الحلقة الثانية - يهود العراق في العصر الحديث وتعداد السكان من كتاب: تاريخ يهود العراق المعاصرد. نسيم قزاز
في الأسبوع الماضي بدأنا بنشر فصول من كتاب تاريخ يهود العراق المعاصر للباحث الإسرائيلي المعروف د. نسيم قزاز والذي أصدرته رابطة الجامعيين المنحدرين من العراق في إسرائيل في 2020. تطرق الفصل الأول الى تاريخ يهود العراق من السبي البابلي والى نهاية القرن الثامن العشر – تحت حكم امبراطوريات وسلطات مختلفة (من ألامبراطورية البابلية الى عهد الفرس، ثم تحت ظل الإسلام (خاصة الخلافة العباسية) وبعدها عهد المغول والتتار ثم اخيرا حكم الاتراك العثمانيين)
الفصل الثاني المعروض هنا يتطرق الى التطورات التي حدثت في القرن التاسع عشر – اوائل القرن العشرين والتي اثرت تأثيراً جذريا ً على أحوال الطائفة اليهودية ومنها تأسيس المدارس الدينية ومدرستي الاليانس للبنين والبنات، افتتاح قناة السويس، واصلاحات الوالي العثماني مدحت باشا (التنظيمات). ثم يتطرق هذا الفصل الى تعداد اليهود في انحاء العراق بالتفصيل في العقود المختلفة ومن مصادر متعددة.
*****
الحلقة – 2 يهود العراق في العصر الحديث وتعداد السكان
دام تدهور وانحطاط أحوال الطائفة اليهودية في بغداد والبصرة حتى نهاية القرن الثامن عشر. وفي مستهل القرن التاسع عشر أخذت بغداد تتبوأ مركزها الديني للجاليات اليهودية في كردستان، إيران، الهند وعدن. وتوافدت الأسئلة الدينية من مختلف الأقطار إلى حاخاميها وأرسلت رجال دين وذباحين حسب الشريعة الموسوية لخدمة الجاليات الصغيرة.
وفي سنة 1832 تأسس في بغداد معهد لدراسة التوراة "مدراش بيت زلخة" الذي دام حتى هجرة اليهود الجماعية من العراق في منتصف القرن العشرين، وفي هذه الحقبة، التي دامت مائة وعشرون عاما، تلقى العلم فيه عشرات الآلاف من التلاميذ. وفي عام 1840 تأسست أول مدرسة دينية، "مثيبة بيت زلخة"، لتأهيل حاخامات للطوائف اليهودية في العراق وفي سائر بلدان الشرق، بعد انقطاع دام مئات السنين.
اتسم العقد السابع من القرن التاسع عشر بثلاثة أحداث مهمة كان لها تأثير كبير على تطور أوضاع الجالية اليهودية في العراق. ففي عام 1864 افتتحت في بغداد مدرسة عصرية للبنين "الأليانس" ليتم بعدها بنحو ثلاثين عاماً افتتاح مدرسة الأليانس للبنات سنة 1893. وفي عام 1869 تم افتتاح قنال السويس وتعيين مدحت باشا والياً على ولاية بغداد. واتسمت ثلاث سني ولايته بالإصلاحات وبمفهومها العربي "التنظيمات". والتي نالت الاستحسان والثناء. وكان لهذه الأحداث الثلاثة أثر بالغ على تطوِّر أحوال يهود العراق وعلى العراق بكامله.
حازت مدرسة الأليانس بعد مضي عشر سنوات على تأسيسها على مستوى دراسيَ عالٍ وخاصة في تعليم اللغات. ففي عام 1878 قدم إلى بغداد محرر جريدة التايمس الهندية وكتب إثر زيارته للمدرسة -:
"إن التدريس فيها يجري على نموذج عصري ممتاز وخاصة في تعليم اللغات الأجنبية وتأهيل الطلاب للعمل كموظفين ومترجمين ومديري أعمال مما أحدث فجوة واسعة تفَوّق فيها الشباب اليهود في بغداد بمجال التعليم على أقرانهم في سائر البلاد". دام هذا التفوق حتى منتصف القرن العشرين مما أثار شعور الغيرة والحسد عند شرائح من مختلف باقي الملل.
وأدى فتح قنال السويس إلى قدوم سيل من السفن الأوروبية التي جلبت، إضافة لحمولاتها المتنوعة، مفاهيم ومصطلحات الرقي والتقدم، وإلى توسع ميناء مدينة البصرة في الجنوب مما أحدث تغييراَ في توزيع السكان في المدن، لاسيما لدى الجالية اليهودية.
باشر مدحت باشا بتطبيق شعار الحرية والمساواة والعدل لجميع المواطنين وهو الشعار الذي نادى به "حزب الاتحاد والترقي" وكان على جانب كبير من النجاح في محاولته هذه، إذ أنه استطاع من إخضاع عشائر البدو المنتشرين بجوار بغداد وجنوب البلاد الذين كثيراَ ما تعرضوا للسكان وأخَلّوا بالأمن، فكبح جماحهم وردعهم ونال رضا واستحسان اليهود والمواطنين عامة. ولم ينعدم الشعور بالاطمئنان والأمان عند الأهالي بعد نقله من بغداد عام 1872. وتجرأ اليهود حينذاك على الخروج من بغداد للسكن في المدن التي شُيدت حديثاً أو في مدن لم يكن قد تجرّأوا على الإقامة فيها من قبل.
تعداد السكان
قدر المبشر المسيحي جوزيف وولف (J. Wolf) عدد اليهود في بغداد عام 1824 ﺒ-1,500 عائلة. وفي عام 1831 زار بغداد السائح الإنكليزي ويلستيد (J.P. Wellsted) ووجد فيها 7,000 يهودي سكنوا في محلة خاصة بهم وشغلوا وظائف حكومية مختلفة. وفي عام 1845 وجد المبشر المسيحي هنري سترن ((H. Stern في بغداد 16,000 يهودي و40,000 مسلم و1,500 مسيحي. ويقول السائح اليهودي بنيامين الثاني الذي زار بغداد عام 1848 أن عدد العائلات اليهودية في المدينة يربو على 3,000 عائلة وأن هناك 9 كنائس وأن اليهود يسكنون في محلة خاصة بهم ومتاح لهم السكن خارجها وهناك قليل منهم يسكن خارج المحلة. وجاء في تقرير لسائح يهودي آخر، يحيئيل فيشل، الذي زار بغداد عام 1860 أنّ عدد اليهود فيها 20,000 وعدد سكان الملل الأخرى 70,000 وأغلبية اليهود من الفقراء. ويقول أوبرماير الذي تواجد في بغداد حوالي تسعة عشر عاما، من سنة 1869 حتى سنة 1888, إن في بغداد يعيش 20.000 يهودي من ضمنهم 500 من أصل فارسي، وإن شوارع بغداد مليئة باليهود ويضيف: "...بين يدي الصرّاف اليهودي ترِنُّ النقود وآلاف الدلالين اليهود يتربصون في كل ركن للمشترين والبائعين. وفي عام 1889 جاء عن الحاخام أبراهام حييم سوميخ أن عدد اليهود في بغداد نحو 25,000 نسمة وعدد المسلمين 100,000 والمسيحيين 5,000 نسمة، في حين قدَّره معلم اللغة الإنكليزية في مدرسة "الأليانس" قي تلك السنة ﺒ-30,000. وقدر عدد الذين دفعوا بدل الخدمة العسكرية عام 1890-1891, حسب التسجيل العسكري الرسمي ﺒ-2,483 شاباً. وفي عام 1907 قدَّر العدد مدير المدرسة نفسها ﺒ-40,000. بينما يقول لونكريك (Longrigg)، الذي شغل منصب حاكم عسكري في عهد الانتداب ثم عمل في شركة نفط العراق (Iraq Petroleum company، إن عددهم في بغداد بمستهل القرن العشرين كان 50,000 نسمة وإن هذا العدد يساوي عدد العرب السنة والمسيحيين والتركمان كافة، وأضاف أن اليهود يشكلون جوهراً أساسياً في البلاد. وفي 24 يناير 1904 قدَّر القنصل الفرنسي بملحق رقم 4 لتقريره في 24 يناير 1904، عدد سكان اليهود في بغداد ﺒ-40,000 ضمن 60,000 ألفٍ يعيشون في الولاية، وأنهم الأقلية الأكبر والأغنى ويمتازون بفعالية ونشاط. وفي فبراير 1910 أورد هارون شوحيط الذي عمل مترجماً لدى القنصلية البريطانية ما يلي-:
"إن الطائفة اليهودية في بغداد تُعد من أكبر وأغنى الطوائف اليهودية في الإمبراطورية العثمانية بعد طائفة سالونيك، وحسب الإحصاء المعدل الذي أُجري قبل سنتين كان تعداد اليهود هنا 35,000 بينما يقول من لهم دراية بالموضوع إن عددهم يجاوز50,000، وفي تقارير الأليانس وتقرير الجمعية الأنكلو- يهودية قُدِّر عددهم بنحو 45,000 ".
ويأتي هذا التقدير موافقاً لتقدير السر ساسون حسقيل الذي كان قد انتخب عام 1909 نائبا عن بغداد لمجلس المبعوثان التركي والذي شغل منصب وزير مالية العراق في أوائل العقد الثالث من القرن الماضي، فحسب تقديره كان في بغداد عام 1909 ما بين 45,000 -50,000 يهودي من مجموع 200,000 سكان المدينة. وهذا ما جاء في تقرير المهندس البريطاني ويلكوكس W. Willcocks)) الذي تواجد في العراق خلال سنتي 1909-1911. وفي تقارير الجمعية الأنكلو - يهودية قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. ويقول حييم كوهين إن عدد يهود العراق كان قبل اندلاع تلك الحرب 80,000 نسمة توزع ما يقارب 30,000 منهم في مختلف الأماكن والبلدات الصغيرة والباقي نحو 50,000 في بغداد. ويأتي هذا التخمين ملائماً لما جاء في الإحصاء الذي أجرته سلطة الاحتلال البريطاني عام 1919 الذي أنتج أن عدد اليهود في العراق كافة 87,000 نسمة ومجموع سكانه 2,849,283 نسمة أي أنه يعادل 3.1% من مجموع السكان. وفي ولاية بغداد قدر عدد اليهود ﺒ-50,000 نسمة من مجموع 250,000 نسمة.
وكان في شمال العراق مجتمعات يهودية صغيرة متفرقة، أكبرها في مدينة الموصل حيث تواجد فيها عام 1848 ما يقارب 450 عائلة. وفي مستهل القرن العشرين تواجد في الموصل ما بين 2,000-3,000 نسمة. وبعد الحرب العالمية الأولى ازداد نزوح اليهود إليها وإلى سليمانية وأربيل ومدن كردستان الأخرى من المدن والقرى المجاورة. ويقدر عدد اليهود عام 1919 في الألوية الشمالية – موصل، أربيل، كركوك وسليمانية - ﺒ- 14,835، وفي الإحصاء الرسمي لعام 1947 بلغ عددهم في 19,767. وتجدر الإشارة هنا أن الأكراد في العراق أقلية قومية تنتمي غالبيتها إلى المذهب السني يقطنون شمال البلاد ويكَوِّنون أكثرية ساحقة هناك. وتمتع الأكراد زمن العهد العثماني بحكم ذاتي غير رسمي في مناطقهم. وفي أغلب الأحيان لم يكن باستطاعة السلطة المركزية حماية أهل الذمة في المناطق الكردية وذلك لوهنها وضعفها وكانت السلطة الحقيقية بيد زعماء العشائر القوية الذين بسطوا سلطانهم على القرى والمدن الصغيرة، وتحتم على عشائر كردية صغيرة وعلى اليهود أيضاً اللجوء إلى حماية عشيرة قوية مقابل دفع "ضريبة" بشكل هدايا وإنجاز أعمال دون مقابل لرئيس العشيرة، الذي كان يرى أن من واجبه الدفاع عن الرعايا المستظلين بحمايته، وكان ينتقم لهم حين الاعتداء عليهم أو غدرهم. واستكن يهود كردستان لهذا الحال. وكانت هناك حوادث قتل وخطف ونهب ولكنها لم تقتصر على اليهود وكان من ضحاياه أكراد مسلمون ينتمون إلى عشائر ومدن صغيرة. ومن الممكن أن نصف هذه الحماية التي تمتع بها اليهود كاستعباد أو استرقاق، لكنها لم تكن قد خصت اليهود دون سواهم بل شملت أكراداً مسلمين أيضاً. ومن الممكن أن نقول إن أحوال اليهود الأكراد بصورة عامة كانت حسنة. ومع ذلك لم ترقَ العلاقات بين الأشخاص إلى صداقة حميمة وذلك لتمسك اليهود بديانتهم التي تمنعهم من تناول الطعام الغير حلال ولم تُمَس العلاقات اليهودية - الكردية فيما بعد كما حصل في أجزاء العراق الأخرى وذلك لأن الأكراد لم يتأثروا من الدعاية النازية، وقضية فلسطين لم تكن تعنيهم.
وحسب الإحصاء الذي أجري في العراق عام 1947 تواجد في العراق 118,000 يهوديٍ من جملة 4,500,000 سكان البلاد أي 2.6% من مجموع السكان، وبلغ عدد سكان يهود بغداد في هذا الإحصاء ما بين 80,000-90,000 نسمة من مجموع سكان العاصمة الذي بلغ 500,000 نسمة، وسكن أغلبيتهم في الشطر الشرقي من المدينة (الرصافة) في محلات متجاورة خاصة بهم - التوراة، تحت التكية، ابوسيفين، سوق حنون، طاطران، فرج الله وغيرها. وأدت التطورات الحثيثة في العراق منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى التآكل في مركزية المحلة لدى المجتمع وخرج، في مستهل القرن العشرين، بعضهم من الأحياء اليهودية، وبعد الحرب العالمية الأولى توسعت هذه الظاهرة كثيراً وسكن اليهود في بغداد ومدن أخرى في أحياء حديثة وفي محلات مسيحية ومسلمة.
لم يزد عدد المتبقين اليهود في العراق بعد الهجرة الجماعية في عامي 51-1950 على 6,000 نسمة، وأخذ هذا العدد بالتضاؤل وقارب 3,000 نسمة في مستهل العقد السابع من القرن العشرين. وكان لحملة الإرهاب التي شنها "حزب البعث" ضد الطائفة اليهودية في العراق تأثيرها العميق على نفوس أبناء هذه الطائفة المستضعفة مما حدا بالكثير منهم للبحث عن طريق للخلاص. وفي حزيران/يونيو من عام 1970 بدأ اليهود بالهروب عن طريق شمال العراق (كردستان) إلى إيران، واستمرت عمليات الهروب إلى نهاية عام 1971، ماعدا بضعة أشهر الشتاء، وقدر عدد الهاربين نحو 1.000- 1,500 نسمة , وفي نيسان/أبريل بدأت السلطات العراقية في إصدار جوازات سفر لليهود بعد امتناعها طوال سبع سنوات. وفي خريف 1974 تضاءل العدد إلى 400 نسمة واستمر التقلص حتى كتابة هذه السطور ولم يبق منهم اليوم سوى نفر يمكن عده على أصابع كف يد واحدة.
لائحة رقم 1
أعداد يهود العراق حسب الإحصاء البريطاني سنة 1920
لائحة رقم 2
لائحة رقم 3
أعداد يهود العراق - إحصاء سنة 1947- الألوية والأقضية
لائحة رقم 3
أعداد يهود العراق - إحصاء سنة 1947- الألوية والأقضية
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/47691-2021-01-29-21-03-30.html
1276 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع