تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء الرابع عشر
زفة ميت
الوجهة حي الصحة، هناك وكر للمجاهدين المعارضين في جامع الحي، يلتقون فيه عشرة آخرين، يتفقون على الشروع، فالوقت أصبح مناسباً، لا يمكن التأخير.
المسؤول الاعلى في الوكر شيخ بلحية بيضاء يعطي التوجيهات:
- اثنان في كل مجموعة هو التشكيل الذي تعملون به.
- توزعوا على المناطق المتفق عليها. مجموعتا عبد الحق وكريم تذهبان الى الجسر.
يتم الخروج من الجامع تباعاً.
الجسر الرئيسي الذي قُصفَ من قبل الحلفاء قبل أيام، يزدحم بالعبور، فأصبح الاكثر ملائمة لاثارة الذعر ونشر الاشاعات، بقصد التأثير على معنويات الاجهزة الامنية والحزبية، وبما يسهل مهاجمتها.
تصل المجموعات الى أماكنها المحددة، وتبدأ اطلاق النار باتجاه المقرات الحزبية، فيزدحم الجسر، وتسقط الى النهر من فتحة أحدثها القصف سيارة صالون تحاول عبوره مسرعة، عندها توزع الثوار الاربعة بين الجمهور المصاب بالهلع مصدوماً بمشهد السقوط.
يتقرب كريم من أحدهم، يهمس في اذنه:
- يقولون وصل المجاهدون الى الجسر، ثم يتجه الى آخر يكرر نفس القول.
يبتعد عنه سالم الذي صاح بأعلى صوته:
- يسقط صدام حسين. الموت للطاغية صدام حسين.
تعم الفوضى المكان، فيسحب كريم بندقيته ويبدأ اطلاق النار في الهواء، ثم يعطي أشارة الذهاب باتجاه المحافظة حسب الاتفاق مع المسؤول الشيخ عبد الرضا.
المئات يتوجهون صوبها بلا سلاح. يركضون دون السيطرة على سيقان اطلق لها العنان. يرتبك الحرس فيترك سلاحه المحشو بالرصاص ويلوذ بالفرار.
يتقدم الجمع ستة مسلحين يقودهم كريم، بينهم الاثنان اللذان التقاهما في الجامع فجراً. يرمون على الباب والشبابيك، فيتزايد التدافع صوب الباب، التي تنفتح بسهولة.
عشرة دقائق كفيلة بانهاء المعركة التي يتفوق فيها الجمهور عدداً وحماساً واصراراً على الانتصار.
أربعة شرطة قريبين من غرفة المحافظ، يخشون اطلاق النار على الجمهور الداخل عنوة، وخمسة من أفراد الحماية الخاصة، تشلهم المفاجأة غير المحسوبة، لا يستطيعون اطلاق النار، ولا حتى المحاولة باستخدام السلاح.
المحافظ أو الرفيق المحافظ الذي أعتقد أن مقره قلعة، لا يقربها الاعداء، وأعتقد نفسه حاكماً عليها يتفيأ بظل الرئيس، جدار حصنه المنيع. قلعته تُقَطِعُ اوصالها سكاكين الابناء، والحصن يدخله المنتفضون وأصحاب الغايات الاخرى أول مرة دون إذن الرفيق وموظفي السكرتارية الذين لم يحضروا لأضطراب الاوضاع.
الدخول الآن خارج السياقات المعتادة، تجاوزٌ على انتقائية الدخول التي اشتهروا بها في السنتين اللتين حكم بهما المحافظ. الشروط التي وضعها الحزب في الدخول وزاد عليها المحافظ تسقط في الحال، لتبدأ حقبة الثورة التي تخلو من أية شروط. الدخول هذا اليوم مباح لكبار القوم وشبابهم وهواة اللعب من الصغار.
الثوار المنتفضون الستة مازالوا في المقدمة يتعقبهم مئات، يضرب أحدهم باب الحاكم الفعلي للقلعة بحذائه المليء بالطين، لم يجده في المكان المقصود، لقد تسلل هارباً قبل الوصول بدقائق معدودات.
عضو الفرع المشارك في قيادة المحافظة سياسياً، لم يسعفه الوقت الى الهروب، وربما رفضه بالطريقة التي أتبعها المحافظ. يخرجونه من العرين مأسوراً، ببدلةٍ زيتوني، ألتصقت بجسده المتعرق طوال ليل قضاه في متابعة أتصالات لم تتوقف مع القيادة القطرية ببغداد، وفي تقديم التوجيهات الخاصة للمفارز الحزبية، وإسداء النصح لآمري قواعد الجيش الشعبي المنهارة معنوياتها قبل الاشتباك بالثوار.
البدلة تقطعت ازرارها في أول محاولة سحب قوي لجسد ممتلئ، شُلت عند نصفه الاسفل، ساقان كانتا خير معين له في التبختر أثناء المسير. تنهال عليه الضربات من كل صوب، كأنه المسؤول وحده عن القتل والسجن والاخفاء والتجويع أو هو من أشعل الحروب وخط خسارتها بادعائه المعرفة بخططها الفنية.
الخروج بزفة عريس محكومٌ بالموت، ليس لها طعم الاعراس بعد أن تبدلت فيها الزغاريد بنداءات الموت، وتبدلت فيها اتجاهات العيارات النارية من الهواء الى الصدور والحيطان. يسقط عريس الغفلة أرضاً، وقبل ان يصل ترابها المغموس بالهموم لطمه على رأسه الحاسر شيء لا يمكن أن يكون قبضة إنسان، ولا يمكن أن يوصف بالحديد، رن صداها في أذنيه رنينا بموجات متواصلة، مثل الرنين الآتي من اسقاط عمود حديدي على سندان من الفولاذ، فاتسعت موجاته على شكل دوائر بادية من الرأس لتتلاشى عند قدمين جعلتهما متخاذلتين، فتحول جسداً معداً للذبح، يُسحب الى المسلخ من ساقين مشلولتين، وأعصاب لم تعد تنقل سوى موجات رنين مستمرة بغير انتظام. يدفعونه أعلى، يهبطون به ارضاً صلدة، أو بالاحرى يرفعونه ويهبطون به كتلة لحم هشة، أنتهى داخلها الاحساس بالالم، وتوقف العقل عن التفكير، وبقى الوجه شاحباً وكأنه قد شاخ هذه اللحظة قدر ما تبقى من سنين عمره.
الجسد المرفوع الى سيارة الحمل "البيكب" تُسمع انفاسه شخيراً وسط الضجيج، يتم ايقافه عموداً عاطلا عن الاستجابة، بأيادٍ مدت من الجهات الاربعة، وأخرى تفرغت الى مواصلة الضرب على رأس ينزف دمه سيلاً الى فم مفتوح ينقله آلياً الى جوف فارغ، دون ممانعة من شفاه لم تعد تتحرك، كأن صاحبها فقد الوعي تحت تخدير الركل المستمر، وهول الصدمة التي سببها انهيار القلعة تحت اقدام الداخلين. يلفون به محيطها الكئيب، فتتعالى الاصوات المطالبة بالقصاص موتاً في الحال. يخرجونه الى الشارع القريب، خلفهم وامامهم آلاف تهتف بسقوط الديكتاتور. تتزايد الاعداد بالآلاف مع كل متر في المسير.
سائق السيارة المنتشي بنصره الناجز يتقدم صوب شوارع أخرى، فيبلغ ساحة المدينة الرئيسية. وكالات الانباء تنقل الخبر، وتزيد من عندها رتوش نفسية تثير الجماهير المتجهة ناحية المقرات والرموز والأجهزة الامنية، التي تداعت جميعها الواحدة تلو الاخرى قبل منتصف النهار بقليل.
بناية المحافظة أو القلعة كما يسميها البعض قبل سقوطها، تُنهب تماماً، يتجه من لم يحصل على غنيمة منها لاهثاً خلف الزفة، يصلون الساحة سوية. ينزلون الشخص الذي يدفعونه الى الجحيم وقد خفت رعشة جسمه شيئاً فشيئاً، حتى تلاشت حركته، وتشجع الذباب في مهاجمة فمه وعينيه.
يضرب الواقف في الاعلى على سطح السيارة العلوي، بصيغة الأمر:
- توقف هنا، لقد وصلنا المكان المقصود.
تنزل الكتلة البشرية ركلاً، فتتدحرج مكورة، ليتلقفها لاهثون، يكملون الركل الذي بدأه الواقفون في الاعلى.
يتقدم رجل بجلباب مفتوح من الصدر، يدفع برميل لم يُنظف من زيت لصق بجدرانه الدائرية، بيده اليسرى قنينة نفط أبيض، كأن في نيته الايحاء لماسكي الجسد في ان يقوموا بفعل طالما حلم به، يوم أطفأت في جسده أعقاب سكائر المحققين في مديرية الامن العامة قبل شهرين. يعدل البرميل بوضع الوقوف، وهو هادئ بشكل لم يتعوده من قبل.
يتجه الى الجمهور قائلاً:
- انزلوه هنا في الجب، هكذا هي النهاية المكتوبة للبعثيين.
يتلقف الجمهور الغاضب معنى الحلم، كثيراً منهم حلم الحلم ذاته عندما مر في احد الدهاليز التي شيدها الحزب لتدجين الابناء.
يُحمل الجسد من الارض شبه عار. يُنزل الى البرميل، صاحبه مذهولاً لا يدري بما يدور من حوله، يجلب أحدهم اطار سيارة صالون تآكلت حافاته من كثرة الإستخدام، يضعه في الرقبة التي لا تقوى على الانتصاب، يسكب النفط من أعلى الجسد المكسو بطبقة شحم كثيفة.
يحاول كريم التدخل، قائلاً:
- هذا يكفي، لقد فارق الحياة، التمثيل بالجثث غير جائز شرعاً.
يتدخل الشخصان اللذان ألتقاهما في الجامع فجراً. قال أحدهم:
- كريم، لا تتدخل، الناس منفعلة لا ترى بأعينها كما أنت ترى، ولا تفكر بعقلها مثلما نفكر، أي واحد منهم لا تعجبه آراؤك، سيتهمك بالخيانة ويطالب بموتك، وقبل أن ترد على هتافه ستجد نفسك معه في نفس البرميل.
يكلم كريم صاحبه:
- علينا المغادرة على الفور أنا لا أريد أن أكون في موقف يحسب تجاوزاً على أنسانية الانسان، وان كان هذا الانسان مجرماً يستحق الموت، ثم ان الموت لا بد وأن يأتي عن طريق المحاكم.
ينتهي النقاش. توقد النار من عيدان ثقاب جاءت بالعشرات من كل اتجاه وقف فيه الحالمون. يتعالى التكبير، فينتشي الحاضرون، الحالمون وغير الحالمين، يصفقون جميعهم مع تزايد اللهيب. يهتفون مستبشرين بسقوط الدكتاتور.
المحافظ الذي صار أسداً في اجتماع الامس، عندما طالب الجهات الحزبية والامنية بالرد القوي وابادة المنتفضين، ينجح في الهروب متسللاً. يترك المحافظة الى جهة مجهولة، تلاحقه الاشاعات، اقواها تلك التي تؤشر توجهه الى ناحية العلم بتكريت حيث تقيم العائلة.
يتفرق أعضاء الفرع من الحمائم والصقور بعدة اتجاهات، لم يبق في المقرات الحزبية الا قليل من الاعضاء والانصار والمؤيدين المعنيين بالحراسة. تشير آخر الاخبار ترك بعضهم مواقعه واتجه الى مكان مجهول، والتحق بعضهم الآخر الى صفوف المنتفضين، يهتفون بالضد من الرئيس، بصوت يعلو على أصوات المنتفضين الحقيقيين، تخلصاً من تبعات الانتماء.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/44530-2020-05-27-15-45-29.html
655 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع