تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء الثاني عشر
إعدام جنود
مدينة العمارة، تعيش ليلتها كما عاشت البصرة يوم أمس، أخبار التمرد والانتفاض والفرهود، والدخان المتصاعد من الدوائر والمقرات، تصلها من عسكر يمرون بها ومواطنون يعودون اليها، محبطين من عدم العثور على أولادهم المفقودين، وانتقادات لاذعة توجه للدولة علناً، ولرئيسها بالتحديد كذلك في العلن.
عشائر باتت تهجم على بعض المقرات العسكرية شبه الخاوية. مقاتلو الاهوار يسيطرون على جميع طرقها والممرات التي خبروا خرائطها في ذاكرتهم باتقان، وشباب ليسوا من سكنة العمارة يدخلونها مع آخر النهار، يتوزعون على بيوت محددة مسبقاً، بقصد ايقاد شعلة انتفاضة تلحقهم بالبصرة التي تناقلت الوكالات العالمية أخبار السيطرة عليها تماماً مع ساعات المغيب.
أمن الفيلق الرابع يلقي القبض على عشرة جنود، وصلوا المنطقة مشياً، لايقوون على الاستمرار، كانوا قد جلسوا على حافة طريق فرعي لأخذ استراحة تعينهم على مواصلة المسير، يُعتقلون بتهمة المشاركة في الانتفاضة، يُقسِمونَ أنهم ليسوا من بين المشاركين، ولا نوايا لهم بالمشاركة. يستنجدون بالرئيس. يستغيثون بالحزب القائد. يصيحون بأعلى اصواتهم:
- نحن من بين المنسحبين، لقد تهنا عن وحدتنا لواء المشاة الرابع والاربعين، لا علاقة لنا بما يحدث، ارسلونا الى وحدتنا، لنحاكم فيها اذا ما كنا منتفضين، واذا لم تعرفوا مكان لوائنا ارسلونا الى الاستخبارات العسكرية في بغداد، هي الأقدر على التأكد من نوايا العسكريين.
يجيبهم الرائد آمر المفرزة:
- أسكتوا خونة، عملاء. يقرأ عليهم قراراً ميدانياً بالحكم على جميعهم رمياً بالرصاص.
تتعالى أصوات الاسترحام والاستغاثة من جديد.
يقف شاب منهم يستهجن الحكم، يهتف بأعلى صوته:
- يسقط صدام، يحاول الاستمرار بالهتاف واخراج المكبوت المؤلم من داخله، تمنعه رصاصة جاءته من الرائد أسكتته الى الابد، أعقبها رصاص أنهمر على جسده من باقي المنتسبين، خر مضرجاً بدم حار، يفور مثل حمم تخرج من فوهة بركان.
يتسابق أفراد الأمن باطلاق الرصاص عشوائياً على التسعة الباقين، يوجه ثلاثة منهم بنادقهم بالصدفة الى جندي سيئ الحظ من التسعة كان غير موفق في محاولته البوح بكلام ما، وكأن دافع خفي يدفعهم الى هذا الأسوء حظاً، وكأن محاولته الكلام بهذه الطريقة، انفعالاً غير موفق في مثل هذه المواقف الحرجة التي لم يتمكن فيها ضابط الامن من قرائته انفعالاً يعبر عن صرخة هستيرية لهاجس الخوف المقهور.
يكمل الرائد مهمته بالقول:
- ارفعوا جثثهم والقوها في النهر.
يَحملُ الجثة الواحدة أثنان من المنتسبين، تلقى في مياه النهر الجاري، قرابين فدية تقدم من أجل الرئيس، ولردع الآخرين دون المشاركة في استهداف حكم الرئيس، لا مجال للتفريق بين الشك وبين اليقين، في هذه الايام الحرجة. الاخافة من وجهة نظر القيادة ضرورية، وان قُدم المزيد من القرابين. الشعب العراقي مشروع قرابين دائم كما هو اعتقادها الراسخ على الدوام، ثم ان الردع بحد ذاته مبدأ حرب يتقنه رجال الأمن والعسكريون من أبناء هذا الجيل الذين امضوا جل أعمارهم يقاتلون في ميدان الحرب، كما يؤكد العميد ضابط ركن الامن المخول بكل الصلاحيات.
مدينة العمارة ليلا لا يمكن دخولها لمن لا يحمل بنديقية ورسالة توصية، ومع هذا فالسير في شوارعها حتى المساء محفوف بالمخاطر، لان الحزب وباقي الاجهزة الأمنية موجودون، يتخبطون في عمليات القتل العشوائي، الطريق الأبعد عن سيطرة الدولة هو ذاك الترابي المار بالأهوار، لابد من المخاطرة، بالتنقل عليه، وتجنب الخوض بمجازفات الدخول الى العمارة.
يبدأ كريم الكلام بعد صمت:
- لقد تجاوزت الساعة الحادية عشر ليلاً، لن ننعم برغيف خبز حار وكوب شاي من يد الوالدة، لانها تغفو مبكراً، وأنا لا أفكر باقلاق منامها عند انتصاف الليل.
يجيبه سالم:
- لندخل الهور، ونختار فسحة بين القصب، نركن عندها السيارة، وننام داخلها، ونكمل مشوارنا عند الصباح.
- هذا مستحيل، أنت لا تعرف أهل الهور، أنهم ينشطون ليلاً، يشمون رائحة الاغراب من بعيد، اذا ما عثروا علينا ونحن في وضع الاختباء، ستكون كارثة، لن يصدقوننا وان أقسمنا بكل ما موجود من أيمان في هذه الدنيا.
- اذن نواصل المسير والله الحافظ.
- هذا هو الصحيح، سنصل الى الناصرية حتما.
- قُل ان شاء الله ياشيخ.
- ونعم بالله.
الظلام يزداد شدة مع تقدم الوقت، وسيارة الباترول البيضاء هي الوحيدة على هذا الطريق الذي يتلوى وسط الهور مثل أفعى البحار. أطراف القصب النابت عند سطح الماء القريب من حافاته تحجب النظر، وتزيد من وحشة السير عليه. اطلاقات نارية متفرقة على بقايا نقاط حراسة تركها أصحابها، وانسحبوا عصر اليوم تبطئ السرعة، وكذلك البلل الباقي من زخات مطر عابرة يزيد من هذا البطئ المثير للوحشة، الموقف لا يخلوا من قلق يستنزف الذكريات، ويبدد الافكار المتبادلة بين صديقين لم يمضِ على تعارفهم خمسة عشر ساعة، كأنها خمسة عشر عاماً.
الظلام والقصب العالي القريب يحصر ضياء السيارة بحزمة ضيقة توصله مسافة أبعد باتجاه الامام، والهدوء غير المسبوق يُسكتهما لحظة عن تبادل الكلام.
يتدخل سالم منبها:
- هناك اشخاص على الطريق.
يخفض كريم السرعة قريباً من الوقوف.
- أعتقد أنهم من عشائر المنطقة، خرجوا بقصد الانقضاض على مفارز العسكر ونقاط الحراسة أو لاقتناص الفرص، لا أحد يعلم مقصدهما في هذه الساعة.
يتحرك سريعاً لوضع العلم الاخضر في مكانه أعلى المرآة الجانبية، جواز مرور في مكان اختفى فيه العسكر عن الانظار، لا مجال للاستدارة عكس الاتجاه، ثم ان الوقوف فيه نسبة نجاة تفوق التراجع، أمام أربعة رجال يشهرون سلاحهم صوب الضياء العالي للسيارة الحكومية.
القاء السلام بلهجة يتقنها كريم لأهل المنطقة من طفولة عاشها بالچبايش، تخفف من صولتهم. يردون السلام بعصبية. يوجهون فوهات بنادقهم صوب كريم وسالم في آن معا، وقبل ان ينطقوا بكلمة أخرى غير السلام، بادرهم كريم بسؤال يعرف أهميته:
- يا جماعة الخير أين مضيف الشيخ راضي.
الشيخ المذكور يعرفه كريم، شيخ عموم آل جويبر، ويعرف أن لا أحد يتجرأ على التجوال في مناطقه مسلحاً دون الانتماء الى بطون عشيرته الممتدة على طول الهور وعرضه. ينزلون اسلحتهم حال سماع اسم الشيخ.
يتقدم أثنان صوب كريم الواثق من نفسه، يسألونه:
- وماذا تريد من الشيخ في هذا الوقت المتأخر من الليل؟.
الشيخ راضي يقصده كثيرون من داخل الهور وخارجه، لصيته المعروف بعمل الخير.
يستغلها كريم قائلاً:
- لدي توصية من السيد في البصرة.
يمد يده في جيبه، يخرج الورقة التي كتبها السيد في جامع الجمهورية دعماً لموقفه عند المجاهدين، ممهورة بختم واضح، لا يميز تفاصيله المسلحون الاربعة، لانهم أميون لا يفقهون الخط، وبعد أن أطمأنوا له سألوه:
- ما أخبار البصرة؟
- انها بخير، انتهى فيها حكم الظالم، وفر البعثيون، وسيطرنا على كل المقرات الحزبية والحكومية.
يجيبون:
- أهلا بكم. من أي عمام أنتم؟.
بادر كعادته في الرد السريع الذي لا يعطي مجالاً لمن يسأل بالتأويل:
- نحن يا ابن العم من آل ازيرج.
عندها أزدادوا اطمئناناً لتحالف هذه العشيرة مع عشيرة الشيخ راضي.
بادرهم بعرض وجهة نظره:
- سنحاول ايصال الرسالة الى الشيخ، ثم نتجه الى الناصرية، لايصال رسائل أخرى الى المجاهدين فيها، لغرض الانتفاض واللحاق بالبصرة، مستدركاً بذات اللهجة:
- البصرة ليست أحسن منا.
فتلقى عندها ردود ايجابية انفعالية، واهزوجة تمجد بالناصرية وآل ازيرج...... ومن بعدها عرض مغرٍ للمصاحبة الى الجبايش حيث يقيم الشيخ راضي.
فيرد:
- شكرا لكم أولاد العم، أعرف دروب الجبايش، ثم ان الأمر الذي جئنا من أجله سري، وتدرون عيون البعثيين مفتوحة بالمنطقة، فلابد والحالة هذه المحافظة على سلامة الشيخ الله يطول بعمرة.
يتحرك أمتار، يتنفس الصعداء. يتكلم مع صاحبه بجرأة:
- الحمد لله، لقد تخطينا عقبة صعبة، أقل ما فيها أخذ السيارة وتركنا نتخبط وسط القصب والبردي نجتر خيبتنا لما تبقى من الليل.
- الحمد لله، نيتنا صافية.
الليل يهبط على الجبايش مبكراً، كل من فيها يعود الى داره، يغلق بابه، بصيص نور من فوانيس متفرقة، يتهيأ اصحابها لحراسة مواشيهم وممتلكاتهم، فعمليات السطو تضاعفت مستويات حدوثها منذ ايام، الطريق منها الى الفهود مشابه لما قبله، الشرطة غابت عن المدينة، والعسكر تقوقعوا في معسكراتهم البعيدة، أوقفوا الكمائن التي اعتادوا اخراجها يومياً، وسحبوا نقاط الحراسة والدوريات الثابتة على الطريق.
جسر اللعويسة الذي قُصف يوم امس، لم يعد يصلح للاستخدام الآلي الا بصعوبة تطلبت ان يترجل سالم من السيارة، ليؤشر مرة، ويضع صخرة في جوف الحفرة مرة أخرى، وبهدوء استغرق ربع ساعة عبرت فيه السيارة بسلام، لتنطلق بسرعتها الدارجة نحو الناصرية، فالساعة الآن جاوزت الواحدة بعد منتصف الليل.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/43672-2020-03-22-07-21-24.html
372 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع