تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء السادس عشر
جس نبض
موقع الناصرية العسكري، يحرسه جنود معاقون، سياقات تعامل لحراسة المقرات الخلفية معمول بها في الحرب، يُلزم ارسال الاصحاء الى جبهة القتال ليموتوا دفاعا عن الرئيس، وابقاء غيرهم والمحظوظين، المحسوبين على ذوي الشأن، في اعمال الحراسة. المذخر العسكري، مخزن الجيش الرئيسي للرز والطحين والارزاق الجافة، يكفي خزينه أهل المدينة لأسابيع، يصل بابه الرئيسية مئات المواطنين، من كل الاجناس والفئات العمرية. يحتشد مئات آخرون خلف سياجه، يفتشون عن ثغرة يجعلونها بابا للدخول. ساعات من الانتفاض عَلمَّت النسوة فن التعامل مع الجنود الحراس، دفعت أحداهن بطفلها الذي لم يتجاوز الخامسة باتجاه الحارس القريب من الباب:
- أذهب الى عمك ذاك، سيعطيك هدية في الحال، ثم التفتت الى صاحبتها وقالت:
- ارسلي عليوي مع ابني، دعينا نرى ردة فعل الجندي.
- يعني تجسين نبضه، مثلما يقولون.
الطفلان يقتربان من الجندي الحارس القلق، يتأملان هدية عيد، لا علاقة لهما بغاية الامهات اللواتي يترقبن الفرصة للانقضاض عليه. الموقف برمته مثير للتوتر والخوف. الاوامر الموجودة عند العسكر تؤكد إطلاق النار على أي هدف يتجاوز السياج، لكن الهدف هذه المرة أطفال صغار، لا يمكن لأي من العسكر اطلاق النار على اجسادهم الغضة.
محاولة الالهاء والارباك تنجح، فتتقدمت مجموعة الامهات وباقي النسوة الموجودات قريبا من الحارس الذي يبادر بالقول:
- ماذا يجري؟. ما تعملونه ممنوع، اخرجوا رجاءً خارج السياج.
تجيبه أحداهن:
- الخزين ملك الشعب، نحن الشعب، نريد حقنا فيه، لا علاقة لنا بالحاكم والحكومة، يرد عليها بلعثمة واضحة:
- وما دخلي بالحكومة والشعب، أنا مجرد جندي أحرس الباب.
ينتهي موقف المساومة، باندفاع المئات، موجةٌ أخذت في طريقها النسوة المساومات والجنود الذين قدموا لتعزيز الحراسة وجزء من السياج.
دخلت الجموع كتلاً كل منها باتجاه، أمرأة تحمل كيساً من الرز على ظهرها القوي، تجري مسرعة الى البيت تتامل الظفر بآخر فالخزين كثير، صاحب عربة يجرها بنفسه، يقترب بها من خزين الطحين، يدخل مسرعاً، يخرج كيساً يضعه فيها، يعود ثانية كأنه في سباق مع الزمن لا يثق بامكانية تكرارها، يجلب آخر، يجد الاول قد اختفى، فالبعض يستمتع بنهب المنهوب، والآخر يرى الحرام في التدافع مع النساء بمواقف النهب، فيحل لنفسه الاستحواذ على المنهوب. الناتج كيس واحد للشخص الواحد مسألة عادلة برأي الكثيرين، حتى بدأ من يطالب بتطبيقه عرفاً في غزوات النهب المضمون.
مجيد صاحب العربة، الذي تم التجاوز على حصيل غزوته، يجد حلاً سريعاً للحد من التجاوز الحاصل، واثبات عدم صحة العدالة في مسألة الكيس الواحد للفرد الواحد، بالاتفاق مع جار ضعيف البنية لا يقوى على حمل ما يزيد عن ثلاثين كيلو غراماً، والاكياس التي تملأ المذخر أقلها خمسون.
ينادي عليه بلهجة الاكبر سناً:
- چاسب، ابقى جنب العربة. أمنع أولاد الحرام من سرقتنا، سيكون لك كيس رز مقابل كيسين لي، وآخر طحين مقابل أثنين لي أيضاً، فانا صاحب العربة، وأنا الذي أجلبها، سأوصل ما تحصل عليه الى بيتكم، اذا ما اتممنا العمل كما نريد، الرزق والحمد لله كثير، وأولاد الحرام أيضا كثيرون.
يمد يده داخل العربة، يخرج بندقية محشوة:
- خذ هذه البندقية التي لم تستعمل من قبل، لقد أخذتها توا من أحد الجنود.
- هل تعرف كيفية استخدامها.
يحيبه:
- نعم أعرف، لقد جندوني في الجيش الشعبي خمس مرات، يكلمه بلهجة التشجيع على اتمام المهمة، فالنتيجة مغرية:
- أذهب انت بسرعة وأنا باق في هذا المكان، لن أبرحه ولا أسمح لاحد بالتقرب منه، سأكون بأتم الاستعداد، وسأملأ صدر من يجرأ على سرقتنا بالرصاص، ليكون في علمك، أننا لسنا قليلي الشر. يرفع كلتا يديه الى السماء داعياً:
- يارب سهلها علينا.
يعود مجيد الى المخزن مسرعاً، لا وقت عنده لسماع الاجابة، ولا الانتباه الى الاستعراض الواضح للقوة الفارغة الذي يبديه چاسب نصف المعاق.
رجل يسحل كيساً من العدس، يتوسل الآخرين مساعدته على وضعه فوق ظهره المحني، فلم يجد من يسعفه. الوقت ثمين لا يمكن تبديده على اسعاف شيخ هنا وعجوز هناك. الفكر مشغول فقط بالصيد الثمين.
المذخر يفرغ خزينه الاستراتيجي بنصف ساعة، يصبح خاوياً الا من بقايا رز وبقوليات تسربت الى الارض، من شقوق أكياس اتسعت من أحتكاكها بالارض الاسمنتية، أثناء جرها من قبل كبار واطفال غير قادرين على حمل اوزانها.
الوقت يقترب من انتصاف النهار، يجري سريعاً، أحداثه جسام. الأعلام الملونة ترفع على سطوح البيوت، والنسوة تزغرد من على سطوح البيوت، والشباب يطلقون النيران في الهواء من وسط البيوت.
خمسة عشر حزبياً قُتلوا في عموم المقرات التي سقطت، وما تبقى منهم غير القياديين يغيبون بين الجمهور، خلعَ بعضهم بدلته الزيتوني المثيرة للشبهة، وارتدى اللباس العربي، ومن أجتهد في الهروب مبكراً، قصد مضيف الشيخ المحسوب على عشيرته، يلوذ به من قتل محتوم.
المعسكرات خارج المدينة تحافظ على تماسكها بشكل مقبول، ضباطها عرفوا طبيعة الجمهور الغاضب، تآزروا في الدفاع عن أنفسهم، رغبة في البقاء. الطرق من والى الناصرية اغلقت تماماً. الثوار المنتفضون والعشائر في كل مكان. الشارع من المستشفى العسكري الى مقر قيادة علمليات الجنوب يقطعه المنتفضون. يدخلون المستشفى، تدفعهم سريعاً اشاعات بوجود ضباط كبار يتعالجون من جروح بينهم الفريق منار، قائد عمليات المنطقة الجنوبية، يصلون ردهة خاصة، يجدونه حقيقة قائمة، يختلفون في التعامل مع حالته، يتبادلون الرأي بغضب شديد.
ثلاثة آراء أعطيت مختلفة عبر عنها الموجودون بحديث تداخلت فيه العبارات:
- نقتله في الحال، انه قائد عسكري بعثي، يستحق الموت.
- ننقله الى الجامع، لنحاكمه هناك، حتى يلقى مصيره المحتوم أعداماً بالرصاص.
- لا هذا ولا ذاك. دعونا نحرقه هنا في غرفة العلاج.
رأي رابع يقدمه كريم الذي عرف باتزانه في أحداث البصرة وفي واقعة عضو الفرع قبل ظهر اليوم:
- يا جماعة الخير، دعونا نحتفظ به أسيراً، قد ينفعنا في المستقبل، فالمعركة مستمرة لم تنته بعد. يحاول احدهم فرض رأية بقوة السلاح المحمول. يسحب الاقسام، فيتحرك كريم ليقف بينه وبين الاسير، قائلاً:
- أخوان، الثورة اكبر من الانتقام، يمكن ان نقتل اي شخص الان، لكننا نفقد فرصة مساومة قد نحتاجها في المستقبل لانقاذ ثائر مثلكم.
ينقسمون ثانية بين مؤيد ومعارض لمقترح كريم، وهم كذلك منقسمون تخترق اطلاقة مدفع دبابة جدار الغرفة، فتصرع اربعة منهم في الحال بينهم صاحب الرأي الثالث. يتبعثر الجرحى من باقي الردهات.
يعود كريم الى الواجهة، قائداً ميدانياً شجاعاً لمجموعته يوجه اتباعه والقريبين منه:
- أتركوا المكان حالاً، الجيش يتقدم الى المستشفى. يدفع الثوار أمامه في الوقت الذي تُنزل فيه اربعة طائرات سمتية قوة خاصة محمولة، لتجهز على من تأخر عن اتمام عملية الانسحاب. تنقذ الفريق منار وباقي الضباط المجروحين.
يعاود المنتفضون الناجون من عملية القتل وبعض من الجمهور، محاولة الدخول الى المستشفى ثانية بعد ساعة من انسحابهم كنوع من التحدي، كبر في نفوسهم بعد خسارة بعض الزملاء المجاهدين. لكن الدخول هذه المرة خلى من المساومة ومن الانتقام، فقد أخليت المستشفى من الضباط الراقدين وما تبقى قليل من الجنود المساكين. يخرج الثوار المنتفضون منها في سعي حثيث لاكمال مهام أخرى، ويبقى الجمهور بتشكيلته العريضة من متفرجين مدفوعين بحب المشاهدة والاطلاع، وطالبي ثأر، ومخربين مدسوسين، وصائدي فرص ساعين لاقتناصها من المال العام، يجوبون ردهاتها. ينزلون الجنود الجرحى من اسرتهم ليأخذونها غنيمة. يحطمون الاجهزة والأشياء التي لا يمكن حملها. كل شيء مسموح ومباح في هذه الغزوة السريعة.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/45214-2020-07-13-15-54-46.html
642 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع