جراح الغابة -الجزء الثاني عشر
مناجاة أو حوار حزين بين العمة في محاولتها التهرب من جملة أسئلة لم تجد لها جواباً، وآهات ظاهرة تحاول التخفيف من هولها، وبينه الفاشل في تحقيق الرغبة اللا شعورية في اللحاق بالأهل موتاً للتخلص من العذاب.
دع عنك هذه الرغبات، الحرام، قالت العمة، وأكملت إن كل شيء من الله سبحانه وتعالى، ولابد من تقبله دون اعتراض، فأجابها بإمعان:
- لكن الله لا يقبل أعمال قتل ترتكب تحت مظلة اسمه، وبدعوى شريعته. ردت بحنان:
- هذا أكيد، لا تتعب نفسك، سيأتي الطبيب الموجود في الجوار ليفحصك، ومن بعدها ستعود إلى النوم.
فحص الطبيب، قلبه النابض بسرعة أولاً، سحب السماعة من جيب سترته البيضاء الملوثة ببقع دم لم تتخثر بعد، وضعها على صدره من جهة اليسار، ووضع أصابع يده اليمين على الرسغ للتأكد من وقع النبض، ومقدار الوعي، طالبه التوقف عن الكلام، قال ما زلت متعباً، تحتاج الى قسط من الراحة، وتأكيداً لصحة تشخيصه، غرس ابرة مورفين في الكانولة، أدخلته في نوبة نوم عميق، لم يصح منها إلا في اليوم الثاني، ليجد على طرف سريره العم صالح جالساً مع العمة نسرين يتكلمان على ضرورة الاستفسار من الطبيب، وكأنهما يبيّتان أمراً يريدان إتمامه على عجل، لكن الراقد على السرير وإن استعاد وعيه، لا يعير الأمر اهتماماً، لأنه هزيل، مشوش، لا قدرة له على ترتيب الأفكار، ولم يفارقه الطبيب الممارس بخبرته الجيدة في التعامل مع حالات الصدمة النفسية، إذ أعاد فحصه بالطريقة السابقة، وثبْتَ تحسن الحال، ثم أعطى موافقته على الخروج من المستشفى واضعاً شرطه الوحيد مراجعة فورية لطبيب نفسي اختصاصي، بسبب التعرض إلى صدمة شديدة قد تترك آثاراً سلبية إذا لم تعالج على الفور، شارحاً أبعادها بقدر مختصر الى الواقفين جنب السرير، ختم الشرح بمصطلح متداول في الطب النفسي قال عنه "PTSD".
تبين أن المصطلح غريب على العم صالح، فسأل طالباً التوضيح، ومدى الخطورة، فكان الجواب كذلك مختصراً: أنه يعني باللغة العربية اضطرابات ما بعد الصدمة، يحتاج الذي يعانيها علاجاً سريعاً، قد يكون طويل الأمد، لكنه ليس خطيراً من الناحية العضوية، وأضاف أن غالبية العراقيين مصابون به بدرجات متفاوتة، نتيجة العيش في ظروف الشد والتوتر واستمرار الحروب.
كان وقع التفسير مريحاً بعض الشيء، استحق عليه الطبيب الشاب كل الشكر، وكان بصوت عال انتبه اليه ذلك الذي ينتظر إجراء عملية القرحة المعوية صورياً، عندها ترك السرير، جمع الحوائج سريعاً قال لنذهب الآن الى الحلة، لم يبق لنا في بغداد ما يلزم على البقاء، ثم إن البقاء هنا خطر على الجميع، لاسيما وأجهزة الدولة في الظروف السائدة غير قادرة على ضمان الحماية.
لم يعر هو اهتماماً للقرار، تصوره بلى معنى، لأنه لم يدرك طبيعة الخطر، كيف يدركه ونصف العقل كئيب، والنصف الآخر عاطل بفعل المخدر؟ لذا لم يبد أية ردود فعل، باستثناء بعض أسئلة وجهها الى الذات تنم عن مقدار شديد من الحزن:
لِمَ كل هذا الاهتمام والرغبة بالموت مفتوحة على مصاريعها من دون حدود؟
لماذا يترك بغداد شخصاً مطلوباً إلى الأمير، وأخذ طريق لا تقل المجازفة في عبوره عن البقاء بالمستشفى، ألم يعلموا أنه يمر عبر اللطيفية، منطقة تكثر في محيطها عمليات القتل والتسليب والاغتيال على وجه التحديد؟
سيارة واحدة لا تكفي، قال العم صالح، لابد من ثلاث، يركب إحداها سامر والعمة، وأخرى له وابن أخيه، والثالثة لشباب من أبناء العشيرة، تطوعوا للحضور تأميناً للحماية أثناء السير على الطريق، أكد وجوب الوصول إلى بيت الجد في محلة القاضية قرب ثانوية الحلة للبنين بسلام، حيث يتجمع الأقرباء والأصدقاء وأبناء المحلة في انتظار الابن المفجوع، منقسمة مشاعرهم بين التعزية بالفقدان، والتحريض على الانتقام بطريقة حاقدة، وبين الرغبة بالتهنئة للنجاة بأعجوبة.
تنبه العم صالح الى حاله وتقسيم السيارات ومخاطر الطريق، تأوه في داخله، قال لنفسه بغية إقناعها وتخفيف أثر المجازفة: هكذا هي الحياة في هذا الزمان منقسمة فيها المشاعر والأشياء، وهكذا هو حال الوصول إلى الحلة عالم جديد لابن أخيه لم يألفه، إذ لم يبقَ فيه ليلتين متواصلتين من قبل، تذكر ان أخيه الدكتور كان طوال حياته مشغولاً بالبحث والتدريس، يفضل المجيء الى الحلة فقط أيام الجمع صباحاً، والعودة منها الى بغداد آخر النهار، وإذا ما اضطر إلى المبيت، فسيكون وقته مخصصاً جله لوالديه، حتى إنه لم يشبع من وجوده أخاً، قريباً الى قلبه، درسا معاً وكبرا معاً في نفس البيت حتى افتراقهم إبان الشباب وسني الدراسة في الخارج وما بعدها الزواج، ولمزيد من مفردات الاقناع آمن بالوضع الجديد، وآمن أنه مفروضاً لا بديل عنه، ولا خيار في مجاله، إلا الصبر، أما سامر فقد استمر يأسه من الحياة، واستمر مزاجه كئيباً يفقده الاستمتاع بأي نشاط، بل ويدفع به الاستمرار في البكاء، والاستسلام الى أفكار تسلطية تزيد من صعوبة الاحساس بالهدوء، دون دواء لمتابعة حياة يحسها تافهة هذا اليوم، مثلما كانت تافهة بالأمس، وباللحظة التي وجد نفسه فيها عاجزاً عن إنقاذ الأهل، ولو بالصراخ، كأضعف الايمان، عاود سؤال الذات:
- كيف لا يمكن أن تكون تافهة وهو المقصر فيها، وهو السبب في مصيبتها؟
- ألم يكن هو الصديق القديم لعبد الجليل؟. وعاود الإجابة من عنده إمعاناً بلوم الذات:
- نعم مقصر، بسبب عدم تنفيذ طلب عبد الجليل المساعدة على ضرب المهندس أسامة، شارب الخمر الذي حكم عليه بالضرب، قبل امتهانه الامارة، وتعلمه فن القتل بالسيف المشرع لإقامة دولة الجهاد الاسلامية.
- نعم مقصر، لاعتياد افتعال الجدال معه، وبحضوره حول التزامات الصلاة، خمس أوقات ليثير في داخله التوتر والانفعال الذي كان يتلذذ بحصوله.
أخذ وقتاً قليلاً للمراجعة وعاد الى وضع المناجاة قائلاً: إنها حياة تافهة بالفعل والمستقبل فيها مظلم بلا أهل اعتادوا وحدهم تقديم المساعدة... لا شيء يستحق البقاء.
..........
كان الجد الذي أصر على الخروج من مستشفاه وقد اهتصره المرض، ينتظر على كرسي الخيزران جنب الباب الخارجية لاستقبال حفيده العزيز، منذ أن أخبروه مغادرتهم بغداد حتى بلغ منه الأسى منتهاه، حالته الصحية لا تطمئن، ووجهه الشاحب يثير الشفقة، ووقع مسبحته الكهرب يتباطأ، نهوضه من كرسيه إلى السيارة التي توقفت في الباب، واجتيازه الخطوات الأربع من حافتها إلى الرصيف بصعوبة، تشير إلى قرب توديعه الحياة، وكذلك إرتخاء أذرعه التي لا تقوى على العناق كما كانت أيام زمان، نظرته بعينين مظلمتين محزونتين، وكلماته التي يصعب نسيانها بنصف العقل الواعي (تعال يا غالي يا إبن الغالي) جاءت من أب يشتهي الالتحاق بعالم ذهب إليه الابن الغالي مكرهاً.
لماذا إذن البقاء؟.
هل يستحق البقاء للانتقام من عبد الجليل؟.
وهل هناك قدرة في الأصل على الانتقام؟.
أسئلة تأملها سامر لم يجد لها جواباً في عيادة الطبيب النفساني بالحلة، فَصُدِمَ من العجز عن إعطاء الجواب كما يريد، وصُدِمَ أكثر من رأي الطبيب صعوبة تفريغ العقل، وإعادة نصفه العاطل إلى سابق عهده نشطاً، مرحاً متفائلاً بالحياة، بوقت قصير، واعترافه أن الصدمة الحاصلة أقوى من دواء التربتزول الذي بدأ به علاجاً للاكتئاب، ومن ثم الليثيوم، بعد التأكد من محاولة انتحار جرت بقطع شريان اليد اليسرى.
ساءت الحالة، وزاد على سوئها الريبة من المكان الذي أحبه الوالد، وعاش هو في ربوعه الطفولة، وجزءاً من الشباب، وحكى عن بابله، وثاني أيام العيد في عمران بن علي المجاور لقرية الجمجمة، والنبي أيوب جنوب المدينة، وشارع الكورنيش الممتد بين الجسرين والسوق المسقف في حكايات قبل النوم وفي جلسات الأسرة على الطعام، لم تنعش الذاكرة وتقوي الأمل، عند المرور عليها تلبية لرغبة الطبيب المعالج، ولم تزل آثار الصدمة، وكدماتها من العقل المعطوب، حتى غلب على وقع الحياة روتين الاستفاقة من النوم ثم العودة إليه، على نحو متعاقب طوال الليل والنهار، فخارت بسببه القوى، وبات الذهاب الى الحمام بحاجة إلى مساعد يسند الجسم، الذي يترنح من شدة الهزال، وأزداد الشعور بالذنب، مع انشغال أهل البيت من الأعمام والعمة نسرين وتعطل مصالحهم، وطلب بعضهم إجازات طويلة من دوائرهم ليتناوبوا تقديم المساعدة للمريض العاجز، جميعهم من دون استثناء، بضمنهم الجد الذي امتنع عن الذهاب الى المقهى، حيث اعتاد الذهاب إليه يومياً لملاقاة الأصدقاء، استعاض عنها بأخذ دور بسيط لتقديم المساعدة، وإصدار التوجيهات، والوقوف أثناء الفراغ أمام شباك غرفته المفتوح على الحديقة الخارجية، واضعاً رأسه بين كفيه ليغرق بنوبة بكاء مؤلمة، مخفياً صوت نشيجه كي لا يسمعه المريض الواهن، فيزداد حزناً واكتئاباً.
******
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/56676-2022-12-09-12-36-36.html
450 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع