تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء الخامس عشر
صمود كاذب
يتداعى الموقف الامني في عموم الجنوب باضطراد، تَلفُ المخاطر أجساد المسؤولين السياسيين والاداريين حد الشعور بالاختناق. توزع الاستخبارت العسكرية العامة مدراء شعبها ورؤساء الاقسام على محافظات الوسط والجنوب، تحت ضغط السعي لايقاف التداعي. يدخل المدينة خمسة منهم ليلة أمس، يفتحون مقرا لهم في مركز الاستخبارت. يرسلون البرقيات الى المقر العام، (الموقف خطير للغاية. سقطت المحافظة. حُرق جسد عضو الفرع. هرب المحافظ والمسؤولون الحزبيون. الثكنات العسكرية داخل المدينة تُنهب من الغوغاء الذين دخلوها بالآلاف. يترك منتسبو الشرطة مواقعهم. يهربون الى أماكن مجهولة).
يأتي الرد في الحال، (أصمدوا في مواقعكم دفاعا عن الحزب والثورة. السيد الرئيس القائد يثمن جهودكم. يشيد ببطولاتكم. لا تتركوا مقراتكم مهما كان الثمن. ستصلكم النجدات قريباً، هي في الطريق اليكم).
العميد زهير الشيخلي، عسكري محترف، منضبط، معروف بالتزامه الاخلاقي، أقدم الموجودين في المركز رتبة، يطلب التوقف عن الكلام:
- أصوات هتافات غيرمألوفة تقترب من المقر.
يتأهب الحراس لاطلاق النار، يصدر أوامره واضحة:
- لا تطلقوا النار، دعونا ننتظر، عسى أن يغيروا من وجهتهم.
يجيبه أحد الضباط:
- سيدي، أنهم حرقوا عضو الفرع، سوف يحرقوننا أيضا.
- تمهلوا، نحن عسكر، ينظر الينا الجمهور نظرة تختلف عن عضو الفرع والمحافظ.
- سيدي، أنت حضرت مساء أمس اجتماع المحافظ، الذي أكد على ضرورة الرد بقوة على أي تظاهر، وهم أمامنا بالآلاف.
- لقد ترك المحافظ محافظته، وقتل عضو الفرع، دعونا نتصرف بحكمة، أنا الأقدم بينكم، وسأتحمل المسؤولية، أنا لا أوافق على رمي المتظاهرين، الرمي سيكون محدداً فقط على الذين يستهدفونكم برمي مباشر، لا نريد مزيداً من اراقة الدماء.
يقترب الحشد، يصل العميد زهير الباب الخارجية في محاولة للتأثير على المتظاهرين، يناديه أحد الضباط:
- سيدي أدخل رجاءً.
يؤكد ضابط آخر:
- يمكننا الدفاع عن المقر إذا ما بقينا في الداخل، متحصنين خلف الجدران.
العميد من العسكر القديم، ثقته بنفسه مفرطة، وبأعتقاد لازمه منذ صيرورته طالبا في الكلية العسكرية بدورتها الثالثة والاربعين عام 1964، يكرره قولاً في جلساته الخاصة:
- الجيش سور للوطن، والشعب لا يمكن أن يهدم سوره.
يستمر في تقدمه نحو الجمهور بكامل قيافته العسكرية، لا يولي أهتماماً لكل النداءات التي تحثه على العودة الى الداخل، همه وقف اراقة الدماء، معتقداً امكانية تحقيقها بضوء فلسفته المذكورة. يقف امام الجمع الذي طوق المقر من كل الاتجاهات.
يحاول منادياً بصوت لم يعد يُسمع وسط الصخب وكثر الهتاف:
- اخواني، كل الذي تريدونه سيتحقق، بالهدوء والتفاهم.
تتجاوزه جماعة تؤمن بهذا القول فلا ترد عليه، ولا تفعل شيئاً من أجله. تكيل له جماعة أخرى السباب، وتزيد عليه قولاً:
- انتم أصل البلاء، لقد مللنا منكم، نحن نموت وأنتم تعيشون على أجسادنا، الا لعنة الله عليكم وعلى عسكركم وقائدكم.
يحاول الرد وقد أصبح وسط جمهور هائج، يتأرجح يميناً وشمالاً بموجات تفوق موجات البحر الهادر قوةً. يهجم عليه من ذاقوا ألم المطاردة والاعتقال. يدفعونه بغير انتظام الى داخل بناية المركز، يجد الضباط انفسهم في موقف لا يستطيعون فعل شيء الا الاستسلام.
نساء تحمل عصياً، شيوخ جمعوا قواهم المتهالكة لهذا اليوم يحملون مناجل، أطفال تعودوا اللعب بادوات الحرب، يحملون بنادق بلاستيكية، يدخلون جميعاً في موقف تحدٍ حقيقي.
العميد زهير لم يتعود الاستسلام، يحاول الوقوف على عتبة السلم الداخلي، بالعاً الاهانة التي تلقاها دفعاً قبل قليل، عدل قيافته، عاود الكلام:
- اخواني، نحن عسكريون، نقوم بواجباتنا، ننفذ الأوامر، لا علاقة لنا بالرئيس.
كلام هراء في مواقف الانفعال، تضربه امرأة بعصاها قائلة:
- هذا المركز أخذ ابني، رماه بعد سنة جثة مزقها التعذيب، من يدفع الثمن؟.
من يسدد الدين الذي عليكم؟.
أعيدوا لي ابني، وساموت هنا دون ان يمسكم أحد.
لا معنى من التدخل أو التوسل، فالعميد زهير ضابط جاد، يؤمن بالقدر، معروف عنه الانضباط العالي، يسكت عن الكلام، كمن يعرف دنو المنية في الحال، لا فائدة من الكلام ولا أمل بتغيير المصير المقسوم، لكنه يحاول محاولة أخيرة، يأساً لا يظهر علاماته، قال:
- يا جماعة، أنا هنا المسؤول، خذوني، أقتلوني وأتركوا باقي الضباط، أنهم يأتمرون بأمري، ولا ذنب لهم بما حصل في السابق، وبما يحصل الآن. تحاول الحاجة، ضربه بعصاها. يتقدم ابنها الثاني ببندقيته صوب العميد، يرديه قتيلاً، ويكمل على من تبقى من الضباط.
يصعد الى سطح البناية، ينادي بأخذ الثأر من أزلام النظام:
- لا استخبارات بعد اليوم.
يستباح المكان، وتنتشر الأضابير والاوراق بين المندفعين، ويتطاير بعضها في الهواء، اسرار حافظت عليها الدولة عشرات السنين، أوصل الهواء بعض أوراقها متطايرة حدود البلاد.
عرضٌ مجاني للأسرار، كل شيء معروض ومباح، نشر الخبر وبث الاشاعات والاقاويل كذلك بالمجان.
لم يبق مقر حزبي أو حكومي قادر على الصمود أمام جمهور منتفض لم يتوقف اندفاعه عند حدود.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/44850-2020-06-18-08-03-44.html
426 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع