تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء الثالث عشر
وسط المدينة
الناصرية مدينة يعتصرها القلق، سكانها يلتزمون بيوتهم، يغلقون على أنفسهم أبوابها ليستريحوا من ريح لا يعرفون مصدرها، ولا يأمنون من يعرفون. مالكو أجهزة المذياع الصغيرة، يلصقونها على آذانهم، يسمعون الاذاعة البريطانية ومونت كارلو، يتقلبون بينهما، يعيدون سماع الخبر اربعة مرات، ثم يحولونه على صوت أمريكا ليسمعوه خامساً بنفس الصيغة المرتبةُ بدقة، وكأن محرره واحد لجميع المحطات. (البصرة سقطت. الانتفاضة اتسعت. الجزائر تعرض استضافة العائلة والرئيس) مادة الاعلام الدارج لهذا اليوم.
هدوء يبدده الرمي المتواصل على بناية المحافظة من بعيد.
الحزبيون يدخلون مقراتهم، يشجع بعضهم بعضاً، يلومون انفسهم بدلاً من لوم الرئيس، فالخوف منه باق، لم تلفظه النفوس التي لفظت كل المبادئ والشعارات، يحكمون غلق الابواب، ويرصون أكياس الرمل خلف شبابيك مقراتهم بحذر شديد، يفكر غالبيتهم بكيفية الخلاص من نقيضين: قتلٌ محتملٌ من قبل المنتفضين، أو حساب يصل حد الاعدام من قبل الرفاق القريبين.
الجهات الامنية تستنفر منتسبيها. تزيد أسلحتها. تُحَصُن مواقعها. تستنجد بقيادات عسكرية وصلت بعض وحداتها متعبة، يحمل منتسبوها الباقون على قيد الحياة، فوق اكتافهم ثقل الهزيمة، لا يقوون على حماية انفسهم، ولا مجال لهم بحماية الآخرين.
بغداد ترسل الى هذه المدينة المهددة بالسقوط بعد البصرة ضباطاً من الاجهزة الامنية لاغراض التعزيز، ونقل الحقيقة مباشرة الى الرئيس.
أهلها يختفون من شوارعها، عزلوا أنفسهم داخل بيوت مغلقة، أنتقل بعضهم مؤقتا الى أقرباء في القرى البعيدة. يصح تشبيهها مدينة اشباح، ويصح تشبيه أولئك المقاتلين الذين نجحوا في الوصول اليها متسللين من الهور بالاشباح.
الناصرية هذا اليوم لا تشبه بصرة الامس التي تزاحم في شوارعها العسكريون والتجار ومستغلوا الفرص والثوار المنتفضون.
آذان الفجر باصوات تشق عباب السكون، يصاحب انتهاءها رمي شديد من عدة اتجاهات، كأن توقيتها محسوب، ساعة صفر لبدء الانتفاض.
القادمان من البصرة يدخلون المدينة مرهقين، يتجهون الى حي المعلمين دار العائلة. سيارات تمر الى جانبهم مسرعة، لا يمكن التفريق بين اصحابها، حزبيون او رجال امن، أم عسكريون استبدلوا بزاتهم الرسمية بملابس مدنية، أم طلائع مجاهدين وصلوها من الخارج، جميعهم يتحركون بسرعة، مختلفين في غاياتهم، يوحدهم التسابق مع الزمن، فلا وقت لديهم للانتظار في دروب تحقيق الغاية التي يريدون.
الوقوف أمام الباب الرئيسية للدار مُحيّر بعد شهرين من الغياب، وسط احداث حرب خاسرة، واشاعات تحرك المشاعر والافكار. الطَرقُ عليها، وجرصها القائم بلا كهرباء يزيد الفزع، والانتظار الطويل أمام الباب يثير الشبهة، فالمدينة مازالت بحوزة السلطة، وان اختفت معالمها من غالبية الاحياء.
الاب مسترسل في صلاته عندما خيل اليه أن هناك طرقاً لا يميز مكانه، استعجل في أداء الركعة الاخيرة، حملق عبر سحابة من الظلمة الى الباب البعيد، حمل فانوس العائلة القديم، عاود التنصت بحاسة سمع كاملة الاستعداد.
هناك طرق بالفعل، أدهشه الالحاح بمحاولة تكراره، اذ من النادر أن يُطرق بابهم في مثل هذه الساعة المبكرة، وزاد من سعة الدهشة خفقان القلب الذي لم يتوقف. أنتظرَ لحظة في مكانه حتى سمع الطرق ثالثة ورابعة، وصوتا قوياً:
- أفتحوا الباب أنا كريم.
نعم انه كريم، نبرة صوته واضحة. يتقابلان بالاحضان. يُقَبلُ بعضهم الآخر. يُحَمِدُ الاب أبنه السلامة، ويسحبه الى الداخل:
- أدخل بسرعة وأغلق الباب من خلفك، الوضع لا يطمئن.
- لحظة معي صديق عزيز.
- أهلاً بكما سوية، أدخلا. ما الذي أتى بكما في هذا الوقت؟. كيف تمكنتم من الوصول، والناصرية مطوقة، وطرقها مقطعة، والحكومة لا تسمح بدخولها لأحد أو الخروج منها كما يقال؟.
- انها قصة طويلة، يحتاج شرحها وقت طويل، المهم وصلنا وأنتم موجودون والحمد لله.
- الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
ما سمعناه وشاهدناه من فوضى لليومين السابقين يذكرنا بدنو يوم القيامة، لدينا الوقت الكافي لاتمام الكلام.
- أدخل أنت وسالم، سأضع السيارة في المرآب.
- نحن جياع ورائحة الخبز الحار تملأ أنفي، لم يمحها قلق الطريق.
يفتح الباب بسرعة.
الترحاب المتكرر، يوقظ أهل البيت من نوم لم يكن عميقاً، يتقاطرون على غرفة الضيوف واحد بعد الآخر، وقد أختلطت في تعابير وجوههم الابتسامة بانفعالات المفاجئة، فنزلت الدموع، حتى من الاب المعروف بقوة اعصابه في المواقف الصعبة. الام تُصر على سماع القصة كاملة. تسأل عن وليد أقرب الاصدقاء. يرويها منقوصة، يقتطع منها عمداً مادار بعد الساعة السابعة صباحاً حتى مغادرته بيت الحاجة رضية. يؤجل تفاصيل ينوي سردها للاب المربي عند الاختلاء به بعد انبلاج الصباح، فيها العديد من الاحداث المهمة، تتطلب استمزاج الرأي والخوض في التفاصيل.
يعود الاب الى الصلاة التي أعتقد أنه لم يتمها أو انها بَطُلت بالاستعجال الذي فرضته الاستجابة القلقة للطرق على الباب.
يحاوره كريم بعد الانتهاء منها:
- لم تذهب الى الجامع الذي أعتدت الذهاب اليه من قبل؟.
- لا، لم أذهب منذ أسبوع، لان الجامع الذي أصلي فيه، قد أمتلأ أخيرا بالمصلين الحزبيين، ووكلاء أمن يحضرون لينقلوا ما يدور في المحيط الى دوائرهم. الحكومة أصبحت مرعوبة من خيالها.
يؤكد كريم:
- الآن عليَّ الذهاب الى الجامع مع سالم الذي لا يترك فرضاً الا ويصليه هناك، انها سُنة لا ينوي التنازل عن تطبيقها. النية الحقيقية في الواقع ليست الصلاة، فهو لم يعتد الصلاة، لكنه خَبر تاثير الجامع في احداث البصرة، فذهب وزميله، لدراسة الوضع، والتفكير بكيفية المساعدة في اشعال الشرارة في الناصرية، كما اشعلت في البصرة قبل يوم من الآن.
الجامع لم يرتاده في صباح كئيب مثل هذا الصباح، سوى عشرة مصليين، غالبيتهم من كبار السن، شكل اثنان منهم يوحي وكأنهم ليسوا من الناصرية، يَدعّون انهم من بغداد، يودون الذهاب الى البصرة، للتفتيش عن اخوانهم العسكريين المفقودين اثناء الانسحاب، داهمهم الليل في هذه المدينة، ففضلوا المبيت بسيارتهم، وسيواصلون المشوار بعد الصلاة.
صلاة الفجر تنتهي بسرعة تعجل في حدوثها علامات القلق السائدة. يستأذن كريم المؤذن المسؤول عن الجامع للاستمرار بالدعاء، يؤيده سالم والشخصان الغريبان الباقيان معهم. يوافقه الرأي قائلا:
- إغلق باب الجامع بعد الانتهاء.
حوار تعارف وتبادل لحديث قصير فيه الطرفان الباقيان في الجامع حذران، كل منهما يتصور الآخر من رجالات الامن المندسين او من الحزبيين الذين انتشروا عصر امس لاغراض السيطرة على الموقف المضطرب. الخوف في العادة يحول دون الافصاح عن النوايا.
يترك الشخصان الغريبان الجامع، بذريعة التهيؤ الى سفر سيكون طويل الى البصرة، يعاود المؤذن تأكيده قبل مغادرته الباب:
- ولدي كريم، أطفئ المحرك والمصابيح قبل الخروج، سلم لي على الوالد الذي لم يعد يأتينا الى الجامع.
يرد كريم:
- حاضر عمي، سأطفؤها وسأغلق الباب بعد مغادرتنا.
مكبرات الصوت تعمل، وقد نقلت الاذان قبل دقائق، استخدامها لعمل هزة في الناصرية أمر ممكن.
يكلم سالم:
- علينا التوجه الى المنبر لنبدأ على الفور، لا يمكن التوقف في منتصف الطريق، والفرصة مناسبة الآن.
يمسك سالم الحاكية بيده اليمنى. يبدأ بالتكبير. يحث على الانتفاض. يبشر بالنهاية القريبة. يروي بعض تفاصيل البصرة، فهو شاهد اثبات في موضوعها. يغلق الحاكية ويتجه صوب كريم. يطفئان المحرك ويغلقان باب الجامع بسرعة فيها قدر من الارتباك. يهمان بالخروج، فيلتقيان عند الباب بالغريبين، المسرعين نحوهما، يحملان حقيبتهما الخفيفة، قالا سوية:
- يقيناً أنتم من الثوار، كنا نخشاكم قبل قليل، بئس ظننا، نحن من المجاهدين، دخلنا الناصرية قادمين من البصرة بعد منتصف الليل، مهمتنا الاتصال ببعض المجاهدين، وثوار الاهوار، لاشعال الانتفاضة في الناصرية صباح هذا اليوم حتماً، انها مدينة اجدادنا.
يجيب كريم:
- الغاية واحدة لكلينا، سنذهب الآن الى البيت، لجلب السيارة، وسنؤمن الاتصال بمعارفنا ومعارفكم، وبعض المجاهدين المعروفين من السيد.
في الطريق الى السيارة نسيَّ كريم في لجة هذا الاستعجال، ذلك الفطور ورغيف الخبز الحار، أمنيات راودته طوال الطريق.
جامع آخر قريب من الجسر، يُكَبر بنفس الطريقة ويحث على الثورة. يذم النظام. يخرجان مسرعين، يُتابعون من سيارة صالون بيضاء تعود الى أمن الناصرية، شرعت باطلاق النار عليهم بكثافة.
يتكلم واحد من الغريبين:
- كريم، استمر بالقيادة، سنعالج الموقف، لدينا من السلاح ما يكفي.
يخرجان من حقيبتهما الموضوعة جانباً، بندقيتين. يفتحان الباب الخلفي. يردان على الاطلاق بحرفية عالية بمساندة سالم، فيصيبان سائق السيارة المتابعة أصابة تبدو شديدة، حتمت انحرافها والاصطدام بعمود الكهرباء. يعودون اليها بسرعة. يجهزون على الرجال الاربعة الموجودين فيها، يضرمون ببدنها النار، ثم يستمرون في طريقهم مسرعين.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/44216-2020-05-04-08-27-53.html
426 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع