منظر من شمال بريطاينا (ترافل انغلاند)
"الحياة الآتية" للروائي بنجامن مايرز دعوة إلى الإصغاء لنداء البعيد
الأندبيندت عربية/انطوان جوكي:الحياة تعطى لنا، لكن هل نستفيد منها كما يجب؟ هل يمكننا أن ننتشل أنفسنا من محيطنا الاجتماعي ومن قيودنا كي نبلغ مفهومنا الخاص للحياة؟ هل نملك الحرية في اختيار قدرنا؟ وهل سنكون قادرين على تحمل كلفة ذلك؟ إنها الأسئلة التي تعبر رواية الشاعر والكاتب البريطاني بنجامن مايرز "الحياة الآتية"، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "سوي"، وتقودنا من خلال تصويرها بعمق ورقة نادرة عملية ولادة جديدة مزدوجة إلى التأمل في الحياة وقيمها الحقيقية.
لطرح الأسئلة المذكورة ومحاولة الإجابة عنها، يختار مايرز منطقة يوركشاير، في شمال إنجلترا، مسرحاً لقصته، ويلجأ إلى شخصيتين محببتين. لدينا أولاً روبرت، وهو مراهق في سن السادسة عشرة، انطوائي إلى حد ما، يفضل على المنهج الدراسي المتاح له ملذات الحلم والتأمل في أحضان الطبيعة. ولأنه يخشى المستقبل الموعود به، أي العمل في مناجم الفحم المحيطة ببلدته، مثل والده وأسلافه، يغادر منزل والديه في نهاية العام الدراسي وينطلق في رحلة على قدميه غايتها ملء عينيه بالمناظر الطبيعية الخضراء التي تعج بها منطقة يوركشاير، حيث يستسلم للتأمل والانتشاء "أمام هذا الكم من الجمال".
الرواية بالأصل الإنجليزي (أمازون)
ومنذ انطلاقتها نشعر بأن رحلة روبرت ستكون بلا عودة. ولدى مرافقتنا إياه نكتشف تدريجاً أفكار هذا الشاب الرقيق والمتعطش للحياة، مخاوفه، أفراحه، ونرى كيف أنه سيعي، أثناء تجواله، شخصيته الخاصة وما يغلي داخله. نحن بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، والحرمان يلامس بقسوة معظم أبناء وطنه، لكن بينما يبدو من الصعب تصور مستقبل مشرق في مدن إنجلترا وقراها، لا يبخل الربيع داخل ريفها الشمالي بالزهور والحشرات والخضرة الوافرة التي ستفتن بطلنا.
عالم المزارع
هكذا نراه يسير سعيداً إلى الأمام، متوقفاً بانتظام داخل المزارع لعرض خدماته مقابل وجبة طعام ومكان يقضي فيه الليل، إلى أن تقوده خطواته يوماً أمام منزل معزول ومخفي داخل العشب البري، تقطنه... ساحرة؟ نعم، لكن ساحرة خيرة تدعى دولسي، وهي امرأة خمسينية بوهيمية مثقفة ومستقلة تعيش وحدها، لكن سهلة البلوغ، على رغم لغتها الفظة أحياناً. امرأة ذات شخصية قوية غير امتثالية، تجرأت في شبابها على مقاومة قيود بيئتها الاجتماعية، ولا تلبث أن تحتضن روبرت وتلقنه أساسات آداب العشرة، بموازاة تسمينها إياه بأطباقها اللذيذة والمتنوعة، في الوقت الذي كان البريطانيون يعيشون على تذاكر الحصص التموينية. أكثر من ذلك، ستعمد إلى تغذيته أيضاً بالقراءات، فيطالع بفضلها دواوين والت ويتمان، رواية "عشيق الليدي تشاترلي" لديفيد لورانس، قصائد شكسبير... موقظة داخله حس الجرأة والحرية.
وحتى في مواجهة التقسيم الطبقي لمجتمعهما، وفي ضرورة إتمام دراسته ستساعد هذه المرأة الثرية وغريبة الأطوار روبرت القروي، الذي في المقابل سيقدم لها خدمات صغيرة، كاقتلاع الدغل المحيط بمنزلها، وإعادة ترميم الكوخ التابع له. وأثناء فرزه محتويات هذا الكوخ المتفرقة يكتشف هذا الفتى بالصدفة آثار ماضي دولسي، فيساعدها على نبشه، ثم على اكتشاف كنز مدفون في أرضيته لا يلبث أن يصالحها مع قصة حب ضائع. حب تبادلته مع شاعرة ألمانية شابة بلغت شهرة كبيرة في إنجلترا، ثم أقدمت على الانتحار غرقاً في البحر لعدم تحملها جرائم أبناء وطنها، لكن ليس من دون أن تترك لحبيبتها تحت أرض الكوخ الخشبية مجموعة شعرية أخيرة ومجهولة لها.
أبعاد سيكولوجية
كثافة لغة مايرز في هذه الرواية الرائعة يمكن أن تشكل في صفحاتها الأولى مصدر إحباط للقراء المعتادين على مطالعة الروايات السهلة، لكن يكفي بذل قليل من الجهد كي يعمل سحر أسلوبه علينا ويتمكن من خلق لقاء سيكولوجي حقيقي وعميق بيننا وبين شخصيتيه، فيتجلى روبرت لنا كمراهق مؤثر للغاية، ونكتشف، من خلال رحلته المليئة بالانفعالات، حميميته ونظرته إلى العالم، ونفتن بكفاحه لتشييد نفسه خلال تلك الفترة الزمنية الصعبة، وبتعطشه للمغامرة والحياة، ورغبته في السعادة على رغم كل الصعاب.
الروائي البريطاني بنجامان مايرز (صفحة الكاتب - فيسبوك)
ومن جهتها، تجذبنا دولسي الناضجة والملغزة بصراحتها المبلبلة ومعرفتها الكبيرة بفن الطهو والأدب، وبرغبتها في نقل هذه المعرفة. تجذبنا خصوصاً تلك الصداقة الجميلة التي ستنشأ بينها وبين روبرت. فمع أن كل شيء يفرقهما يتمكنان من تشييد علاقة غنية يكسب روبرت من خلالها معارف وآفاقاً جديدة، بينما تستعيد دولسي حساسية وشهية على الحياة كانت قد فقدتهما.
وبالنتيجة، وبفضل أسلوبها المشحون شعرياً تمنحنا هذه الرواية لوحة غنية بانفعالات جمة تتراوح بين فرح وحزن، أمل ويأس. وفي هذا السياق تردنا إلى الأشياء المهمة في الحياة، تلك التي قد تبدو عادية في ظاهرها لكنها الأثمن في العمق، مثل الصداقة والشعر والطبيعة التي تحيط بنا ونمعن في تدميرها. طبيعة يتمكن مايرز ببراعة من إحيائها تحت أنظارنا، جاعلاً إياها تتحرك إلى الأمام أو إلى الوراء، على مدار الفصول، مثل حركة انكسار الموج على الشاطئ.
"الحياة الآتية" هي إذاً رواية مكتوبة بحبر ملون ذي فضائل مهدئة -مثل الشاي الذي تحتسيه دولسي- على رغم تشاؤم صاحبها البصير في شأن زمننا. رواية تحثنا على تذوق التبادل المرهف بين شخصيتين من جيلين مختلفين، على التهام الكتب في الليل تحت ضوء مصباح جيب، على التجوال في الطبيعة وتأمل كائناتها المدهشة، وعلى سلوك الطرقات الجانبية بدلاً من تلك المعتادة التي يسلكها الجميع. رواية حول حياتين مختلفتين كلياً الواحدة عن الأخرى، لكنهما تحملان رسالة واحدة مفادها أنه علينا أحياناً، للمضي قدماً، تطويع قدرنا بأيدينا، والاستفادة مما ترصده الحياة لنا، والتخلص من أحكامنا المسبقة.
باختصار، نص مساري آسر نتلقاه كدعوة تلخصها دولسي بقولها لروبرت في لحظة ما "اجعل من الشعر والموسيقى والخمر والرومنطيقية بوصلة لك. واترك للحرية الكلمة الأخيرة"، وفي لحظة أخرى "العاطفي ليس مجرد قلبين نازفين وورد أحمر. إنه الانفعال والحرية. المغامرة والطبيعة ونداء البعيد. صخب البحر وقرقعة هطول المطر على الخيمة. صقر يحوم فوق مرج. الاستيقاظ صباحاً، سؤال أنفسنا عما يخبئه النهار لنا، والانطلاق لاكتشافه".
982 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع