تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء التاسع
أستباحة مستشفى
- سالم، أين هي اصابتك؟ ... أنا قلق عليك.
- لا تقلق، انه جرح في الفخذ، مازال ينزف.
- أصمد، سنجد لك طبيبا في الحال.
- اين هو الطبيب في مثل هذه الظروف؟.
المستشفى العسكري ليس بعيد، يتوقفان في مواجهتها، شخص يحمل كرسياً لطبيب اسنان، آخر يتشارك مع أخيه في حمل سرير مخصص لجرحى قتال، عربة يجرها حمار تحمل جهاز اشعة، أطفال يلعبون بادوات تشريح، صدريات أطباء وممرضين متناثرة في كل مكان، بضاعة عرف تجار السلب انها غير مربحة، فتركوها في الممرات وعلى الارصفة تدوسها الاقدام، طوابير تدخل متوجسة وأخرى تخرج باسمة بما تحمله من غنائم الطب المطلوب اعادته الى ايام الحجامة والكي بالنار.
تَدمعُ عينا كريم، يتخيل هذه المستشفى التي أنقذته يوم أصيب بشظية في بطنه عام 1987، يتذكر اسماء الجراحين المرموقين، يقلق عليهم ثروة بلد لا يمكن تعويضها، يضع رأسه على مقود السيارة، يضربه بشدة، يصرخ باعلى صوته:
- لماذا؟.
يتحرك مبتعداً عن منظر لا يسر عدواً ولا صديقاً، يحاول سالم تهدئته قائلاً:
- الدكتور حميد طبيب عام، بيته في آخر الشارع الذي أسكنه، يمكننا مراجعته، فهو معروف بتعاونه ومساعدته أهل المنطقة... دعنا نتوجه اليه في الحال.
الدكتور حميد، مذهول بوقفته في الباب، يتفرج على أحمالٍ تنقل الى البيوت، وأعلامٍ تُعَلق على البيوت، مصدوم بما يجري، وهو المستقل غير البعثي المعروف بوطنيته ومساعدته الفقراء من أبناء حيه العريق.
يلمح سالم قادماً، يبادره بالقول:
- نعم سالم ما الآمر؟.
شاهدَ الدم يغطي السروال، لم ينتظر الاجابة، سارع بفتح الباب قائلاً:
- أدخلوا بسرعة.
لم يسأل عن سبب الجرح، فأمره معروف، ومسألة اخفائه حدثاً عرضياً لسالم المشارك في الهجوم على الشعبة الحزبية والامن أصبح غير ممكناً، بعد تلذذ الجمهور بنقل الاخبار الخاصة بالانتفاضة بمتعة الفخر المعهودة وزاد على حقائقها وقائع تقترب من الخيال، يكتفى بالفحص ثم التنظيف، ومن بعده التضميد، يختم لفة الضماد الاخيرة بالقول:
- هل ما يجري صحيح؟. جعلونا ندمر بلدنا بأيدينا، الذي يجري الآن حرام، الله يستر من مستقبل يبنى على الحرام!.
نصف يوم قتال شاق، كأن وقعه دهراً من الزمان، احداثه كثيرة، خطيرة، ستطال آثارها آخر الزمان...الشمس مازالت مشرقة، والسماء صافية، ولفحة برد الخريف اللذيذة باتت واضحة.
بيت الحاجة رضية في القريب، الاطمئنان عليها واجب، بل حتمي بعد تأدية المهمة التي اعتقدها رداً على مقتل وليد وفقدانه أعز صديق.
باحة البيت مكتظة بنساء المحلة، القادمات للعزاء، مناسبة فريدة، لتداول أحاديث نصف النهار والتفتيش عن أسباب الوفاة، ومكان الدفن، واحتمالات جلب الجثة، وعن صديق اوفى بعهده بطلاً في الانتقام، وغيرها اسئلة تلهب قلب الام المكتوية بنار الحرقة، الطيبة الحنونة، المثالية في كدها المتواصل لتربية الابن والابنة الوحيدين لها في حياة غادرها الاب منتصف الثمانينات في معارك شرق البصرة.
الموقف مثير بالنسبة الى كريم عند دخوله البيت حاملاً انفعالات وقلق نصف النهار، يتعالى بدخوله العويل، بات الجميع يعرفون سيرته صديق وليد القريب، البطل الذي اسقط مركز الشرطة والشعبة الحزبية، ومديرية الامن، أخبارها وصلت قبل وصوله البيت، تخجله همسات النسوة الحاضرات، يؤكد أخذه الثأر ممن تسبب في مقتل أخيه وليد، ينحني على رأس الخالة رضية يقبّلها بدوافع الام.
تبكي بحرقة ونهنهة متتالية، فتأخذه في الحضن، وتشم فيه رائحة العزيز بطريقة اعادتها الى وعيها، لتبدأ نوبة نواح، كأن العبرات في داخلها قد تحررت من الاحتباس، فاطلقت بتحررها كل الانفعالات المكبوتة منذ الصباح:
- الهي يحفظ شبابك، ولدي العزيز، اتركنا لقدرنا، اذهب الى أهلك في الناصرية، والدتك تنتظرك مثلما انتظرتُ وليد اياماً بلياليها، لم يغمض لي جفن، كأني عالمة بالنهاية، لا تزيد وجع أم انتظرت طويلاً، ولا داعي للبقاء في هذه البصرة التي شعلنا فيها ناراً، اخاف من حرقة سعيرها... أنت ما تبقى لنا في هذه الحياة. الجميع في هذا الحي الفقير يتكلمون عنك، والدنيا ليست آمنة، عليه لا اريد بقاءك يوم آخراً، ولا ساعة أخرى، تعودّتُ ان لا أطمئن لردود فعل الماشين في الظلام بعد منتصف الليل، فقررت انهاء العزاء هذا اليوم بعشاء على روح المرحوم، لقد حرمونا تأدية العزاء، تباً لدنيا رضعنا ألمها صغاراً، ومضغنا بؤسها في الكبر، تباً لحياة تشهد فيها موت الولد الوحيد مدفوناً في مكان بعيد، آه من عيش بلا ولد وحيد... اترك البصرة يا ولدي لتقلل وجعي.
تعاود تقبيله مرة أخرى، كأن وليد دخل البيت من جديد.
فرد عليها:
- خالتي، أمي العزيزة، سأذهب لاقلل وجعك فقط، سأذهب بعد انتهاء واجب العشاء الخاص بالمرحوم، سأترك البصرة، ساعود اليها في القريب، ليس لي في هذه الدنيا سواكم، وليس لكم سواي، ساغادر بعد العشاء، أطمئني سانفذ رغبتك لاقلل وجع أحسه يسري في جوفي العليل.
الابنة المدللة أمل بنت السادسة عشرة، لم يمض على اشتعال جذوة شبابها وقت طويل، تقف جانبا منطوية على ذاتها الموجوعة، يقطر منها الحياء، يرهقها البكاء بصوت مدلل ناعم، ترك على خدودها اللطم المستمر منذ الصباح، بقعاً حمراء، ضفائرها انفكت، تناثر شعرها بغير انتظام، كانت تنتحب بحرقة، تغسل دموعها الآلام، لا تستطيع الجلوس في مكانها... تتجه الى غرفة العزيز، كأنها تفتش عن شيئاً ثميناً او تتفادى النظر الى كريم، لا تفرق بين الحالتين، تدخل مسرعة، وتخرج مذعورة، تستمع الى توسلات امها فيما يتعلق برحيل كريم، تعبر عن تناقض الافكار والتمنيات بصرخة جلبت انتباه الحضور من النسوة اللواتي يتعاطفن معها، أخت الشهيد.
للراغبين الأطلاع على الجزء الثامن:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/42657-2019-12-24-19-32-44.html
315 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع