الأدب السياسي في إبداعات "توماس مان"
ايلاف/صلاح سليمان:لم تكن زيارتي إلى بيت توماس مان "1875-1955" الكاتب الألماني الشهير في مدينة "باد تولتز" البافارية في جنوب ألمانيا، إلا واحدة من الزيارات الاستكشافية في عالم الثقافة والمعرفة، في بلد اشتهر بغزارة الإبداعات في مجالات الأدب، والفنون، والثقافة بشكل عام.
مقر المنزل والمدينة كلها تحظى بجانب لابأس به من رواد السياحة الثقافية من أمثال هؤلاء الذين تأثروا بكتابات توماس مان، أو الفضوليين أمثالي الذين يريدون الاطلاع على البيئة الحاضنة الأولى للكاتب التي نشأ فيها وأهلته ليكون مبدعا مؤثرا في ثقافة بلاده.
مدينة الكاتب "باد تولتز" تشتهر بطبيعتها الجميلة، والمصحات العلاجية فيها التي تجذب عدد لابأس به من السياح سنويا، لكن ما لا يعرفه البعض عن مقر توماس مان وفيلته الشهيرة التي بناها في عام 1909، هي أنها تحظى بعدد وافر من الزوار، لاسيما المتيمين بأدب توماس مان، ليس هذا فقط بل إن هناك 8 محطات رئيسية تشملها الزيارة كان توماس مان نفسه يتردد عليها، فأصبحت من العلامات المميزة لسياح المدينة.
حاولت كثيرا أن افهم ما الذي ميز أدب توماس مان حتى يتبوأ هذه المكانة الرفيعة في الأدب الألماني، لم أجد الحقيقة شيئا خارقا، فهو يتمتع بنفس الصفات التي ميزت كل أدباء العالم المعروفين، أنها عبقرية اللغة وسحرها الذي يطوعه الكاتب، ليصبح كالموسيقى في الآذن وفي صياغة العبارات الرصينة في جمل هادئة متينة البنيان، وأيضا في السرد دقيق التكوين، والمختار بعناية فائقة.
بشيء من التبسيط يمكن تشبيه كتاباته اللغوية بكتابات العقاد الأديب المصري الكبير 1889ـ1964، الذي انتهج أسلوب السهل الممتنع في كتاباته، والمقصود به براعة الكاتب في تحكمه في اللغة التي يستخدمها في الكتابة مع البعد عن السطحية، وهو الشئ الذي يلقي صدى في نفوس القراء المستنيرين المؤمنين بمسؤولية الكلمة المكتوبة.
من قصصه ورواياته المهمة: الموت في البندقية ، الدكتور فاوستوس ، لوته في فايمار ، يوسف وإخوته بأربعة أجزاء ، البطة السوداء ، فيلكس كرول ، ماريو والساحر ، إضافة إلى رواية عائلة بودنبروك والجبل السحري.
تحديدا تعتبر رواية عائلة بودنبروك التي كتبها في سن السادسة والعشرين هي من أكثر الأعمال التي أهلته إلى الفوز بجائزة نوبل في الأدب سنة 1929، ترجمت عائلة بودنبروك إلى اللغة العربية في 0010 صفحة، وصنفت على أنها من روائع القرن العشرين الروائية باعتبارها درة فنية يزهو بها الأدب الألماني لأنها تنبأت بسقوط الطبقة الوسطى التي مهدت لصعود نازية.
لقد برع توماس مان في سردية سقوط البورجوازية في ألمانيا وأوربا عبر فصول الرواية بشكل دقيق، قياسا على نفسه هو وعائلته التي كانت تنتمي أصلا لتلك الطبقة، لهذا كان سهلا عليه تفسير صعود العائلة ومن ثم انهيارها، وفي الرواية يستطيع القارئ أن يستنتج أسباب صعود وسقوط الطبقة البورجوازية في ألمانيا وأوربا بشكل عام. كان الأدب السياسي ظاهرا في روياته، مثل رواية ماريون والساحر والذي تطرق فيها إلى الأخطار التي تهدد الديمقراطية الوليدة في ألمانيا بعد نجاح هتلر في انتخابات عام 1930 . ثم بدأ وضوح الخط السياسي في كتاباته يأخذ منحي قوي عندما حذر من الجور والانقلاب على الحياة البرلمانية عن طريق الكيان الدكتاتوري، وقد حدث ما تنبأ به فبعد أن سيطرت النازية على سدة الحكم في ألمانيا كان النازيون كلهم تصميم على إخضاع الثقافة لسيطرتهم، وهو الأمر الذي بدؤا بتنفيذه بالفعل بعد صعود هتلر للسلطة ، حيث أصبح منظراً مألوفاً حرق الكتب وطرد أساتذة الجامعة.
هرب توماس مان إلى سويسرا، وأسقطت عنه الجنسية الألمانية، فعاش خمسة أعوام في سويسرا أولاً ثم انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم عاد إلى أوروبا العام 1952 وعاش في سويسرا حتى مات فيها. لا شك أن مسيرة هذا الكاتب الكبير مازالت حية داخل أروقة الثقافة الألمانية فهو من أكثر الكتاب الألمان الذين اهتموا بالجانب الاجتماعي والسياسي في كتاباته، وكان دائم التذكير بأن الكاتب والفنان عليهم الانحياز إلى المشاكل الاجتماعية والسياسية التي تهدد الناس وألا يكونا محايدين لأنهم من أكثر الناس إحساسا بمشاكل الناس ، لهذا وجب أن يعلو صوتهم ضد قوي الجهل والبطش انتصارا للديمقراطية.
767 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع