"الصريم".. رواية سعودية تعيد تشكيل العالم الغريب الذي سحر المستشرقين.
تزخر الصحراء العربية بإرث ثقافي كبير وهو ما جعلها قبلة للعديد من محبي المغامرة والاكتشاف والرحلات التي يذهب أغلبها ناحية الروحانيات والإبداع الأدبي والتشكيلي وحتى السينمائي وغيرها. لذا فالصحراء تبقى بحكاياتها وخفاياها بيئة ملهمة، منها خرجت إلى العالم أكثر القصص إثارة، وهو ما يعيد تتبعه الكاتب السعودي أحمد السماري.
العرب / هيثم حسين:يعود الروائي السعودي أحمد السماري في روايته «الصريم» إلى سنوات الخمسينات والستينات من القرن العشرين ليتجول في رحاب صحارى الجزيرة العربية بصحبة أبطال روايته الذين يختارهم ليكونوا مراسيل إلى تاريخ المنطقة وأبنائها الذين وجدوا أنفسهم في مهبّ متغيرات كثيرة في فترات قياسية.
يمهد الكاتب لروايته، الصادرة عن دار أثر بالرياض، بمقولة لكرستوفر شولز يقول فيها «حكاية تبدأ، وحكاية تنتهي، والأيام تمضي، ولا شيء يدوم»، وتراه يشدّد من خلالها بطريقة ما على تنقله بين الحكايات التي تعاود التجدد بين زمن وآخر، هي أساس أيّ حدث، ولا شيء سواها يرسم رحلة الإنسان في حياته، ودروبه إلى مصيره.
حكايات بين بطلين
يصور السماري كيف أن الصحراء العربية سلبت ألباب المستشرقين الذين اقتحموا غمارها وحاولوا اكتشاف أسرارها، فوثّقوا أدق تفاصيلها، وعاشوا مختلف أطوارها وتبدلاتها، بحيث سكنتهم وملأتهم شغفاً بها، وذلك من خلال خصوصيتها وفرادتها وجمالياتها الكثيرة، بالإضافة إلى كرم أبنائها الذين يكون العطاء بالنسبة إليهم أساساً حياتياً وتاريخياً لا بديل عنه.
يستعين الروائي السماري بالكثير من قصص المستشرقين الذين جابوا صحراء الربع الخالي، ووثّقوا تفاصيلها المثيرة والغرائبية، وكأنهم ينتقلون في عوالم بكرٍ ساحرة لا فكاك منها، ينقلون أجواءها إلى الآخرين الذين قد يجدونها رحلات إلى عالم ثريّ متنوّع يكاد يكون مجهولاً للكثيرين.
الحكايات تتناسل من بعضها بعضاً في الرواية، يكون هناك شهريار عربي (شهرزاد بصيغة التذكير بشكل من الأشكال) مسكون بالحكايات مقابل شهريار آخر إنجليزي عاشق لها ومستمتع بها، ولا وجود فعلياً جلياً لشهرزاد المحتجبة في ظلال الوقائع والأحداث، الملقاة إلى الخلفية، وكأنها عبء، أو كأنها لا سطوة لها في واقع الحكايات بين الرجلين الذين يقتحمان كثيراً من الزوايا بحكاياتهما، ويتناوبان على إدهاش بعضهما بعضاً بالتفاصيل والغرائب.
يحاول الروائي أحمد السماري في روايته تفكيك الشيفرات التي دفعت المستشرقين إلى ذلك العالم الغريب بالنسبة إليهم، وكيف أن اكتشافاتهم كانت مصحوبة بالمفاجآت، وحملت معها تغييراً في الذهنية، وذلك بالموازاة مع إبحاره في الذاكرات الشعبية، والتقاط حكايات ثانوية على هامش رحلة أبطاله بين الأمكنة والأزمنة المختلفة.
النجدي زيد بن عثمان يكون محور الأحداث، ينتقل بين الأماكن، ينقل معه الحكايات، ويكتشف برفقة من يصادفهم أو يلتقيهم أو تتقاطع معهم دروبه، في رحلته الحياتية التي لا تخلو من مشقات، ماضي أجداده وحاضرهم، بحيث يرسم بناء على ذلك مسارات إلى المستقبل، بالحلم تارة، وبالبحث عن العلم، والتأكيد على مكانته تارة أخرى.
زيد الذي يبحث عن لقمة عيشه في الكويت، يكدّ من أجل الإيفاء بالتزاماته الكثيرة، ينهض بمسؤولية الأب والأخ لأسرته، يكافح من أجل تحسين حياته وحياة إخوته وأمه وأهله في عالم قاسٍ يفرض عليه التنقل، والغياب، ويقضي سنوات في بحثه المحموم عمّا يكفل له فتح مجال أو طريق نحو مستقبل آمن يكفل له الاستقرار والهدوء.
يضع السماري بطله المهجوس بهواجس الحياة والواقع والنضال اليومي في سبيل إثبات ذاته وتأمين قوت يومه وأسرته، في مواجهة حكائية مع مستشرق إنكليزي؛ وليم، يلتقيه في رحلة عودته إلى دياره، وتنشأ بينهما علاقة متينة، قوامها الحكايات، وما تشتمل عليه من عبر ودروس حياتية وتاريخية تنقل صوراً ومشهديات من واقع الجزيرة العربية في تلك الحقبة، وتفاعل المستشرقين مع المتغيرات التي كانت تشهدها وتمرّ بها.
التحوّلات لم تكن من نصيب الأمكنة فقط، فالبناء الذي كان يتشاهق ويتأسس ويتوسع كان صورة لبناء آخر مأمول يجري العمل عليه من أجل بناء الإنسان، وعدم تركه لقسوة الصحراء، بحيث يكون تطويع المقدرات وكرم الطبيعة للارتقاء بالأمكنة وأهلها، وعدم تركهم في معمعة البحث المضني عمّا يسندهم فقط، بل وتفتح الآفاق أمامهم للدخول في العصر من مختلف النواحي.
يركّز السماري على دور الحكايات في ترجمة الشخصيات والأمكنة، ورسم من خلالها تفاصيل ذاك الواقع الذي أسر الرحالة والمستشرقين ووضعهم في مواجهة مع ذواتهم ومجتمعاتهم، وفرضت عليهم أسئلة عن معان وقيم إنسانية تظلّ تحتفظ بتجددها واعتبارها، منها حكايات عن الكرم، وكيف أنه يرسي بيئة اجتماعية قوامها التقدير والاحترام.
بيئة الشعر
الذات والآخر لدى السماري حاضرتان من خلال بطليه الرئيسين، زيد ووليم، كلاهما يعكس ثقافته وتاريخه، وليم يكون الفاحص المدقق المراقب المدوّن لتفاصيل الحاضر، وزيد يكون ذاكرة شفاهية، يكون تاريخاً اجتماعياً متنقلاً مع وليم في رحلته، يطلعه على حكايات المنطقة وتقاليدها وأعرافها وقيمها بأسلوب سلس، ومن دون افتعال أو مبالغة، ما يخلب ألباب المستشرق الإنكليزي ويفرض عليه مجابهة مع مجتمعه نفسه.
قد يشعر القارئ أن هناك إثقالاً من حيث الاستشهاد بمقاطع شعرية يقتضيها السياق الحكائي، ولاسيما أن الروائي يتحرك في بيئة تسمها الشفاهة، ويحتلّ الشعر قيمة كبرى فيها، بالإضافة إلى نهوضه بدور الصدارة في مجتمع يحتفي به ويطرب له ويعتبر منه، وقد تراوحت المقاطع الشعرية بين أبيات من الشعر العامي وأخرى من الشعر العربي الفصيح (الشاعر النجدي راشد الخلاوي، الشاعر يوسف خليفة، الشاعر سلطان الهاجري، الشاعر الأموي سوار بن المضرب، الشاعر دغشم الظلماوي الشمري، المتنبي.. وغيرهم)، بحيث تلقي أضواء على الأحداث أو تساهم بنقل عبر أو حكم مباشرة أو غير مباشرة.
يغوص السماري عميقاً في توثيق تفاصيل البيئات المحلية، بحيث يتبدّى زيد كشاهد على المتغيرات الشخصية والمكانية، من دون أن يفقد تمايزه وخصوصيته، ومن دون أن ينسلخ عن ذاته، أو يشعر بأيّ مشاعر تشوّه جماليات بيئته في عينه، بل على العكس من ذلك، تراه يكون محفّزاً للآخرين، وبخاصة لوليم، يلهمهم بحفظ ما تختزنه الذاكرة من لقطات يسبغ عليها ألوان الحياة، وإن كانت مستلهمة من زمن آخر منقسم بين سواد وبياض.
في الفصل الأخير «كيف مضت الحياة» يعود الكاتب إلى المباشرة، وكأنه يلقي بيان الكاتب الشخصي المباشر، بحيث يوزّع الأدوار ويحدد المهام، ويقحم بطله في الواجهة، ولا يفسح أيّ مجال للقارئ كي يمضي في التخيل معه، وأعتقد أنه كان بالإمكان اختيار نهاية أخرى مفتوحة أيضاً على المتغيرات المستقبلية، من دون الوقوع في فخ المباشرة بهذه الصيغة.
853 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع