جراح الغابة: الجزء الحادي عشر/ د.سعد العبيدي
جثث المغدورين مشوهة أعضاؤها تلقى على الرصيف، على حافات الطريق القديم فلوجة – بغداد، مشهدٌ يصاحبه مشهداً لهجوم على مركز الشرطة القريب في الساعة الأخيرة من ساعات منع التجوال، وآخراً لقتل جنود السيطرة العسكرية القريبة من محطة الوقود المقابلة في وضح النهار، وجدت جثثهم قد تفحمت حرقاً في المكان، ووجد في الجوار بعض المارة مرعوبين، ووجد أيضاً طبيب تم اغتياله أمام منزله في الشارع الفرعي المجاور لشارع العمل الشعبي، وجوقة من الشباب المراهقين يتكلمون عن مشاركتهم حفل إبادة مقننة لعائلة مسيحية لم تمتثل بناتها لأوامر لبس الحجاب... مشهدٌ لم يكتمل ولم يسدل الستار عن آخر صفحاته، إذ شوهد مسلحون غير معروفة أصولهم يجوبون شوارعها قبل وبعد حلول منع التجوال، وضعوا عبوات ناسفة جوار محال بقالة مغلقة، وشوهدت عوائل ترزم ما خف من حاجياتها تضعها في سيارات أبقت محاركها تدور، كأنها تستعجل مغادرة هذه المدينة العامرية التي سكنها من يوم نشأتها خليط من الأقوام، والأديان بغالبية عربية سنية، وحوّلَ السكن فيها هؤلاء الغزاة الى سكن انتقائي خاضع الـى التطهير، لم تحول دون تحقيقه سيارات الهمر العسكرية الأمريكية وهي تتجول في شوارعها المليئة بالحفر ليلاً مع النهار، ولم تحول أيضاً عن تنفيذ توجهات البعض بإلقاء أوراق على بيوت محددة، تطالب سكنتها من المسيحيين دفع الجزية، وتطالب الشيعة المغادرة على الفور، أو تقبل العقاب موتاً برمانة يدوية ترمى من خلف السياج.
كان المشهد مثيراً للتوتر، وكان الناس جميعاً متوجسون خائفون، وكان صبر الأسرة قد نفد.
أي عالم هذا؟
من أين جاءوا، وإلى أين سيذهبون؟
ألم يسمعوا عن سكان هذه القرية النائية في الغابة وعن أهلها، وطبيعتهم المسالمة، ومعتقداتهم التي حافظوا عليها مئات السنين؟
ألم يفهموا أن أحداً من الاسكوتلنديين، وباقي البريطانيين في العصر الحديث، لم يعترض على جماعة صغيرة بفلسفتها الغريبة، وعلاقتها الأغرب مع الطبيعة، وابتعاد اهلها عن مستلزمات الحضارة؟
ألم يلحظوا أن الدولة هنا لم تقف بالضد من أفكارهم القديمة، ونسبتهم من إجمالي السكان لا تذكر، والجهات الرسمية في دولتنا هناك تنحاز بالضد من أفكار منطقية، وان آمن بها نصف السكان؟
أين نحن من هؤلاء القوم الذين وفدوا مهاجرين من وسط ألمانيا، ليسكنوا هذه الغابة شمال أسكوتلندا، يبنون فيها بيوت قريتهم من حجر جبالها بترتيب واحد، مضى عليها مئات السنين، دون أن تهرم، بنوها متناسقة يدخلها النور والهواء والاطمئنان بمقدار، ويخرج أهلها للعمل بالزراعة والرعي صباحاً، ويعودون إليها آخر النهار بمقدار، لا أحد يسألهم في طريق العودة عن أسمائهم وطوائفهم، وإلى أي كتلة ينتمون.
لم العامرية؟
ولم أصبحت وكأنها خط المواجهة الأول؟
ولم يزداد الوضع فيها تأزماً، وأسرها العريقة من الطائفتين الرئيسيتين ومن المسيحيين، أو بقايا المسيحيين تُهاجر أو تُهجّر، والباقون منهم، يسدون نوافذ بيوتهم قبل المغيب، يطفئون أنوارها الا من كانت له حاجة ماسة إلى النور؟
........
في هذا المشهد يترك الدكتور عامر سيارته الخاصة، يستقل السيارات العامة "النفرات" ذهاباً الى الجامعة وأثناء المجيء، ويخفت بالتدريج حديثه عن الغد الأفضل والديمقراطية، ليحل محله الحذر من نقاط السيطرة الوهمية، ومن ملتحين مسلحين يتجولون في الشوارع الفرعية، وفيه أيضاً مبادرة سجلت للدكتورة سامرة بارتداء الحجاب الذي وقفت بالضد من ارتدائه عند قدومها من الحلة طالبة في الجامعة بداية السبعينات، والى حلول هذا اليوم المشؤوم، مبررة ارتداءه نوعاً من التقية التي تتطلبها الحاجة الى الأمان، وفي مبادرتها فرضته أيضاً على البنات قسراً وفقاً لمفهوم التقية أيضا ومن دون نقاش، قالت وهي في الطريق الى فرضه، لقد شاهدت شباباً لا يتكلمون اللهجة العراقية يتواجدون جماعات في الشوارع يحذرون السافرات مرة واحدة فقط يطلبون ارتداء الحجاب الشرعي، وبعكسه الموت بطعنة سكين، لا يستثنون من تحذيراتهم المستمرة حتى المسيحيات في طريقهن الى مغادرة الحي اللعين، وأضافت ان هذا يجري على مرأى من ضباط الشرطة والجيش، وهم يتنقلون بلباسهم المدني بلا سلاح، ولا هويات رسمية.
مشهدٌ صار القتل فيه مباحاً ومشروعاً، تتبناه أطراف معروفة، وأخرى مجهولة تعمل في الظلام، وثالثة مشاركة بالعملية السياسية، قدمٌ لها في بلاط الحكومة، وثانية خارجها تمتد سراً إلى رواق الجماعات الإرهابية، لا يسلم منه قتلاً مبرمجاً من كان اسمه عمراً، وقد مر في هذه المنطقة التي أضحت لا تؤازر السائرين على طريق سلكه عمر، أو من كان في الكنية علياً ومشى في طرقها التي لم يعد أحد من أصحابها قادراً على الاجهار بمشايعة آل بيت علي، أو كان المرور صدفة في مكان أوكل فيه الدور لقتل عمر وعلي معاً، وقبض الثمن من جهات لا يعرفها أحد من آل علي وعمر.
في ذاك اليوم المشؤوم زاد المشهد تعقيداً، حتى صار من الصعوبة لمن يستقل سيارة في طريق العودة الى المنطقة، التخلص من الهوية التي تحوي إشارة لاسم علي أو عمر، وهي تمر بأكثر من مكان مختص بالتفتيش عن أصل الأسماء، وصار من الصعب أيضاً إخفاء الامتداد الطائفي الذي لا يتوافق مع الجار، وفيه آمن الذين يرجعون بإصولهم إلى الجنوب الشيعي حتمية ترك المنطقة قسراً وشرعوا بتركها، وآمن مثلهم الأشقاء من شمال الوسط السني، وغربه وتركوا مدن الشعلة، والشعب كذلك قسراً، أما الغزالية المنطقة القريبة من العامرية فقد انقسمت بقدرة قادر على غزالية شيعية وأخرى سنية، وتوجه ساكنوها من الضباط الأصدقاء الى تبادل البيوت تبعاً لأصولهم المذهبية التي تنسجم والمنطقة المؤشرة طائفياً... توجهٌ لتنفيذ اتفاقات تهجير اثني متبادل غير مكتوبة، واتفاقات أخرى لقتل الاساتذة والأطباء والمهندسين والطيارين، ومن أسهم في صنع إبرة بندقية في معامل التصنيع العسكري، كذلك غير مكتوبة، وغير مكتوب أيضاً ضرورة المسايرة الآمنة للوضع الجديد، ووجوب الحذر، والتعتيم ليلاً، والحاح أهل البيت على ترك الحي والعمل والدراسة والمنطقة والعراق، نوع من الالحاح في الكلام، وتكرار على مسامع الدكتور عامر من دون توقف ليلاً وفي النهار، رضخ اليه أخيراً وقرر الانتقال بالأسرة من المنطقة العامرية في القريب العاجل، واتجه للتفتيش عن بيت، وجده في الجادرية قريباً من جامعة بغداد، دفع مقدمة إيجار له مدة سنة، أصدر على إثر وجوده أمراً بالتهيؤ إلى الانتقال، لكن أوانه قد فات، فالذباح عبد الجليل واتباعه يقفون بالمرصاد، يشهرون أسلحتهم، ينحرون أربع من أفرادها وخامسهم عمر ذو الحظ العاثر، قبل يوم من الانتقال.
.......
تغلق الغابة على نفسها أبواب الصمت المعهود، فيغرقُ الجالس في مواجع البوح بالمكبوت، ويمتد ببصره ماسحاً كل المجالات الموجودة بين جذوع الأشجار، يفتش عن مكان يخبئ فيه الألم، لا تنفعه نسمات الريح القادمة من البحر، ولا قطرات الماء المتساقطة من زخة مطر انتهت قبل ساعات، حلم العودة إلى بغداد يبدده فزع الجسد الذي أرهقته مخرجات البوح، ويدثره رفض الطلب المقدم للإقامة على التراب البريطاني، ومشاعر الخيبة من إكمال مشروع الانتقام.
ينحني في جلسته، كمن يكتب على صفحات دفتر مدرسي همس كلماتٍ تُرهق النفس، وتزيد الأوجاع، يسأل الرب عن حكمة ما جرى له ولأسرته، فتنزل دمعة ألم على خده الناشف، تجسد البوح سبيلاً للتخفيف واعترافاً بانتصار الجناة، وإن كان نصراً ناقصاً، يحسبه غصة في حلق عبد الجليل، وعورة مكشوفة في سيفه المعقوف... انتصارٌ، أو نصف انتصار سُجلت وقائعه بذبح الأسرة، واختفاء المطلوب ذبحه في الأصل، وتناول فطورهم الذي حسبوه أن يكون الأخير، توج بإطلاق الرصاص في الهواء، كما هي العادة في كل انتصار مأزوم، سار على سجاياه القوم منذ معارك القادسية التي أرادوها ثانية عام (١٩٨٠) الى الكويت التي سعوا الى ضمها محافظة جديدة عام (١٩٩٠)، وامتدادات آثارها الكارثية حتى سقوط بغداد عام (٢٠٠٣)، فعلوها هذه المرة بجرأة، وتحد غير مسبوق، لأن المغلوب فيها عائلة أرادت العيش خارج الزمن المألوف.
كان الاحتفال به نصراً، مثل كل الانتصارات التي اعتاد عليها القوم، يكتمل فقط بالاستحواذ على الموجود غنائم حرب تعزز الانتصار، الغنائم هنا وفي هذه الحال ما خف وزنه وغلى ثمنه، لا استثناءات هنا، ولا شكوك في الغنائم من الناحية الشرعية، ففتاوى المنتصرين جاهزة على أي حال، وغرف البيت مُغرية لإتمام الاحتفال، عامرة بالمدخرات، حاولت الدكتورة تسهيل عملية الانتصار وربما التشبث بأمل مثل هواء في شبك عندما عرضت قبل قطع أنفاسها، ذهباً ونقوداً لمن يعتق البنات، ضحكوا على عرضها، وانتشروا سريعاً لجمع المعروض أساساً لتمويل مشروع الدولة الإسلامية المأمول، أو سداد مكافآتهم لعمل جهادي قاموا به إمعانا بقتل المرتدين، ومع هذا الزهو في الانتصار تجنبوا الاشتباك مع الدورية الآلية القادمة مشاركة بين الجيشين الأمريكي، وبين العراقي الجديد، التي اجتذبها صوت الرصاص المسموع في عموم المنطقة، وسط هدوء يحصل في العادة بعد الانتهاء من تناول الفطور، لقد تحسبوا لهذا الاجتناب عندما كلفوا عنصرين من عناصرهما لأغراض المراقبة، وتأمين الطرق المؤدية الى البيت، وهما من استشعر قدوم الدورية والتحرك سريعاً بسيارة الباترول، واستعجال إيقافها جنب البيت المقصود ثم اطلاق صوت التنبيه المتفق على نغمته الخاصة بطريقة أخرجت الأربعة على عجل، صعدوا اليها بسرعة غير مبالين لأية تبعات، ثم تحركوا بها إلى مخبأهم في الجانب القريب من شارع المطار، كأنهم فص ملح ذاب كما يقول المثل العراقي المشهور، يتبين من سرعة الصعود أنهم لا يريدون فعلاً الاشتباك بهذه الدورية المختلطة، ويتبين من ردود فعل أفراد الدورية أنها لا تريد متابعتهم بعد أن تركوا المكان، وانها قد اكتفت بتحديد مصدر الاطلاق، والاقتراب من البيت بحذر شديد، وكذلك فعلت ثلاث طائرات سمتية "هليكوبتر" أخذت وضع الحوم فوقه مكاناً رصدته بدقة، وكأنها تطير لتأمين الحماية اللازمة لأفراد الدورية، وعجلات الهمر بمنطقة صنفت حمراء، بحساب العسكر الامريكي الذي يقود القتال، ولتبادل اتصالات الدلالة، وتلقي الأوامر والتوجيهات، من مركز القيادة الموجود في المطار، وللتصوير القريب ومتابعة التطورات.
حامت تلك الطائرات في المنطقة لدقائق زادت عن الخمسة، ترجل من بعدها الجنود عن سيارات الهمر الست، طوق بعضهم البيت المقصود، ودخل آخرون إلى فنائه من الباب المفتوح، يسبقهم صخب الاتصال بالأجهزة اللاسلكية عربياً وإنجليزياً، بقدر بات يسمع بوضوح من الملقى على السطح هارباً من الموت، راقداً على بلاط السطح، وقد استبد به اليأس، وأوقد شقاء الوحدة في داخله ناراً، تكفي لتفجيره من شدة الغليان.
........
كان قد تمدد على بلاط، تغطيه أتربة من بقايا غبار يتصاعد في أجواء بغداد عدة مرات في الأسبوع، وقد ولد في داخله ألم فراق ينحو الى الأبدية، وهوس انتقام من حسرة على الأسرة التي قتلت تواً، ومن الضوضاء التي تحدثها المحركات التوربينية للطائرات التي تحوم فوقه، وهو غير قادر على الوقوف، أو رفع يديه للدلالة على مكانه، ألمٌ حل على النفس المكسورة، فكون بؤساً لا يمكن أن تُدمِل جراحه لهفة البوح بالمكبوت، عاود الاطلال من مكانه على الصالة، تمعن في الدم المسفوح وقد كوّن بركة غطت الأرضية، شم رائحته التي انتشرت في الأرجاء، وهو مازال حارا، وبقايا فطور على طاولة الطعام مازال حاراً أيضا، وخمس جثث مقطعة أوصالها، اختلطت دماء الأربعة بدماء الخامس عمر بعد أن قتلته قيم الريف القادم بها إلى المدينة في غفلة من الزمان.
تأمل أولئك الجنود الذين توزعوا على غرف البيت، وهم يكتبون محاضر بتفاصيل الحادث، يصورون كل أجزائه، كان الألم الناجم عن تصوير البنات عرايا لا يقل عن ألم الطعن في الصدور، وهو في هذا الحال يتقلب ألماً، اقتربت إحدى الطائرات في حومها من السطح، وبقيت كذلك حتى فتح بابه بمفتاح يبدو خاصاً بفتح كل الأقفال، خرج منها ثلاثة جنود، وجهوا بنادقهم باتجاهه مستلق على أرضيته، صرخوا عليه في أن لا يتحرك، وهو في الأصل غير قادر على التحرك، وفكره الشارد يتمنى لو كان قادراً على ذلك، أملاً في أن يجبرهم بحركة غير متوقعة لأن يطلقوا عليه النار، سعياً للخلاص من عذاب الفقدان الذي لا يطاق، هكذا كانت تقول عيناه المفتوحتان، لكن الجنود عجزوا عن التفسير، وبدلا من الامعان في التفسير، هجم عليه أحدهم أمريكي، ظاناً انه أحد الارهابيين، وعندما تأكد من عدم قدرته على إبداء أي رد فعل، ومشاهدة آثار جروح وخدوش على الصدر، مد أصبعين من يده الغليظة على شريان الرقبة، فأخبر زملاءه الذين يفتشون باقي السطح، أنه ضحية سادسة مازال على قيد الحياة، وبادر على الفور بتأمين الاتصال مع الطائرة طالباً سيارة اسعاف مدرعة، بعد أن فشل في إعادة وعيه، بغية التكلم عن مجريات المجزرة.
..............
موجعة هي الأحاسيس بفقدان الأعزة، وبوقع الغربة، ومقاصد الهرب من آهات عقل صحا تواً من آلام الجراح.
مؤلمة حين تصب عليها حرارة لوم الذات من البقاء على قيد الحياة، ومن جسم لن يغطى بثياب الحداد.
هل ينفع لبس الحداد بعد انتهاء مراسيم الدفن في مقابر النجف، وثلاثة أيام فاتحة في بيت الجد، بمنطقة القاضية في مدينة الحلة، لم يحضرها، كي يتلقى معه عزاء المشيعين آلافاً أثارتهم طبيعة الحادثة، حضروا يواسون ويعزون ويتقولون؟
وهل تكفي الدموع هطولاً على أرض بلا أهل، ولا أمل بعودتهم من جديد؟
لا فائدة من البكاء.
لا نفع من الحياة.
ولا أمل بأحلام التواصل معهم في المنام بمستشفى اليرموك التعليمي وهي تستقبل مئات الاصابات في موقعها المقابل لمدينة اليرموك في صوب الكرخ، وتعج بالمراجعين والجرحى، وجثث الموتى المحشورة في ثلاجات تمتلئ، وتُفَرغ في الأسبوع الواحد عدة مرات، وممرات بين الردهات تستخدم في أزمات الموت مكاناً للتفريغ، يتعمد القادمون اليها والقيمون عليها، إبقاء الوجوه المشوهة مكشوفة، على أمل التعرف عليها من قبل الأهل، أو الأقارب المارون بالصدفة.
أسبوع كامل فيه فقدان للوعي شبه كامل، بدأ منذ لحظة الإخلاء من على السطح بحمالة نقل عسكرية، رتبها جنديين عراقيين، مرورا بالصالة التي تتوزع على أرضيتها جثث الخمسة المغدورين، ثلاث منها عرايا تماماً.
لقد أخرجه المنظر البشع من جموده، واستثار في نفسه الهياج، أجبره على الالتفات صوبهم كي يودعهم، أو يتفحص عسى أن يكون أحدهم بقيَّ على قيد الحياة، فكر لحظتها في ألم الاحتضار الذي ذاق بعض مرارته، وعند معاودة النظر اليهم ثانية، شهق من بشاعة التقطيع واليأس من احتمالات البقاء، شهقة كغرغرة الموت، اعتقد حاملي النقالة، أنها من علامات الموت، مع انها بداية فقدان وعي تام انتهى به تحت تأثير المورفين القوي على سرير، بين عدة أسرة تزدحم بها الردهة، يتبادل الرقود عليها أناس بعضهم يئن، وبعضهم الآخر بلا حراك، معلقة أكياس الماء المغذي فوق رؤوسهم، من هيئتها ولون الحيطان، وكيس الماء المغذي الموصول بالذراع اليسرى، تيقن أنها المستشفى، وإن الجالسة قرب الرأس هي العمة نسرين، المدرسة في إعدادية الحلة للبنات.
........
استفاقة أولى بسيطة، لم تسمح حتى بالسؤال، أعقبها خدر في عموم الجسم، وشعور بسلب الروح من داخله دون أن يتمسك بها، فغط في نوبة نوم إلى ما بعد الظهر، تحت تأثير المخدر الذي زرقه الطبيب في المحقنة المثبتة على اليد، أسفل الرسغ، جاءت الاستفاقة الثانية من بعدها أطول نسبياً، كلمات خرجت متقطعة من فمه، عبارة عن سؤال موجه إلى العمة عن الأهل، وهل حقا مات جميعهم ؟
توقفت عندها العمة التي حضرت بعد خمسة أيام من الحادثة، هو الوقت الذي استغرقته إجراءات الدلالة على العنوان، ساعد على تسريع حصولها أحد أعمام عمر الساكن في المنطقة من عشرين عاماً، وإن لم يجد مع أخيه المقيم عنده حتى الآن، تفسيراً لوجود ابنهم مذبوحاً مع هذه الأسرة التي يكنون لسمعتها بالمنطقة كل الاحترام.
من حيرتها لم تجد جواباً، ففضلت السكوت، وهي المعروفة بقوة أعصابها، حتى انها قد اختيرت من اسرتها عمداً لترعى ابن أخيها، الناجي الوحيد، متحدية اتجاهات التفجير، والقتل على الهوية في الطريق، ومشاهد الجثث المشوهة، واحتمالات ظهور عبد الجليل مراجعاً عاديا يحمل كاتم صوت، لإتمام نصف النصر الذي لم يتمه قبل أسبوع، مؤكدة بعد إعادة السؤال والدموع لم تتوقف: أن الأهل قد رحلوا ذبحاً، ولم يسلم سواه الراقد على السرير، راجية إياه أن يصمد، لأنه الباقي الوحيد، من ذكرى أب كان عزيزاً، والجد رمز الأسرة قد أصيب بجلطة قلبية من هول الصدمة، وهو راقد أيضا في السرير، بمستشفى خاص بالحلة، والأعمام جميعاً لم يكفوا عن التوعد بالانتقام.
لقد تغيرت الأحوال، ولم تبق قدرة على تحمل المزيد من الحزن، والخسارة، وبات الجميع قلقون من أن يقوم الجناة بالتسلل إلى المستشفى وإكمال جريمتهم الشنيعة، وبسببها جاء شابان من العشيرة لتأمين الحماية، أحدهما خارج الردهة، والآخر يرقد فيها على إنه مريض، ينتظر إجراء عملية إزالة تقرح في معدته بعد أن تم إدخاله برشوة، قدمت إلى موظف إداري في المستشفى، رتب أوراق وصور أشعة، وأوامر إدخال لقاء مائتي دولار، اجراءات من هذا النوع مطلوبة لاحتمالات ممكنة، حدث شبيه لها، بمستشفى الكرخ قبل شهرين من الآن عندما حضر إرهابيون، دخلوها عنوة، وأخذوا أحد الجرحى لم يكملوا قتله في عملية لهم قرب نفق الشرطة، فأجهزوا عليه وتركوه جثة ممزقة على مرأى من المرضى والمراجعين.
.........
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/55957-2022-10-11-21-26-22.html
883 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع