فكرة آشلي أخذ استراحة، مِثلَ قبوله لفكرة العم صالح يوم الخروج من مستشفى اليرموك والتوجه إلى الحلة، تيقن بالقليل المتبقي من الوعي ان دخوله بيت ريفي معلوم أسهل بكثير من دخول آخر مجهول والليل بات قريباً.
امتد وقت العشاء طويلاً تم خلاله تبادل الحديث عن أصل المأساة ، انتهى من جانبه بفكرة الاستراحة نوماً لهذه الليلة كفرصة للهرب من النفس، والتواري عن الأنظار خجلاً، لساعات بعدها تتم المغادرة ومواصلة السير مشياً من دون هدف مقصود.
نام عميقاً، نوماً امتد سريانه دون حراك طوال الليل، وقليل من الصباح، أنجزه الجسم المتعب لتعويض الفاقد بالقدرة، والحصول على بعض التجديد، وإستسلم له العقل بلا كوابيس حتى النهوض بوقت كان الزوجان يعدان الفطور بنشاط أهل الريف.
نزل من الطابق العلوي ببطيء شديد، صاحبه نحنحة كعادة الضيف من أهل العراق، للتنبيه عن حضوره، ولإزالة حرج يحصل بعض الأحيان، فجاء الرد ترحاباً به ضيفاً جاء من بعيد، واستفساراً عن طبيعة نومه، وتأكيداً على انتظاره على الفطور، أما هو فجاءت إستجابته تقديم الشكر لما قاموا به في الأمس، ولما قدموه من ضيافة، ذكرّته ببقايا عادات كانت سائدة في ربوع العراق.
العراق... هل أنت حقا من العراق؟ سأل آشلي ثم أكمل:
- نأسف على ما أصاب بلدكم.
............
أنتهى الفطور، صعد الى الغرفة، جمع ما تبعثر من حاجياته، وضعها في الحقيبة، واتجه صوب السلم نازلاً بالطريقة ذاتها التي سلكها بعد النهوض.
كان آشلي بالانتظار قال:
- أنا عالم آثار سبق أن زرت بابل في السبعينات، وقرأت الكثير عن حضارتكم العظيمة، وعرفت بعض عاداتكم، أقلها تبقون الضيف في مرابعكم ثلاثة أيام لتسألوه بعد إنقضائها عن حاجته من المجيئ، وما دمت عراقياً سأتعامل معك بمعايير حضارتكم، وضوابطها التي تتعاملون.
أجاب بيأس:
- وهل بقيت سيدي حضارة في العراق؟
مهما يكن من أمر، ستبقى الحضارة التي أعطت البشرية الكثير، وعلمتها أول حروف الكتابة. الآثاريون ليسوا مثل السياسيين، يقتصر اهتمامهم على الحاضر، أو مصالح الحاضر وينكرون أثر الماضي، حضارة وادي الرافدين ستبقى حضارة عظيمة رفدت البشرية بمستلزمات بقائها، وتطورها الذي تنعم به في وقتنا الحاضر.
صمت قليلاً ثمر أكمل:
- جسدك المنهك، بحاجة إلى مزيد من الراحة، يوم آخر لا يغير مجرى التاريخ، إذا لم تكن هناك مواعيد مهمة في الأجندة.
كانت نفسه هي الأخرى متعبة، لا قدرة لها على مقاومة العرض، أو المراوغة في الاجابة، وكأن هناك رغبة داخلية للاستسلام تفوق الإصرار على الذهاب، فجاء السكوت عن الكلام قبولاً، هكذا فسرته كاترينا التي تترقب الموقف عن كثب، سحبت على إثره تلك الحقيبة المركونة على جنب، توجهت بها إلى الغرفة ذاتها المخصصة للضيوف في الطابق الأعلى، قالت بعد النزول: تستطيع أخذ حريتك في هذا البيت.
شرب القهوة عند هذه العائلة، وغالب العوائل البريطانية بعد الفطور شائع، يقترب من الالزام، أعدها آشلي بدعوى الخبرة الجيدة في إعدادها، وأثناء الاعداد خطط الى جولة في المزرعة التي يحسبها وكاترينا عالمهما الخاص، يقضيان جل وقتهما في ربوعها، بعد أن تقاعدا عن العمل في الحفريات، والتنقيب الآثاري.
أخذ الفناجين الثلاثة، سار الى ركن الصالة المطل على حديقة تحيط بها الورود، قال هو المكان المناسب لتناول القهوة، أخذه الحديث إلى جملة أعمال سابقة، وإلى ولد وحيد لهما، ترك المزرعة للعيش في أدنبرة، ومع آخر رشفة منها، استأذن الخروج في جولة شملت كل أرجائها:
أكواخ لتربية الدجاج، حظائر أغنام، حقول بطاطا، وأخرى للذرة، أشعرته وهو الماشي بين أشجارها وسواقي المياه، وكأنه في دار سينما مفتوحة، يشاهد فيلماً عن الطبيعة الخلابة، وأشعرته أيضاً وهو يستمع إلى شروحات آشلي المفصلة عن كل نبات فيها وشجرة، كمن يستمع إلى أستاذ متمرس في علوم النبات.
ثلاث ساعات هي الجولة الزراعية، انتهت فيها كل الشروح عن المزرعة بقدر من التفصيل، إلتفت اليه قريباً من نهايتها، قال:
- أرجو أن لا تعتبره فضولاً، أو تدخلاً في الخصوصيات. ماهي قضية تلك الغيبوبة التي وجدناك غاطاً بها قريباً من الموت؟.
- هل أنت مريض أم جاءتك عرضاً ؟.
- كيف لنا مساعدتك؟
كانت الأحداث التي حصلت بتفاصيلها الدقيقة كتاب مفتوح، راح يتصفح بعض أوراقه أمام هذا الرجل الآثاري ممتهن الزراعة، إنتهى بما يمكن تذكره قبل فقدان الوعي على طريق المزرعة بالأمس، ومع كل صفحة يتصفحها تسوء حالته النفسية، وتنهمر الدموع مثل طفل رضيع لا يقوى على ضبطها، حتى حلول الصفحة الأخيرة، راح يطويها في طريق العودة الى البيت، ممراً مرصوفاً بأشجار البلوط كونت سياجاً للمزرعة من جهتها الغربية، وقد أصفر وجهه، وتشنجت خاصرته، تدخل عندها آشلي، شد على يده بقوة، وطلب منه الجلوس لأخذ الأنفاس، وإرخاء عضلاته المشدودة، ثم قال:
- آنا آسف، لم أسمع بمثل هذا في حياتي الطويلة.
- من أين جاء هؤلاء البشر؟
- لقد أعادونا إلى القرون الوسطى، إلى محاكم التفتيش.
- إن أعمالهم تنبئ بعودة الشر إلى هذا العالم الحالم بالأمان.
نظر اليه في آخر لحظات استغرابه سأله بألم:
- أين هو الأمان؟.
------ انتهت-----
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
1495 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع