تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء الخامس
إسقاط جدارية الرئيس
الثاني من آذار 1991، يتوقف المطر عن النزول، ايذاناً باشراقة شمس وزعت اشعتها المنكسرة على ارصفة الطين البصرية، رتل الماشين على طريق الكويت البصرة مستمر، كأن الحج قد انتقل بطقوسه على هذا الطريق، ساعته السابعة، بداية تقليدية ليوم جديد، عُدَّ مثل الايام الخمسة التي سبقته، لا بداية لها ولا نهاية.
ساحة سعد، نقطة الالتقاء الجغرافية لهذا الطريق، بآخر يؤدي الى العمارة، الكوت ومن ثم بغداد، أصبحت بحكم موقعها، الملتقى الاول لجموع عسكر مازالت تنسحب، وما زالت اعدادها بازدياد، أختلط جل افرادها بباعة الوجبات السريعة من عربات خشبية يسحبونها بانفسهم، وبالمحتاجين والسراق، وتجار الحروب.
يقف أمام سيارته الخاصة بالحمل في ركن الساحة الشرقي، موسى رمضان بلباسه العربي الجنوبي، تنبعث من داخله هزة أنتشاء لا يعرف سببها، وبجانبه شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة، قريب الشبه من هيئته العامة، كأنه الابن البكر، إنسان حذر يتلفت بكل الاتجاهات، يرصد بقايا أمن عسكري قد يداهموا المكان، يقتنص من يود التخلص من سلاحه، بيعا، لم يحدد سعرا قطعيا للسلاح المطلوب، يتركه لحالة العسكري البائع، بعد ان كون خبرة معرفية جيدة بنفوس المنكسرين الساعين لنقل اهانة شخصية، يحسونها من نتيجة الحرب الى اهانة عمدية لسلاح لم ينفعهم ما بعد الحرب، ولدولة لم تنصفهم أوقات السلام وفي زمن الحرب، يدفع في الغالب لكل بائع سعراً مختلفا، بعد ان يفاصله على انفراد، في هذه الساعة المبكرة من النهار امتلأ نصف حوض سيارته بنادق ورشاشات، وما زال يفاصل القادمين طالبا المزيد.
تجلس في الركن الآخر من الساحة، أمرأة اربعينية، بوجه مدور، موشوم بعلامات متفرقة فوق الحنك، تلف على خصرها عباءة تلوثت أذيالها بالوحل الاسود الثقيل، تحتكم على خمسة أوعية من البنزين المحسن، في كل وعاء عشرة لترات، سعرّت اللتر الواحد بثلاثة دنانير، تفاصل بثقة، لا تقبل التنازل عن هذا السعر الذي يعادل في قيمته المدفوعة ثلاثة او اربعة بنادق في سوق موسى الشعبي، متأكدة انها ستبيع بضاعتها التي تعي الحاجة اليها اكثر من السلاح الذي لم يعد نافعا في حماية البلاد، تترصد دخول عدة سيارات قادمة من محافظات العراق الاخرى، متيقنة انهم سيدفعون المبلغ المطلوب للحصول على البنزين اللازم لاكمال مهامهم في السؤال والتفتيش، تنادي ولدها ذو الثمان سنين:
- عباس، خذ هذا الوعاء واذهب صوب السيارة البرازيلي التي دخلت توا الى الساحة، عل سائقها يسأل عن البنزين، لا تنسَ أبدأ بأربعة دنانير للتر الواحد، واذا رأيته يمتنع أنزل الى الثلاثة كآخر سعر، تحرك دعني أرى شطارتك.
الساحة تغري الجالسين والواقفين على متابعة الانشطة المتعددة بمتعة التشفي من رمز أوصل بلادهم الى الحضيض.
من بعيد تمرق في الشارع القادم من الزبير دبابة مسرعة، تترك خلفها فتيلا من غبار الطريق، أنتبه الى صوت محركها واحتكاك سرفها بالارض الجمع الغفير، يلتفتون الى منظرها المثير، لا احد يصدق قدومها وطائرات الحلفاء لا تستثنِ في صيدها آلية تتحرك على الطريق.
موسى يتجه الى القريبين منه، يستعرض معرفته بالسلاح، ليقوي موقفه في المساومة:
- انها دبابة روسية تي 72.
يسأل أبنه:
- لماذا هي هنا في هذا الوقت المبكر من الصباح؟.
وبقصد تلطيف الاجواء وتخفيف القلق عن المتواجدين من حوله، يكمل حديثه:
- ساشتريها اذا ما رغب سائقها في البيع، سأعطيه مائة دينار، لا سأوصل المبلغ الى ثلاثمائة دينار، اذا ما كان خزان وقودها ممتلئ.
البعيدون عن موسى، وغير العارفين بالدبابات يعيشون لحظات ذعر، عندما تخيلوها واحدة من دبابات معادية دخلت المنطقة لاكمال احتلال العراق، واستمروا في تخيلهم سبل الهروب من مواجهتها، سائقها الذي نجح في إيصالها سالمة من حفر الباطن الى ساحة سعد، لم يترك مجالا لاكمال نسج القصص الخيالية، عندما دخل بها الساحة مسرعا، موجها مدفعها الطويل صوب الجدارية الخاصة بالرئيس الموشح باوسمة منحها لنفسه، يطلق آخر اطلاقة بقيت من معركة لم تنفع فيها الاطلاقات، وكأنه احتفظ بها لهذا اليوم الموعود، يدعس ما تبقى من طابوقها المهشم بسرفة يتعالى منها الضجيج، اضحاها ركاما، وأضحت فكرة وجودها رمزا للانتصارات الموهومة عدماً، وجعل الحواجز النفسية التي بُنيت بين الرئيس والشعب طوال اثنتين وعشرين عاما مجردة من معناها الموهوم.
يصفق الحضور، يهتفون بحياته كأشجع الجنود العراقيين، يتناول موسى بندقية اقتنصها توا من عريف في لواء المشاة السادس والثلاثين، يطلق في الهواء ثلاثين اطلاقة كل ما موجود في مخزنها، يقلده الابن، بنفس الاتجاه، تتعالى الاصوات المؤيدة، يترجل السائق من دبابته تاركا محركها يدور، ومدفعها مصوبا باتجاه العاصمة بغداد، كأنه يبحث عن أحد من رواد الساحة ليكمل مشوار بدأه لمعاقبة حكامها القابعين في قصورها العديدة.
يدخل الجندي المرهق بين الجموع المشدوهة، ملوحاً بيديه، يضيع وسط زحام الجنود، تنتقل الاشاعات عن واقعته بسرعة، وتنقلها قليل من وسائل الاعلام، ينتشر الخبر في عموم البصرة انتشار النار في الهشيم، بطل يفتش عنه الجميع يسألون عن سر اختفائه، يتمناه البعض معه في هذه المحنة التي لم يعرف لها مآل.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/41629-2019-09-16-09-50-58.html
384 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع