تاريخ يهود العراق المعاصر الحلقة ٣ - الكيان القانوني ليهود العراق منذ القرن الثامن العشر الى الاحتلال البريطاني

                    

 الحلقة ٣ - الكيان القانوني ليهود العراق منذ القرن الثامن العشر الى الاحتلال البريطاني من كتاب: تاريخ يهود العراق المعاصر

   

نستمر بنشر فصول من كتاب تاريخ يهود العراق المعاصر للباحث الإسرائيلي المعروف د. نسيم قزاز والذي أصدرته رابطة الجامعيين المنحدرين من العراق في إسرائيل في 2020.

الفصل الثالث المعروض يتطرق الى الكيان القانوني للطائفة اليهودية في العراق ولمعاملة السلطة لليهود منذ القرن الثامن العشر والى دخول الجيش البريطاني بغداد. في هذا الفصل يصف المؤلف الأحوال الاجتماعية والاقتصادية تحت حكم المماليك وتحت حكم الولاة العثمانيين معتمداً على كتابات السياح الأجانب والمؤرخين الذين تطرقوا لأحوال الطائفة اليهودية خلال قرنين من الزمان.

       

الفصل الثالث – تاريخ يهود العراق المعاصر – الكيان القانوني

تزّعم الطائفة اليهودية في بغداد حتى عام 1949 "نسي-נשיא" ومعناه - رئيس. ويحيط بداية هذا المنصب الغموض، ويذهب البعض إلى القول بأن بدايته ترجع إلى عهد المغول، وما هو إلا استمرار لمنصب رأس الجالوت الذي دام حتى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي.
وفي أغلب الأحيان كان "النسي" من علية القوم وأغنياهم وكان يشغل دائماً منصب "الصراف باشي" في الولاية بتعيين من قبل رئيس السلطة أو الوالي. وكان بمثابة همزة الوصل بين رعيته وبين السلطات. وكان لهؤلاء الرؤساء صلاحيات واسعة على أبناء جلدتهم تضاهي الصلاحيات التي كان يتمتع بها "الحاخام باشي" في عاصمة الدولة العثمانية. فقد كانت لهم صلاحيات قضائية واسعة في الشؤون الدينية والدنيوية وفرض عقوبات مختلفة بما في ذلك إلقاء القبض، السجن، فرض غرامات مالية، جلْد وعقوبات جسدية أخرى. وكانوا يفرضون الضرائب لجمع ما يتوجب عليهم دفعه للسلطات كجزية المفروضة عليهم "كأهل ذمة ". وكذلك كان يتم تعيين "نسي" للمناطق الأخرى التي يوجد فيها طوائف يهودية كبيرة وذلك بأمر من حاكم تلك المدينة، وتمتع "نسي" بغداد بنفوذ واسع على الجاليات اليهودية المنتشرة في اليمن وإيران. وكان لرؤساء الجالية اليهودية في بغداد ضلوع في الصراعات والخلافات التي كانت تدور بين المماليك بما في ذلك تلك التي كانت تحاك في اسطنبول لتعيين المماليك. وفي أغلب الأحيان كان هذا المنصب المرموق بمثابة حجر عثرة لصاحبه، إذ تعرض بعضهم لابتزاز أموالهم واضطر آخرون للهرب ولقي آخرون حتفهم.
كان للتنظيمات التي أُدخلت في الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر انعكاسات إيجابية على أحوال اليهود، فأصبحوا من الناحية القانونية متساوين مع الرعايا الأتراك وباقي المواطنين، وصدر عام 1855 فرمان بإلغاء "الجزية" وحلَّ محلها "بدلي عسكر" وكانت الطائفة اليهودية تدفعه للسلطات بعد جبايته كما كانت تجبي "الجزية" من قبل. وفي عام 1908 صدر الدستور التركي فساوى بين الرعايا على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأجناسهم فألغي "البدلي عسكر" وفُرضت الخدمة العسكرية على جميع المكلفين. وحصل تحسن في مجالات أخرى فتم تعيين يهود في سلك القضاة ومحاضرين في الجامعات وموظفين بشتى الدرجات بدوائر المعارف والمالية والبريد وضباط شرطة، وتم تعيينهم أيضاً في إدارة مجالس الألوية والمجالس المحلية وانتخب منهم نواب لمجلس المبعوثان في اسطنبول عام 1877 الذي لم يدم طويلاً.
وكانت القوانين والفرمانات ذات الصلة باليهود، التي صدرت آنذاك، قد شملت بطبيعة الحال يهود العراق الذي كان جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. ووفقاً لذلك اتُخذت إجراءات وحصلت تغييرات قانونية وسياسية في أحوال يهود العراق. ففي سنة 1849 اعتُرف بالطائفة اليهودية في بغداد ك"مليت" وأُلغي منصب النسي وحلَّ محله منصب الحاخام باشي كممثل ورئيس للطائفة لدى السلطات في الشؤون الدينية والعامة. وتم تعيين الأوائل لهذا المنصب من قبل الحكومة المركزية بتوصية من الحاخام باشي في إستانبول. وفيما بعد حصل تعديل لكيفية اختيار الحاخام باشي، ففي 27 شوال من عام 1281 هجري (19 آذار/مارس 1865) صدر نظام الحاخامخانة وبموجبه تقرر أن يتم انتخاب الحاخام باشي من قبل مجلس عمومي ويمارس صلاحياته بعد تصديق انتخابه من لدن الباب العالي في اسطنبول. وتقرر أيضاً، أن المجلس العمومي ينتخب مجلسٍين: مجلساً جسمانياً ومجلساً روحانياً. لم يُحدث تعديل عام 1865 تغييراً ذا أهمية تذكر في وضع الطائفة القانوني، فصلاحيات الحاخام باشي والمجلسين، الروحاني والجسماني، اقتصرت على الأمور الداخلية ولا شيء سواها.
دامت مؤسسة الحاخام باشي 87 عاما، حتى عام 1932. وكان البرلمان العراقي قد أقرٍّ قبل عام من هذا التاريخ قانوناً استبدل فيه مصطلح مليت بمصطلح الطائفة وأتاح انتخاب رئيس للطائفة شخصية دينية كانت أو دنيوية، وبهذا اُبطل القانون العثماني الذي حتم أن يكون الرئيس حاخاماً. وبعد إقامة دولة إسرائيل عام 1948 أُطلق اسم الطائفة الموسوية على يهود العراق وذلك تجنباً من التفوُّه بكلمة إسرائيل.
الأحوال الاجتماعية والاقتصادية تحت حكم المماليك
اتسمت حقبة حكم المماليك في العراق (1750-1831) بالتخلف والانحطاط اللذين عمًّا الإمبراطورية العثمانية. وكانت أغلبية حكمهم مجحفة بحق الأهالي واهتموا قبل كل شيء بمنافعهم الشخصية، ما عدا القليل الذين اهتموا بمصالح السكان. وكان الخوف والوجل سائدين في أوساط المدن والقرى المختلفة من غزوات البدو وسطوتهم. وكثيراً ما كان قطاع الطرق ينقضّون على القوافل ويسلبون محتوياتها والمسافرين فيها.
كانت حصة معاناة اليهود من ذلك الوضع السيئ الذي ساد في العراق كبيرة وتسبب في إصابة تجارتهم وكانوا في كثير من الأحيان عرضة للابتزاز والتنكيل من قبل مختلف الحكام.
وأشاد السائح البريطاني وليام هود الذي زار العراق عام 1817 أبان حكم المماليك، بمواهب وميزات يهود بغداد الذين حققوا نجاحاً كبيراً في التجارة واغتنى الكثير منهم، وكثيراً ما كان حكام البلاد وكبار الموظفين يبتزون الأموال التي جمعوها. يقول -:
"إذا كان المجحف بحقه تركيًا أو حتى مسيحيًا، فسيكون ذلك أمرًا مثيرًا للاهتمام. بينما إذا كان يهوديًا فعندها يعتبر عادياً...ومن الناحية الاقتصادية نجح اليهود لدرجة أنه لم يصدقوا بوجود فقراء بينهم ".
وكذلك روسو يؤكد بكتابه الذي صدر عام 1809 على ما قاله هود عن أحوال يهود العراق بقوله -:
"إن اليهود في بغداد يسكنون في محلات خاصة بهم وإن الأتراك يستهزئون بهم ويكرهونهم وإن أحوالهم المدنية متدنية. ومع ذلك تجدهم في دائرة المكوس ودوائر حكومية أُخرى وفي بيوت أعيان المدينة حيث يستخدمونهم في أعمال شتى ".

   

المجلس الروحاني (سنة 1933) يتوسطه الحاخام ساسون خضوري
يبدو أن حالة اليهود الاقتصادية إبان حكم المماليك كانت نوعاً ما حسنة. فأغلبيتهم تعاطوا التجارة، وامتدت تجارة يهود بغداد والبصرة إلى إيران والهند وإلى ولايات عثمانية أخرى كحلب ودمشق واليمن وغيرها. فباعوا وابتاعوا الذهب والفضة والعنبر والألمنيوم والحرير وخيوط الحرير وأنسجة الكتان وأنواع الأقمشة وأدوات عبادة دينية - تفلّين (תפלין) ،ومزوزوت (מזוזות)، وسفر التوراة (ספרי תורה) والمشروبات والبُن وغيرها. كما أنهم كانوا يسلفون ويقرضون بصكوك وسندات (كمبيالات) ويصدرون حوالات للبيع والشراء.
ويتضح من تقارير السياح الذين زاروا بغداد في القرن التاسع عشر، أمثال ولستاد (1831)، سترن (1845)، أن أحوال اليهود الاقتصادية جيدة، ويقول الأخير إن يهود بغداد أغنياء وحريصون ويشكلون العنصر الاقتصادي الفعّال في المدينة وفي حوزتهم الخانات الرئيسية فيها. وتتعطل حركة التجارة في بغداد أيام السبت لأن هذا المجال محصور فيهم. ويشير بنيامين الثاني الذي زار بغداد عام 1848 إلى سيطرة اليهود على الأعمال التجارية في البلد وإلى روابطهم الاقتصادية مع البلدان القريبة والنائية. في عام 1880 زار السائح مردخاي إدلمان بغداد وذكر أن يهود بغداد يقطنون القسم الجنوبي - الشرقي من المدينة وأشار إلى سيطرتهم على التجارة ذاكراً أنه في أيام السبت تغلق محلات التجارة ويخيم الهدوء والسكون التام في البلد، وقال أيضاً إن اليهود يصدرون شرانق الحرير والتين والرمان والفواكه المجففة ويستوردون من مانشستر سلعاً وبضائع متنوِّعة. وجاء في تقرير للقنصل البريطاني عام 1987، أن السلع البريطانية المستورَدة إلى بغداد تراعى وتدار بأيادٍ يهودية.
استمرت أحوال اليهود الاقتصادية في النمو في القرن العشرين. فهناك تقارير متنوعة تشير إلى مكاناتهم الوطيدة وإلى العلاقات التجارية الواسعة مع الخارج. ففي تقرير للقنصلية البريطانية عام 1910 جاء: أن الجالية اليهودية في حالة ازدهار وهي تسيطر على الاستيراد وعلى التجارة داخل البلاد وإنهم مهيمنون على التجارة المحلية وليس باستطاعة المسلمين أو المسيحيين مباراتهم.
ويقول كوك إن الطائفة اليهودية في بغداد تميزت بعد زوال الحكم العثماني بنفوذها التجاري الواسع وبات من المؤكد أنها أغنى من الطوائف الأخرى، فالسيطرة على البنوك، حتى افتتاح البنوك الأوروبية، كانت في حوزتهم وهيمنوا كذلك بصورة واسعة على الصيرفة، وكان الأهالي يفضلوهم على البنوك لانعدام ثقتهم بها ولارتيابهم منها، وكان انعدام الطمأنينة من البنوك سائداً عند أوساط واسعة من السكان. وأضاف كوك، إن اليهود بدأوا، قبل أي مكون آخر من السكان، بارتداء اللباس الإفرنجي والظهور في هيئة أوروبية.
أما لونكريك (Longrigg) وستوكس (F. Stoake) فيشير إلى جذور الطائفة اليهودية العميقة والموغلة منذ القِدم بوادي الرافدين وإلى أحوالهم الاقتصادية الحسنة في النصف الأول من القرن العشرين ويضيفان أنهم يشكلون عنصراً اقتصادياً مُهَيمِناً في العاصمة بغداد وفي مدن عراقية أخرى -:
"الطائفة اليهودية في العراق، المتواجدة في بلاد الرافدين من زمن بعيد، تُعَدّ، في النصف الأول من القرن العشرين، من أكبر الجاليات اليهودية في آسيا وربما أكثرها تقدماً. فهي تتميز بلباسها وتراثها عن الأغلبية المسلمة، وتتصرف بدقة حسب متطلبات القانون وتقطن في محلات منفردة. ومنذ القرون الوسطى كدَّس أبناؤها الأموال واغتنوا وباتوا عنصراً ذا تأثير اقتصادي كبير...وكانت بغداد عام 1914 من ناحية تعدد السكان مدينة يهوديةً أكثر منها عربية، ويضيف، أن نشاط وفعاليات أبنائها، الذين يتكلمون العربية والمحافِظون على القانون، تظهر واضحة في كافة مدن البلاد... ومع ذلك تبقى وصمة العار ملتصقة بهم ومتجلية بمرتبتهم الاجتماعية الدونية ".

تحت حكم الولاة العثمانيين
يقول الباحث حييم كوهين إن معاملة الولاة العثمانيين الذين حكموا العراق منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت حسنة ويستثني منهم الوالي مصطفى عاصم (1887-1889) الذي كانت معاملته لليهود سيئة، ولكن إذا ما استقصينا على حدى معاملة كل والِ لليهود لوجدنا أن الوضع مختلف عما وصل إليه كوهين. فقد وجد الباحث ابن يعقوب، بعد التحري عن معاملة 27 والياً لليهود من ضمن 42 والياً حكموا العراق من منتصف القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، أن نصفهم عاملوا اليهود معاملة حسنة ونصفهم الآخر أساء معاملتهم. وعند ابن يعقوب تُعتبر معاملة الوالي حسنة إذا لم يحصل مكروه لليهود في عهده. ومما لا ريب فيه هو معاملة اثنين منهم معاملة حسنة بامتياز نحو اليهود، هما الوالي مدحت باشا (1869-1872) والوالي حسين ناظم باشا (1910-1911)، فأطلقوا على الأول كنية "أبو السلام "، ولأجل الثاني بذلوا جهوداً مكثفة اجتماعية وسياسية عند ما بلغهم خبر نقله. وكانت دوافع كليهما للمعاملة الحسنة نحو اليهود خاصة ونحو الشعب العراقي عامة أيدولوجية وسياسية. فمدحت باشا تزعم حركة "العثمانيين الأحرار" الذين نادوا ﺒ-"المشروطية" وتبنوا دستوراً يَحدُّ من صلاحية السلطان ويفصل بين الدين والدولة، وناظم باشا كان من الضباط المنتمين "لحزب الاتحاد والترقي" الذي قام بانقلاب عام 1908 وتبنى دستوراً ليبرالياً منادياً بالحرية والمساواة. وخلافاً لهما تميَّز بعض الولاة بمعاملتهم المسيئة والمجحفة بحق اليهود، فمثلاً، كان سر كاتبي مصطفى نوري باشا (1859-1861)، الوالي الثامن طاغيةً وملفقاً لاتهامات كاذبة ضد اليهود وحاول أن يغتصب منهم مقام النبي حزقيال بالكفل ومنعهم من زيارة المقام. وكذلك كان محمد نامق باشا الذي اعتلى كرسي الولاية مرتين: في عامي (1852-1853) كوالي خامس وبعدها كوالي عاشر لمدة سبع سنوات (1861-1868)، وكان شديد التعصب دينياً، عامل أهل الذمة، اليهود والنصارى، بقسوة وخاصة إبان ولايته الثانية حين أُلقي القبض على العديد من اليهود وزُجّوا في السجون ولقي البعض حتفهم جراء التعذيب. ومن الولاة الآخرين الذين عاملوا اليهود معاملة ظلم وإجحاف: عاصم باشا (1887-1889) وقد مرَّ ذكره، عطا الله باشا (1896-1899)، محمد باشا الداغستاني (1908)، نور الدين بك (1916) وخليل باشا (1917).
وقد أسلفنا أن اليهود اعتبروا الوالي الذي لم يصبهم مكروه إبان ولايته والياً طيباً بالنسبة لهم. ولا غرو، إذ أن الاعتداء عليهم في تلك الأيام لم يستدعِ لفت نظر أو انتباه، وكانت أية محاولة لمنعه تستحق التقدير. كان اليهود يخافون من المسلمين وكان هذا الخوف مستأصلاً فيهم، حتى أن الآباء والأمهات عندما كانوا يريدون ردع أو إخضاع الولد أو الطفل لإرادتهم، كانوا يرعبونه بالقول: "جا المسلم ". واستكن اليهود، على مرِّ الأجيال، للإذلال والخنوع حتى أصبحوا عديمي المقاومة والرد، لا حول لهم ولا قوَّة. وكان مصيرهم مرهوناً بعطف السلطات ورحمتهم. ولم ينطوِ هذا الحال على نظر زوار البلد القادمين من الخارج. وكتب المهندس الإنكليزي وليام ويلكوكس الذي تواجد في العراق في سنوات (1909-1911) -:
"بالرغم من كون اليهود ينتمون إلى كبار الأثرياء في البلد، فإن المسلمين يضايقونهم ويلاحقونهم ولم يعودوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم من جراء المعاملة الفظة ".
ويُعلِّل حسقيل الكبير، وهو من علية القوم، أسباب عدم المقاومة والدفاع عند يهود العراق بقوله -:
"إن سكان البلاد، العرب السنة، عصبيو المزاج، متهورون وسريعون بإشهار السكين، مما حتّم علينا معاملتهم بتحفظ. وإننا كأقلية صغيرة ندري أن أيَّ ردٍّ من جهتنا من الممكن أن يتطوًر إلى مواجهة ضدنا وأن الحكومة ستنحاز إلى الطرف المعادي لنا. لذلك عملنا جهدنا لقمع أيّ خلاف حال نشوبه وقبل استفحاله. ونظراً لتجنبنا المشاكسة وتحاشينا المقاومة اعتبرونا جبناء لا يحسنون الدفاع عن النفس ".
لا شك، أن من منتصف القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى طرأ تحسُّنٌ على أحوال اليهود وخاصة على وضعهم الاقتصادي والاجتماعي ومستوى التعليم، بينما استمر التدهور في أمنهم والتنكيل بهم، وكانت الإصابات الجسدية وأعمال النهب وحتى القتل ظواهر عادية. ومن التُهم التي كانوا يلصقونها بهم كانت تهمة "الكفر بالدين" أو "شتم وسب الدين". وعندما أراد مسلم أن ينتقم من يهودي أو يضره، لسببٍ ما، كان يفتري أنه كفر بالدين الإسلامي، وفي أغلب الأحيان أدَّى افتراءٌ كهذا إلى انهيال مسلمين آخرين ممن تواجدوا في المكان على اليهودي المتهم بالضرب واللكم والرفس، ثم يودعونه مخضباً بدمه إلى مركز الشرطة. وفي عام 1876 حدث أن يهودياً تلقى ضربات شديدة ثم قضى حتفه موقوداً على النار. وأدى انتشار هذا الافتراء وتفاقمه إلى انتحار عدة يهود عام 1880، مما حدا بحاخامي الطائفة أن يعلنوا في كُنُس بغداد إن الانتحار منافٍ لتعاليم الدين اليهودي وأن من يقدم عليه لا يُنعم عليه في الآخرة. استمر انتشار هذا الافتراء ما يقارب العشرين عاماً، حتى ولاية الحاج رفيق باشا (1892-1896) الذي أوعز إلى الشرطة ألا تعي اهتماماً لمثل هذه الأكاذيب ضد اليهود وأن تطرد كل مسلم يقول بها.
وفيما بعد أصبحت جملة "يهودي كفر بالدين" عند اليهود مرادفة للتهم الباطلة التي كانت تسند لهم. ووسم د. سلمان درويش فصلاً من مذكراته تحت عنوان "يهودي كفر بالدين" شرح فيه التهم الباطلة التي أُلصقت به والتي جرَّته للمرافعة في المحاكم في أواخر العقد الخامس من القرن المنصرم حينما كان الإجحاف بحق اليهود في أوجه، كان هدف الإيقاع به تنحيته من مركزه المرموق في شركة النفط العراقية والاستيلاء عليه.
وحين كان ظُلم الوالي وتعسفه قاسياٌ لا يطاقً، لجأ يهود بغداد إلى زعماء يهود في دول أوروبية الذين لجأوا بدورهم لرؤساء تلك الدول لوقف الاعتداء عليهم وإحباط أعمال الشر ضدَّهم. وهذا ما حصل عندما حاول الوالي سر كاتبي نور باشا عام 1860 مصادرة مقام النبي حزقيال بالكفل ومنع اليهود من زيارته وأراد تشييد مسجدٍ حول المقام، ففي حينه لجأ اليهود، إلى لندن واسطنبول وأحبطوا مساعي الوالي.
عاد اليهود عام 1889 وطلبوا النجدة من عناصر خارجية وأجنبية، ففي هذا العام اجتاح بغداد وباء الطاعون، ولكي يُمنع تفشيه وانتشاره حُظر على اليهود الخروج من المدينة، وكان الحاخام عبدالله سوميخ المبجَّل والموقَّر عند أبناء الطائفة اليهودية قد توفي مصاباً بالطاعون، وأراد اليهود دفنه في مقبرة بجانب الكرخ بجوار يهوشع الكاهن الكبير الذي، حسب اعتقادهم، مدفون هناك، فتوجهوا إليها بحشد كبير من المشيعين. فاشتط الوالي عاصم باشا غضباً لمخالفة أوامره، وأمر باعتقال وطرد أربعة قضاة (حاخامين) يهود من وظائفهم واعتُقل عدد آخر من وجهائهم وأرسل عناصر من الشرطة لمحلات اليهود لإلحاق الضرر والإساءة. ولم يجد اليهود بداً سوى إرسال برقيات إلى اسطنبول ولندن يستنجدون بها، ولكن الوالي أمر بمنع إرسالها، فتوجه اليهود إلى الموصل وأرسلوا برقياتهم إلى السلطات في اسطنبول وإلى "لجنة مبعوثي الطوائف" (ועד שליחי הקהילות) وإلى الأنكلو-يهودية "Anglo-Jewish Association" في لندن، وإلى عائلة ساسون في لندن وإلى جمعية الأليانس في باريس. وآتت مساعيهم ثمارها بعد ما وجَّهت بريطانيا إنذاراً إلى السلطة في اسطنبول مهددة باتخاذ إجراءات. فاضطر السلطان عبد الحميد الثاني إلى إصدار "إرادة سنية" أُزيح بموجبها عاصم باشا من ولاية بغداد في أواخر تلك السنة.
اتبعت الدول الأوربية العظمى منذ منتصف القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين سياسة التدخل في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية بحجة مراعاة شؤون الأقليات، وبهذه الحجة وسّعوا نفوذهم لصالح أهدافهم السياسية في أقطار الشرق الأوسط. وكان تدخلهم لصالح يهود العراق وفقاً واتِّباعاً لهذه السياسة. ولكن إبان الحرب العالمية الأولى عندما كانت الدولة العثمانية مستميتةً في الدفاع عن كيانها لم يعد هناك تدخل أو تأثير سياسي للدول العظمى في الشؤون الداخلية للإمبراطورية العثمانية. وبات اليهود في العراق تحت قسوة وتعسف السلطات التركية التي لم تعد تخشى التدخل الخارجي.
وكانت الفاجعة الكبرى عام 1917، ففي أثناء الحرب العالمية الأولى هبطت أسعار الأوراق المالية، ونسبت السلطات هذا الهبوط إلى اليهود وتلاعبهم بسعرها، وأجبرت الحكومة التجار على أن يبدلوا الليرة الورقية بالذهب وعينت مقداراً على كل تاجر في كل شهر، فامتنع التجار من تنفيذ هذه الأوامر وقام مساعد الوالي فائق ومدير الشرطة بملاحقتهم وتضييق الخناق عليهم، واشتدت الأزمة في عام 1917، وقبضت الحكومة، قبيل احتلال بغداد، على 17 شخصاً من علية القوم ونكلت بهم سراً تنكيلاً شنيعاً. ويقول يوسف رزق الله غنيمة في كتابه "نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق-:
"وقبضت الحكومة قبيل احتلال بغداد على عدد من اليهود ونكلت بهم سراً تنكيلاً شنيعاً وجدعت أنوفهم وقطعت آذانهم وسملت عيونهم ثم وضعتهم في أكياس وألقتهم في دجلة".
بعد أن نال العراق استقلاله عام 1932، فقد اليهود الرعاية البريطانية التي تمتعوا بها أيام الانتداب، وبفقدان الرعاية الخارجية بدأ التنكيل بهم منذ منتصف الثلاثينات وبلغ أوجه بالفرهود عام 1941 الذي ذهب ضحيته 180 يهودياً، وعاد الظلم والاستبداد في أواخر الأربعينات ثم عاودهم بعد حرب الأيام الستة أو حرب حزيران 1967، حين زج الكثير منهم في السجون ولقي عشرات أخرون حتفهم معلقين على أعواد المشانق أو من جراء التعذيب. وجرت أعمال التنكيل المذكورة بغياب رعاية أو رقيب خارجي.
رغم المعاملة المذلة إبان الحكم العثماني، لم ينكر اليهود التسامح نحوهم في فترات طويلة تحت حكم العثمانيين. ويشيد إبراهيم الكبيروهو من علية القوم، بالتسامح الذي حظي به اليهود في الدولة العثمانية مقارناً بالظلم والإجحاف والتعذيب ومحاكم التفتيش التي عانى اليهود منها في البلدان المسيحية. فهو لم يتغاضَ عن معاناة التعسف والظلم الذي أحاق بيهود العراق إبان الحرب العالمية الأولى ولكنه على النقيض من أولئك الذين يعتبرون الأتراك أعداءً لدودين لليهود، ويتهمهم بالتغاضي والتجاهل عن تسامح الدولة العثمانية نحو اليهود منذ نفي يهود إسبانيا عام 1492، ويضيف أن فرحة يهود العراق للاحتلال البريطاني والطعن بالأتراك أبعدت العرب عنهم. كذلك سلمان شينا (1899-1978)، وهو أيضاً من علية القوم، يكيل المدح والثناء لسلوك الأتراك وتسامحهم على ممر الزمن، ويعتبر أعمال القتل والتشنيع باليهود إبان الحرب العالمية الأولى كأعمال شاذة. وكان شينا قد جُنِّد ضابطاً بالجيش العثماني ووقع في أسر البريطانيين في الحرب التي دارت رحاها جنوبي بغداد قبيل احتلاها. وأفاد أثناء التحقيق معه في الأسر أن معاملة الأتراك لليهود كانت نزيهة ومستقيمة على الدوام، ذلك منذ أن فتحوا أبواب دولتهم على مصراعيها أمام اللاجئين والمشردين اليهود من إسبانيا، وأضاف أن معاملتهم ليهود العراق خاصة كانت طيبة. ونشرت أقوال مماثلة، في العقد الثالث من القرن المنصرم، عن تسامح الشريعة الإسلامية وعلى احتضان اليهود المشردين من إسبانيا في مجلة "المصباح" (המנורה) اليهودية.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/47916-2021-02-16-17-48-07.html

    

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

944 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع